“العدالة والتنمية” التركي: من حزب إسلامي الى حزب قومي

في رد فعله على  التشريع الفرنسي حول الارمن لم يختلف رجب طيب أردوغان عن اي رئيس وزراء تركي من المدرسة الاتاتوركية التقليدية ولم يعد يستطيع ان يكون مختلفا. لماذا؟

يجد رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان نفسه وقد تحول تحت وطأة الضرورة من رئيس حزب “اسلامي” الى رئيس حزب قومي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. اي أنه بالنتيجة يصبح عكس ما كان عليه.

فها هو اردوغان ومعه حكومته وحزبه – الذي لا منازع له فيه – يجد نفسه محاصرا بشكل متزايد بقضيتين قوميتين كبيرتين هما بين القضايا الثلاث الابرز والاكثر خطورة التي انشغل بها الشعب التركي منذ تأسيس الجمهورية وحتى اليوم.

ها هي القضية الارمنية تتجدد على احد ارفع المنابر في الغرب بعد الكونغرس الاميركي وهو الجمعية الوطنية الفرنسية مع اقرار النواب الفرنسيين بأغلبية كبيرة الخميس المنصرم لتشريع يفرض عقوبات بين السجن والغرامة  على كل شخص ينكر وصف “الابادة” في الجرائم التي يعتبرها القانون الفرنسي ابادات ووضع بينها الممارسات التركية ضد الارمن عام 1915.

في رد فعله على هذا التشريع الفرنسي لم يختلف رجب طيب أردوغان عن اي رئيس وزراء تركي من المدرسة الاتاتوركية التقليدية ولا يستطيع ان يكون مختلفا. فهو رد كأي مسؤول تركي قومي من العهود السابقة بسحب السفير التركي من باريس وباتخاذ اجراءات تجميد لعلاقات عسكرية واقتصادية مع فرنسا الخ…

في الواقع لم يكن ينقص اردوغان في المرحلة الحالية تفجر مشكلة قومية جديدة من المشاكل الموروثة التي خلّفتها سنوات تأسيس الجمهورية وعقود لاحقة من التطبيق القومي الصارم لحماية “الدولة – الامة” التركية داخليا وخارجيا. ففي ولايته البرلمانية الثالثة عاد “حزب العدالة والتنمية” يواجه تفجرا خطيرا شبه يومي للمسألة الكردية في الجنوب الشرقي وعبره الى داخل الحدود مع شمال العراق بما يمكن ان يتحول الى انهيار شامل لاي أفق حل سلمي ديموقراطي. انهيار يمكن ان يهدد جوهريا الانجازات الديموقراطية التحديثية للعلمانية التركية… بكلام آخر انه أفق محتقن  ومتفجر بات – في ما يتعلق بالمسألة الكردية تحديدا – يهدد التطور الايجابي لـ”النموذج التركي” نفسه والنظرة اليه في العالم بسبب اضطرار الجيش وبدعم الرأي العام التركي الى ردود عنيفة على العمليات المسلحة التي يقوم بها حزب العمال الكردي ضد قوى الامن والمدنيين.

اذا أضفنا التعثر السياسي للمسألة القبرصية – وهي لدى الاتراك واليونانيين معا مسألة قومية بالدرجة الاولى-  ناهيك عن كونها احد منافذ العلاقة مع الاتحاد الاوروبي، فإن أردوغان هو فعلا اليوم محاصر بعدد من “القنابل” القومية التي تفرض عليه ان يتصرف كأي سياسي تركي من عقود ما قبل تسعينات القرن العشرين عندما كان السياسيون الاتراك يضعون نصب أعينهم سياسة تشدد عسكري مع الاعداء الذين تعتبرهم المؤسسة العسكرية خطرا على “وحدة الامة”.

المفارقة الساخرة في هذا السياق ان رجب طيب أردوغان الذي يخطط ليصبح رئيسا للجمهورية بعد اجراء تعديلات دستورية تسمح بانتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر، كان يسعى مؤخرا كما يقول  خبراء أتراك مطلعون الى استقطاب “الصوت القومي” الذي يقترع تقليديا ضد “حزب العدالة والتنمية”. لكن هل بدأ أردوغان يتحول من مسيطر على “لعبته” القومية الى”أسير” لها؟ هل أخذت الغيوم العاصفة على “الجبهتين” الكردية والارمنية تجعل العازف المستجد داخليا على الوتر القومي يفقد تحكمه بالايقاع ؟ وهل هو بالتالي تغيير يضع حدا للطاقة التجديدية التي تمثلها تجربة جيل “حزب العدالة والتنمية”؟

دعكَ من الاوضاع الاقليمية وخصوصا بعد اندلاع “الربيع العربي” فهنا لا زالت تركيا رجب طيب أردوغان في معمعة المجازفة من حيث الرهان على مكاسب بعيدة الأمد حتى لو كانت هناك خسائر يستطيع وزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو ان يعتبرها مؤقتة. ما هي تركيا بصدده على هذا الصعيد هو ذو طابع داخلي اساسا حتى لو كان مصدر بعض الاحداث الضاغطة على الحكومة التركية خارجيا كما حصل امس في مبنى الجمعية الوطنية الفرنسية. فردود فعل اردوغان في هذه القضايا القومية تحكمها معايير الوضع الداخلي التركي وتقاليده المتشددة وطنيا حتى لو ضعف الدور السياسي الداخلي للمؤسسة العسكرية.

لهذا نحن في قلب عملية سياسية تُحوِّل ثاني رئيس وزراء “اسلامي” في تاريخ تركيا و”العدو” الاول للاتاتوركيين القوميين التقليديين (وليس اتاتوركيي الجيل الجديد) الى “قائد قومي”.

هذا يعني بالمصطلحات الايديولوجية “السورية” : تصوروا قائدا “اخوانيا اسلاميا” يتحول الى  “قائد بعثي”!

جهاد الزين

النهار

Share This