أزمة العلاقات التركية – الفرنسية، وانعكاساتها على العلاقات التركية “الإسرائيلية” !

بقلم: د. عادل محمد عايش الأسطل

أزمة كبرى في العلاقات بين تركيا وفرنسا، على خلفية استصدار مشروع قانون من قبل مجلس النواب في البرلمان الفرنسي، بشأن ملف الإبادة الجماعية للأرمن، يتضمن الاعتراف الفعلي لإبادة الأرمن، وبأنها مذبحة ارتكبت في ماضي الدولة العثمانية، حيث يعاقب من خلاله، أي شخص ينكر حالات الإبادة الجماعية، والذي ينص على السجن عاماً واحداً وغرامة 45 ألف يورو، بحال ثبوت إنكار أي مجازر يعترف بها القانون.

وكانت اعترفت الحكومة الفرنسية منذ حقبة “جاك شيراك” في عام 2001، بالمجازر الأرمينية المرتكبة، فيما بين عامي 1915 و1917 في ظل السلطنة العثمانية، والتي أدت إلى سقوط أكثر من مليون قتيل، بحسب شهادات أرمينية، ولكن ليس في شدة مشروع القانون هذا، الأمر الذي أثار حفيظة وسخط تركيا، حين قامت باستدعاء السفير الفرنسي في أنقرة، احتجاجاً على القانون الجديد الذي لا يمت للواقع بصلة.

وكانت تركيا قد قامت بعدما استنفذت كل السبل المتاحة، بغية ثني الجمهورية الفرنسية، دون طرح قانون المشروع، إلاّ أنها كما يبدو فشلت في تحقيق ذلك، مما حدا بها إلى تكرار نكرانها للإبادة الجماعية من جهة، وقامت بشن هجومات مختلفة، وحذرت بتبعات دبلوماسية واقتصادية من شأنها أن تطال جميع الجبهات والمحاور الرئيسية بينهما من جهةٍ أخرى، ما أثار أزمة خطيرة في العلاقات بين البلدين، اضطرت “أردوغان” إلى الإعلان عن قطع العلاقات التركية مع فرنسا، وتعليق جميع العلاقات الاقتصادية والعلاقات السياسية والعسكرية والملاحية وغيرها، بالإضافة إلى قيام الوزير التركي للشؤون الأوروبية “آيدجيمين باشيس” بوضع قائمة بالتدابير العقابية التي قد يعتمدها كل مواطن تركي بحق فرنسا، احتجاجاً على ما وصفته “بالخطأ التاريخي وغير المقبول والخطير” من جانب النواب الفرنسيين.

وكانت دعت تشكيلات نقابية وحزبية تركية مختلفة، فرنسا، إلى التفكير في أخطاء ماضيها الاستعماري في أفريقيا وخصوصاً في الجزائر، عوضاً عن “إصدار أحكام تتناول وقائع تاريخية، ودعت إلى التخلي عن القانون “غير المقبول” الذي صدر بالأغلبية الرئاسية من البرلمان الفرنسي.
وعلى أية حال، فإنه دائماً وحين يُراد البحث، في مثل تلك المسائل فلابد من أن يتكفل بها الباحثين والمؤرخين، وليس السياسيين كما هو الحال في بعض الدول وخاصةً فرنسا، وعليه فمن البديهي القول، بأن هناك أهدافاً وأغراضاً سياسية، ترغب فرنسا في الحصول عليها، وفي هذا الوقت بالذات، بالرغم من معرفتها مسبقاً بحجم الرد التركي كماً ونوعاً، لاسيما وسبق أن فعلت تركيا، نفس الشيء من الاحتجاج والمقاطعة، اتجاه عددٍ من الدول وخاصة مملكة السويد، بعد أن قام البرلمان السويدي، بتمرير قرار يُلقي بمسئولية مذبحة الأرمن، على يد الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى.

ومن هذه الأهداف: تحجيم الدور التركي الذي بدأ بالتنامي سياسياً واقتصادياً حول دول المنطقة، والخشية من نتائجه المستقبلية، لا سيما في ضوء الربيع العربي، الذي يتجه نحو أسلمة الأنظمة العربية، على غرار النظام في تركيا، الأمر الذي تخشى عواقبه سياسياً واقتصادياً.

وأيضاً للتمهيد إلى إحداث وقيعة بين أرمينيا وتركيا، وإشعال العلاقات توتراًُ من جديد، لا سيما وأن جمهورية أرمينيا، كانت رحبت من فورها بالقرار الفرنسي، حيث أعرب وزير خارجيتها “إدوارد نالبانديان” عن “امتنانه” للخطوة الفرنسية، وعليه فإنه والحالة كذلك ستزيد الخطوة الفرنسية، من الشحن العدائي بين البلدين من جديد، بعد التحسن الذي طرأ على العلاقات بينهما، حينما تم التوقيع على اتفاق “خارطة الطريق” في العام 2009، للتوصل إلى بناء علاقات جيدة بينهما، عن طريق إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية بين البلدين. لا سيما وأن الاتفاقات بينهما، لم يتم حتى الآن التوقيع عليها، ويعمل حالياً على الاتفاقات الشفوية فقط، والتي يتضمن أهمها فتح الحدود بين البلدين، وهي خطوة من شأنها تحسين الوضع الاقتصادي لأرمينيا الفقيرة، وبالتالي إتاحة فرصة لتركيا بشأن قبولها في الاتحاد الأوروبي.

وكان شكل الرئيس الفرنسي “نيكولاي ساركوزي” هدفاً أيضاً، لانتقادات عنيفة من قبل الأتراك التي يتهمونه صراحة، بالسعي إلى استخدام مجازر الأرمن، لغايات انتخابية، تتعلق باستحقاق 2012 الرئاسي، سعياً لاستمالة وتأييد الأرمن الموجودين في فرنسا، والبالغ عددهم حوالي 500 ألف نسمة.

وهناك الهدف الأهم، وهو عرقلة المسعى التركي، الهادف إلى الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وقد بدا واضحاً، عندما رفض “ساركوزي” الرد على مكالمة هاتفية من الرئيس التركي “عبد الله غول” للتباحث حول الموضوع، لأنه وكما يبدو موقفه، أنه من بين أشد المعارضين، لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والذي كانت أنقرة دائبة السعي باتجاهه، طيلة الفترات الفائتة، ومنذ حكم العلمانيين، إلاّ أنها كانت تفشل في كل مرة، لوضع الكثير من العقبات والشروط، والتي من ضمنها الاعتراف بالمسئولية التركية، بما يسمى الإبادة الجماعية للأرمن، فمن شأن هذه الأزمة أن تمهد الطريق، حتى إلى إلغاء التفاهمات، التي جرت في الماضي مع الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد.

ومن غير شك فإن دول الاتحاد الأوروبي، مشتركة مع فرنسا للدفع في هذا الاتجاه، وربما تكون بمثابة الدافع الأكبر للخطوة الفرنسية، للقضاء كلياً على الآمال التركية في التوجه للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي.

وكان عقب “ساركوزي” بتأكيده على أهمية مشروع القانون، بقوله: “إن من المهم، أن تتحلى تركيا بالحس السليم، والوفاء بالالتزام الأخلاقي للتخفيف عن آلامهم ونضالهم من أجل بقية الاعتراف الدولي، في حين دعا وزير الخارجية الفرنسي “آلان جوبيه” تركيا، على عدم المبالغة في ردة فعلها، على الموافقة على مشروع القانون، وقال:”آمل أن أصدقاءنا الأتراك بأن لا يذهبوا بعيداً، في الرد على مشروع القانون، فلا يزال لدينا أشياء كثيرة للعمل عليها معاً”.

ومن جهةٍ أخرى كانت أحدثت هذه الأزمة، صداً واسعاً لدى “إسرائيل” لا سيما بحكم علاقتها الوثيقة بفرنسا والمتدهورة حديثاً مع تركيا، حيث رأت “إسرائيل” نافذة ومتنفساً لها، للتشفي من الصديق القديم والعدو الجديد، جراء مناهضتها سياسياً، في أعقاب عملية الرصاص المصبوب ضد قطاع غزة، ومن ثم قطع العلاقات معها لاحقاً، إثر الهجوم الإسرائيلي على السفينة “مرمرة” في عرض المتوسط، والتي ذهب ضحيتها تسعة من الأتراك المتضامنين مع القطاع المحاصر من قبل “دولة الاحتلال الصهيوني.

الأمر الذي من شأنه، أدى إلى إحياء ما كانت “إسرائيل” على تبنّته، من خلال مشروع قرار، كان تقدم به عضو الكنيست “حاييم أورون” بشأن مسئولية الدولة التركية، على ارتكاب الإبادة الجماعية للأرمن، فقد كانت “إسرائيل بصدد مناقشتها “الإبادة الجماعية” منذ أوائل مايو/آيار عام 2009، إلاّ أن الضغوط التركية وبحكم العلاقات الوثيقة بينهما حينذاك، كانت تحول دون تنفيذه عملياً على أرض الواقع.

خاصةً وأنه بدا جلياً، ومنذ بدء العلاقات الدبلوماسية مع تركيا، أن بادرت “إسرائيل بالرضوخ لمتطلبات الحكم التركي، وتحت ضغط متواصل من السفارة التركية، ومن ثم اضطرت “إسرائيل” للتعاون معها في إنكار الإبادة الأرمينية، في مقابل أيضاً بإيمان أنقرة بالمحرقة اليهودية، حيث خلت الكتب المدرسية في وزارة التربية والتعليم، من اتخاذ الحادث بأنه “مذبحة” أو “مأساة”، دون الإشارة فيما إذا كان للسلطنة العثمانية أي دورٍ فيها. حتى الأفلام الوثائقية منعت من البث التلفزيوني الإسرائيلي، لأجل الحفاظ وتعزيز العلاقات المختلفة بين البلدين.

لكن الآن وفي ظل الظروف الحالية، فإن “إسرائيل” تتأهب وقريباً، قد يكون خلال هذا الأسبوع، للعودة من جديد، لمناقشة المحرقة الأرمينية داخل الكنيست الإسرائيلية، وسيتم تمرير القرار رسمياً وبقوة أكبر، من التي خرج منها في الجمعية الوطنية في باريس، بحجة أن ذلك المسعى هو التزام أخلاقي على الاعتراف بالإبادة الجماعية، وهو ما يفتح الطريق أمام الكثيرين من الدول إضافةً إلى ما يقرب من 20 دولة، تعترف بالإبادة الأرمينية، الأمر الذي من شأنه إحداث المزيد من العقبات، التي من شأنها عرقلة تحقيق الأماني والرغبات التركية، وهو ما تسعي “إسرائيل”إلى تحقيقه أيضاً.

2011-12-23

http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2011/12/23/246309.html

Share This