ترجمات قصائد للشاعر الأرمني زاريه خراخوني
ترجمة: مهران ميناسيان

Khrakhouni_01زاريه خِراخُوني

من مواليد العام 1926 في استانبول. اسمه الحقيقي أرتو جونبوشيان.

أنهى تعليمه الأساسي في العام 1945 وتابع دراسته في كلية الحقوق أولاً ومن ثمَّ تخرَّج من قسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة استانبول.

له العديد من المقالات والدراسات الأدبية والنقدية في الصحافة الأرمنيَّة. عمل في مجال الترجمة أيضاً وترجم الكثير عن الأدب الفرنسي المعاصر.

عمل فترة في مجال التعليم، وعمل في تحرير المجلاَّت الأدبيَّة وشجَّع العديد من الشعراء الشباب في خطواتهم الأولى.
حصد العديد من الجوائز الأدبية، وتُرجمت أعماله إلى عددٍ من اللغات، ولُحِّن بعضها وحوِّل إلى أغانٍ.

من دواوينه الكثيرة نذكر:

“قطرات حجريَّة”، استانبول، 1964.
“حديقة الأنوار”
، بيروت، 1968.
“ظل وصدى”، باريس، 1973.
“أنا والآخرون”، يريفان، 1982.
“دروب”، استانبول، 1987.
“حجارة أرمينية”، إتشميادزين (أرمينية) وبيروت، 1997.
“كالأزهار”، استانبول، 2000.

له أعمال مسرحية وبعض الأعمال النثريَّة أيضاً.

تسيطر الروح الفلسفية على قصائد خراخوني، وهو الذي يصوِّر عالم اليوم وهموم الإنسان المعاصر: مشاكل السلام العالمي، التطور العلمي، التآخي بين الناس والشعوب، الأخطار التي تهدِّد البشرية إلى آخرها.

* * *

أغنية رأس السنة

إلى المغفور له البطريرك شِنورك كالوسديان[1]

إذا حدث يوماً
أن جميع الرجال والنساء والأطفال – كل الناس –
العالم أجمع – أي خمسة مليارات إنسان
فتحوا الأبواب والنوافذ فجأة
وأفكارهم مضطربة وقلوبهم ثملة من رياح الحرية
ونزلوا إلى الشوارع والحقول والبساتين
وصاحوا بقوة، وبصوت واحد:
– السلام، السلام، السلام، أيَّها الإخوة…
إذا حدث يوماً على حين غرَّة
وكشف أهل المدن والقرى، الشيوخ منهم والشبان – كل الناس
أي خمسة مليارات أو خمسة مليارات ونصف إنسان
إذا كشفوا عن صدورهم لأصوات السلام ومزجوا نَفَسهم بها
ونزلوا إلى الساحة
ووضعوا أكفَّهم في أكفّ الآخرين وصنعوا حلقة دائرية
ورقصوا حول العالم – رقصوا وقفزوا بجرأة
وغنُّوا:
– السعادة، السعادة، السعادة، أيَّها الإخوة…

ومن ثمَّ
من السابعة إلى السبعين وأكثر
الكبار والصغار، الشبان والفتيات – كل الناس
ربما ستة مليارات إنسان
أرواحهم مليئة ببحار السعادة وعينونهم طافحة بها
إن ركضوا مادين أيديهم
وعانقوا من رأوا أمامهم،
عانقوهم ثملين بالحب – واحتفلوا بذلك العيد الذي لا ينسى
وصاحوا:
الحرية، السلام، السعادة، أيها الإخوة…

آه، حقاً، حينذاك،
سيكون عيد رأس السنة ملكاً للجميع وفي كل يوم.

***
هذه الشجرة المقدَّسة

ازرعوا شجرة، أيُّها الإخوان،
ازرعوا شجرة بلوط ودُلب وشوح،
ازرعوها في البساتين والحقول
ازرعوها على الجبال والصخور والأحجار،
ازرعوها في مزهريتكم العادية
أو على طاولتكم اليومية،
ازرعوا شجرة وتأكَّدوا من أنَّها ستعيش.
عندما يتفتَّت الصخر يتحوَّل إلى تراب،
أليس كذلك… ؟
إذا كان تراب المزهرية قليل، ففخَّار الفاخوري كثير.
وكأن الطاولة خشبة يابسة
أقولها لك، بأنها كانت خشباً في الماضي، والخشب كان شجرة
من أين تعلم أنَّ الخشب اليابس لا يثمل
من مِصْل الصنوبر النضر الموضوع عليه ؟
ولا يلتفُّ حول الجذور الفتية الرطبة
ولا يغرز قدميه في التراب.
ترى، ألا يتحوَّل هو الآخر إلى جذر… ؟

ازرعوا شجرة، إنَّها ستعيش حتماً أينما زرعتموها
بفترة إنتظار بحجم قرن من الزمان وبرغبة جانحة وغير ممكنة
فالأرض خصبة – والرياح فخورة بنفسها – والمياه ساكنة
وغزيرة كالدماء التي سالت والدموع التي سقطت،
وهذه الشجرة المقدَّسة ستنتصب، ستكبر وتزهر
وستصعد إلى السماء،
وفي كل صباح، ومع إشراقة النور
ستصل ظلالها إلى الجبل الكبير
وستبسط ظلالها على الحقول المشمسة
والمتموِّجة بأطياف الذهب
وستمنحها ألف تحية وألف خير الغيوم الآتية
من أطراف العالم،
وتداعب أوراقها الخضراء دائماً والطاعنة في السن…

آه، ازرعوها،
واعتنوا بها بأياد قوية
وزيِّنوها
وحافظوا عليها،
واسجدوا لها
إنهَّا شجرة الحرية…
علينا أن ننظر إلى الأشياء عن قرب،

***
فكل شيء بسيط من بعيد،
فالشجرة شجرة والغصن غصن
وإن هبَّت الرياح تمايلت…

لكن من قريب
كم من الجراح على جذعها الذي يبدو خشناً،
كم من الجراح العميقة
وكم من الكسور والتمزُّقات والثقوب
وكم من الأغصان التالفة والفروع المتساقطة
والبراعم الجافة
وكم على جذعها من الطفيليات التي تحوَّلت إلى مستحاثات،
وكم من النبات والفطر والطحالب المتحجِّرة
وقد عشَّشت في شقوقها وفتحاتها
كزينة للتجاعيد التي تفطِّر القلب

ومع ذلك فالشجرة تتراقص مع الرياح
وتغنِّي مع العصافير.
هكذا تظهر من بعيد.

في حين
هي واقفة ببسالة،
صدرها مفتوح أمام أنواع الضربات
واقفة أمام الثلوج والرياح والأعاصير
واقفة باستقامة وشجاعة
لأنَّ جذعها قوي وثابت
وجذورها راسخة.

***
ثمَّ

لنكن كالجموع – ونفعل كل شيء
لنصفِّق مثلهم – لنطعن بأرجلنا معهم هذا أو ذاك
ولنلقِ المحاضرات ونتوسَّط من أجلهم جميعاً،
ولنرفع أصابعنا ونوجِّه الأسئلة بحضور الآخرين
ولا نفهم منهم إلا الضجيج،
ومن ثمَّ نجلس ونتأمَّل وحيدين.

لنفتح قلوبنا للجميع
ونوزِّع أنفسنا للآخرين كالخبز قطعة قطعة
لنتقاسم آلام الآخرين – ونسرد لهم همومنا
ونعرِّض أنفسنا للسعات الابتسامات المهينة لهذا أو ذاك
ومن ثمَّ نتألَّم ونتحمَّل كل ذلك وحيدين.

لنفتح أحضاننا للحشود
ونلقِ بأنفسنا في أحضان الجماهير بسرور من يلقي بنفسه في البحر
لنسر ونصرخ معهم – لنحسَّ بأنفسنا أقوياء مثلهم – ونتملَّق أمامهم ونرتجف
وبالكاد نخلِّص أنفسنا من خطر الانسحاق
ومن ثمَّ ننزوي ونبقى وحيدين.

لنمدَّ أيادينا إلى العالم،
لنتآخَ مع الغريب، مع الآتي والعابر
لنفتح أبوابنا للقريب والغريب كما تُفتح المائدة والروح،
لنحبَّ ونمنح بإسراف
في حين نرى بأن الكل يريدون المجيء إلينا ليحكموا علينا.
وحينئذٍ نحزن ونبكي وحيدين.

ومن ثمَّ…
ومن ثمَّ نتوجَّه إلى الجميع
ونصلِّي
وحيدين.

***
واحد من الألف

واحد للألف،
وأربعة ملايين… لأربعة مليارات،
إنَّها… نسبة تافهة
إنَّه استثناء عادي
وخطأ طبيعي
ضمن الأعمال العديدة لعالمنا هذا
وخلال السير العادي لهذه الأعمال

ألف انتصار وانتصار، ألف هزيمة وهزيمة،
مجد وفخر، سقوط، مذابح وأَسرُ،
تاريخ مكتوب كل سطر منه
بالدم المقدَّس والدمع المتلألئ بالنور
وفي النهاية،
على كل حال…
إنه وجود لا قيمة له

كم من الألفيات عشناها
ببراهين الأحجار والأحرف فقط
عشنا سبعة وعشرين قرناً من السنين
مصير صعب، إرادة في الحياة وصراع بقوى غير متوازنة
تضحيات بلا حدود وعذاب بلا جدوى
عداء وكراهية لا رجوع عنهما
وفي النهاية
سؤال بسيط يطرح نفسه – إلى أين وصلنا ؟
هل نحن موجودون – وما هو عددنا إن كنا موجودين ؟
نحن الواحد من الألف،
نحن الواحد من الألف فقط،
تماماً
مثل نترون الذرة،
مثل العبقري النادر،
مثل الماس عزيز الوجود،
ومثل السمُّ الذي يُحقن كدواء
وكتلك المادة التي يوضع القليل منها
كي تلصق آلاف المواد والمعادن ببعضها.
إننا نشبه تلك المادة تماماً.
نحن هو المنجم السحري والضروري الذي
يضاف إلى النار المتأجِّجة للكون
بنسبة الواحد إلى الألف.
نحن هو…
نحن هو من يهب الطعم والرائحة الخاصتين
للمائدة الكبيرة للمأكولات والتي هي العالم،
هو العالم بأفراحه وأتراحه،
نحن هو الذي لا يكون أبداً لقمة للآخرين،
ولا يكون ضحية هذا أو ذاك
ويبقي قوياً – طرياً.
نحن هو ورق الغار الذي
تم اختياره من بين ألف ورقة،
واستُعمل مرة واحدة من بين ألف استعمال،
نحن هو… ورق الغار.

***
الغروب

في حين يزداد الغروب جمالاً، يموت من حوله كل شيء
وعندما يموت الغروب يزداد من حوله كل شيء جمالاً،
الغروب يموت مثل كل الأشياء الجميلة،
الغروب جميل مثل كل الأشياء التي تموت
الغروب جميل جداً لأنه يموت
الغروب يموت سريعاً لأنه جميل

***
دون شبيه

ليس هناك قطرة تشبه الأخرى،
من المستحيل إيجاد
ورقتين أو حشرتين أو حجرتين
أو زهرتين أو قمرين أو غيمتين
شبيهتين بعضهما ببعض تماماً.

في داخل العالم وخارجه – في أسفله وأعلاه
ليس هناك شيء له شبيه تماماً بالمصادفة.

إذاً، لماذا ننتظر
أن نكون نحن الاثنين –
أنا الهوة العميقة
وأنتِ المرتفع العالي
– أو العكس –
أن نكون شبيهين
ونكون الشيء ذاته
كما النور في النور…

***
غير الممكن

حبَّذا لو جلستُ على غيمة بيضاء أكثر بياضاً من حصان الاسكندر
وتنزَّهت في السماء من كوكب إلى آخر،
ورأيت كيف يتمنَّى الجميع، النجمة أو الذرة
أن تعيش وتدوم إلى الأبد،
في حين يموت الزمن في نفسه كل لحظة.

إني أعرف حدود اللامحدود وقيود اللانهاية،
لكنَّني كنت أرغب في أن ينفض الكون الأعمى والمقيَّد شباكه بمعجزة
ويسير الرمح الذي سأرميه إلى الأعلى بلا نهاية
وأن تطول الدقائق التي أعيشها قروناً وقرون…

حبذا لو صارت حياتنا هذه رحلة طويلة – بطيئة
حبذا لو سارت كرتنا الأرضية الطيبة هذه بسذاجة
من عالم إلى آخر،
وحبذا لو رأينا كل يوم التهاب نجوم جديدة
ورأينا الخمود الهادئ والجليل لشمس هرمة…

***
الدروب

يا حبذا…
يا حبذا عندما نكون في القطار السائر من تحت الأرض
أو في القطار السريع،
أينما كنا – ومهما حصل
عندما نجلس جنباً إلى جنب، نحن الشبان والشيوخ،
نحن الفتيان والفتيات – الرجال والنساء،
وعوضاً عن قراءة رواية
أو جرائد مختلفة
أو بدلاًً من تصفُّح مجلة قديمة
أو النظر بعيون فارغة إلى الخارج كالأصنام،
حبذا لو تكلَّمنا حينها مع بعضنا بعضاً وضحكنا،
وابتسمنا إلى بعضنا ونحن نرسم صورتنا في عيون بعضنا،
وبأهدابنا أخمدنا النار المتأجِّجة في بؤبؤ عيوننا،
وأمسكنا أيادي بعضنا،
وقبَّلنا بعضنا كالحمامات
وأحببنا اللحظة الحاضرة واللحظة التي مضت،
وقسَّمنا فيما بيننا
اللحظة التي تهرب منا
وكل هذا
إلى أن نصل إلى محطة أحدنا،
وإلى حين نزول هذا أو ذاك
نزولاً… بلا عودة،
كل هذا بحركة حميمة
وبمصافحة تحرق اليد
بمصافحة مختومة بقبلة الوداع…

***
عيد ميلاد غير ممكن
إلى ذكرى أمي

كنت أريد
تسع شموع
كل واحدة منها عن عقد من السنين،
وكل واحدة منها مقابل حياة كاملة عاشتها،
تسع شموع،
حبذا لو كانت إحداها عن كل الخيرات التي
وهبتنا إيَّاها بأبِّهة ملكية،
وإحداها عن كل تلك الأشياء البسيطة والممتعة
التي لم نستطع أن نعطيها إيَّاها، ولم يخطر في بالنا إعطاؤها إيَّاها،
وإحداها عن كل الكلمات اللاذعة والمناسبة التي كان عليها أن توجِّهها لنا
لكنها… لم تفعل،
والشمعة الأخرى عن كل الكلمات العميقة والصافية
التي كنا نودُّ أن نقولها لها، لكننا ربما لم نجد الفرصة لذلك…
وإحداها عن كل الأعمال التي قامت بها أو التي لم تقم بها عمداً،
وذلك من أجل سعادتنا الحالية والمستقبلية وراحتنا،
ولتكن الشمعة التالية عن كل الذي رغبنا فيه، وفكَّرنا فيه، وخططنا له،
لكنَّنا لم نستطع فعله – ربما لم يسمح لنا الوقت بذلك،
ولتكن الشمعة الأخرى عن المسامحة والتضحية والخضوع الأبدي بلا شكوى،
ولتكن الأخرى عن التضحيات فقط، عن التضحيات الصغيرة الباهتة وغير االمنظورة،
التي أرغمناها عليها لسنوات عديدة، أرغمناها بلا رضانا،
ولتكن الشمعة الأخيرة عن عدم تحسُّرها على كل هذه التضحيات،
وهي السعيدة المبتسمة أبداً،
وعن تقبُّلها كل شيء بجبين مفتوح
وعن سماحها للحياة وعن كل ما أخذه الناس منها وذهبوا،
وعن حبها للحياة والناس دون أن تنتظر شيئاً مقابل ذلك…
تسع شموع،
كل واحدة منها عقد من الزمان أو حياة كاملة،
كنت أنوي أن أصفَّها على كعك عيد ميلادها
وأشعلها الواحدة تلو الأخرى وأقدِّمها لها،
كي تطفئها جميعاً دفعة واحدة-

لكن ثمة ضيف – ضيف مدعو دائماً،
ضيف سريع الحركة وذو جناحين
ولا يعرف ما هو الوقت وما هي المواعيد،
سار إلى الأمام، وبدلاًً من إطفاء الشموع
أطفأ روحها بطرف جناحه المكوَّن من الغيم والريش
ومضى…

________________________________________
[1]- قام سيادته بترجمة هذه القصيدة إلى الإنكليزية شخصياً وألقاها في المؤتمر العالمي للسلام “الناس والأديان” المنعقد في وارسو (أيلول 1989. حاشية المؤلِّف).

Share This