نحن نتغطى بلحاف أرمني

داود الفرحان

في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي كانت تسكن بجوارنا حائطاً لحائط أسرة أرمنية كانت قد هاجرت من أرمينيا ثم تركيا الى العراق بعد مذابح الارمن الشهيرة. عائلة بسيطة متواضعة تزرع حديقتيها الامامية والخلفية بالباميا والفلفل والطماطم والباذنجان اضافة ً الى التين والبرتقال والعنب والمشمش والزيتون، وتربي في جانب من الحديقة مجموعة من الدجاج التي كنت استيقظ كل صباح على صياح ديكها النشيط الجميل.
وللاسرة جدة طاعنة في السن محدودبة الظهر تتحدث العربية بشكل متكسر لكنه يفي بالغرض. وكانت هذه العجوز تتحدى الزمن فتستيقظ مبكرة لإطعام الدجاج وجمع البيض من الاقفاص وسقي المزروعات. وكثيراً ما سمعت تلك الجدة تحدث المرحومة والدتي عما تعرض له الارمن من مذابح وويلات وانهم لم يعرفوا السلام والامان إلا في العراق في تلك السنوات.
ومن ذكرياتي عن هذه الاسرة الارمنية انها كانت تُرقع شراشف النوم واللحفان بعشرات القطع من الاقمشة غير المتجانسة، وهي من الملابس المستعملة التي لم تعد تصلح للاستخدام. وكنا نبرر ذلك بفقرهم المالي أو حرصهم على الاستفادة من كل شيء. وقرأت قبل فترة ان فن ترقيع اللحفان والشراشف صار فناً مهماً من الفنون التشكيلية يطلق عليه اسم “الباتش وورك” وهو فن معروف في حضارات العراق ومصر القديمة حيث كانوا يصنعون الاغطية عبر خياطة رقع مختلفة من الاقمشة وجلود الحيوانات وإلصاق بعضها مع بعض لتدبير لحاف جديد يتم حشوه بالقطن أو الريش ليحميهم من البرد. ويبدو ان الكيانات السياسية في بلاد فسادستان معجبة  بفن “الباتش وورك”، ولذلك فان كل واحد من هذه الكيانات يشبه لحفان تلك العائلة الأرمنية، من كل حزب “وصلة” بحيث صار كل كيان أو ائتلاف أو تحالف “زرق ورق”!.

كانت تلك الاسرة هي معلوماتي الاولى عن الارمن في العراق الذين يعود تاريخ وجودهم فيه الى قرون عديدة، وقد أنشئت أول أبرشية للارمن في البصرة عام 1222، وتوجد أقدم كنيسة لهم في بغداد وهي كنيسة مريم العذراء التي تم بناؤها عام 1636 خلال حكم العثمانيين، لكن أكبر موجات هجرة الارمن الى العراق كانت في بدايات القرن العشرين بعد المذابح التي أرتكبت ضدهم في أرمينيا.

ومثل ملايين من العراقيين اضطر الارمن الى الهجرة من العراق في سنوات الاحتلال الامريكي بسبب الاوضاع الامنية المتردية فهاجروا الى سوريا والاردن وأرمينيا والسويد كما قُتلت منهم سيدتان في تشرين الاول 2007 في بغداد برصاص شركة امنية استرالية تعمل مع قوات الاحتلال. ويبلغ عدد الارمن في العراق اليوم حوالي عشرين ألف شخص. وتوجد لهم مقبرة خاصة ولهم عدة كنائس تعرض بعضها الى التفجير خلال سنوات الاحتلال. إلا ان المعلومة التي يعرفها قليلون هي وجود أرمن مسلمين بالاضافة الى الارمن المسيحيين، وهم أولئك الذين لجؤوا الى العشائر العربية بعد المذابح الخارجية وأعلنوا إسلامهم.

من الأرمن المهاجرين البارزين آرا وارتكيس ترزيان الذي هاجر منذ سنوات طويلة الى بريطانيا وتجنس هناك وكان قد ولد في بغداد عام 1960. وكانت اسرته قد هاجرت الى العراق مع الوف الأسر الارمنية في عام 1915 حيث استقرت وعملت وتجنست بالجنسية العراقية وتمتعت بجميع الحقوق التي يتمتع بها العراقيون، وفرحت مع أفراحهم، وما أقلها، وحزنت مع أحزانهم، وما أكثرها.

بعد ان أنهى آرا وارتكيس دراسته الثانوية في بغداد رحل مع أسرته الى ايرلندا واقام في دبلن حيث درس الطب وأصبح رائداً في نوع من العمليات الجراحية الجديدة والمعقدة، وحصل على لقب سير وعمره 44 عاماً من ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية تقديراً لجهوده الانسانية والعلمية.

لكن القليل يعرفون ان هذا الطبيب العراقي الشاب آرا وارتكيس ترزيان شغل منصب وزير الصحة في وزارة ديفيد كاميرون السابقة في بريطانيا العظمى، وهو أول وزير في بريطانيا من أصل عراقي، ولعله أول وزير في العالم من أصل عراقي.

لو كان الدكتور آرا لم يهاجر من العراق ويأخذ فرصته التي يستحقها في بريطانيا لكان أصبح بائع باسطرمة في بغداد أو كهربائي سيارات أو بائع أدوات إحتياطية للاجهزة الكهربائية مثل كثير من الارمن.. فنحن نهتم للأسف باقدام الرياضيين أكثر من عقول العلماء وبالراقصات أكثر من الكفاءات، ولذلك نستحق ما يحدث لنا اليوم.. والبركة في لحاف العملية السياسية.

www.alnahdah.net

Share This