بينما تتبنى حزب «أرمينيا أولاً»… فرنسا ترفع فيتو «إنسانياً» بوجه أردوغان

نواس القضية الأرمنية في فرنسا ومنذ عشر سنين غير متوازن يكاد يرتبط نوسانه بالحاجة الفرنسية إلى تسارعه أو تباطؤه تبعاً للأداء التركي وانعكاسه على المصالح الفرنسية زمن النوسة فيه يزيد أو ينقص تبعاً للحاجة إلى رفع «الفزاعة» بوجه تركيا أو (إنزالها) حيث يتم استخدام هذه الأخيرة لدفع تركيا إلى التفكير بإعادة تقويم مسارها الذي يتناقض في هذه الحالة مع «الطموحات» الفرنسية. قلما يجتمع اليمين واليسار في بلد –كما اجتمعا الآن في فرنسا- على قانون أو قرار إلا إذا كان ذلك يندرج تحت ما يسمى «الضرورة الوطنية» لإقراره وهي لا تكون إلا لمجابهة خطر خارجي محتمل وللتصدي لخطر أزمة داخلية تكاد تعصف بالكيان كله، ورغم أن قرار قانون تجريم إنكار إبادة الأرمن لا يقع في خانة أي من الخطرين فقد حسمت فرنسا أمورها وذهبت إلى إيصاله إلى محطته الأخيرة.

أجاب تاليران –أحد أشهر السياسيين في تاريخ فرنسا- نابليون عندما سأله عن رأيه في إعدام أحد معارضيه الأشداء وما إذا كان ذلك يمثل جريمة أجاب تاليران: يا جلالة الامبراطورر إنه أكثر من جريمة إنه خطأ..!

كان الخطأ –لدى من يمثل حالياً إرثاً سياسياً ومرجعاً تقتضني الحكمة الرجوع إليه للتنور في أخذ القرارات- أكبر من الجريمة وبتجاوزها فهل ينطبق الأمر- وهو ينطبق في حال الكيل بمكيال واحد- على الأخطاء التي اعترفت فيها القيادة الفرنسية غداة انسحابها من كل من سورية والجزائر؟.

القرار الذي أقره مجلس النواب الفرنسي (تجريم إنكار إبادة الأرمن) كان يحقق شبه إجماع يطول «النخب الفرنسية» اليمينية واليسارية على حد سواء، إلا أنه لم يحظ بغالبية شعبية يظهر ذلك عندما نضيف إلى تلك النخب طبقات التجار والصناعيين وكبار المستثمرين، لكن القرارات الناجحة التي اتخذت في التاريخ الفرنسي لم تكن جميعها تحظى بغالبية شعبية حتى تصبح نافذة، فهناك مثلاً القرار الذي اتخذه ديغول بضرورة الانسحاب من الجزائر ومنحها الاستقلال الذي دفعت فيه هذه الأخيرة الغالي والرخيص حتى يتحقق.

لم يكن القرار شعبياً لكونه يأتي في الاتجاه المعاكس لمصالح شريحة واسعة من الفرنسيين لم تكن قد هيأت نفسها بعد لأمر كهذا وقبل أن تجد بديلاً يعوضها عن الفاقد الذي عم ليشمل فرنسا بكل قطاعاتها.

القرار كان فردياً ولم يكن يحظى بأدنى درجات التأييد الشعبي وهنا يأتي دور القيادة «التاريخية» حيث يمكن (لها) للقيادة أن ترى مالا تراه الجماهير وتستطيع التفرد بالقرار وتحمل تبعاته شريطة أن تثبت السنوات القادمة صوابية الرؤية وصحة القرار.
فرنسا ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي تجتاحها ردة دينية من نوع ما قد يكون مرد ذلك إلى انتشار موجة من تمدد الثورات الدينية خاصة الإسلامية منها في تلك الفترة، ربما جاء الأثر الذي أحدثته الثورة الإيرانية ليوقظ «الشعور الديني» في أوساط العامة من الفرنسيين والأمر يبدو استمراراً لتلك الردة ففي فرنسا العلمانية أشيع في شوارعها ومقاهيها أن «بروتستانتيه» جو سبان كانت هي التي حالت بينه وبين الوصول إلى الرئاسة، وإذا كان ذلك صحيحاً وإذا ما استمر ذلك الطريق في تصاعد وتنام فأي معنى يبقى للعلمانية في فرنسا؟
ربما كان القرار الفرنسي الحالي يحاكي ويتناغم مع تلك الردة الفرنسية فحاولت القيادة كسب تعاطف الشارع الفرنسي مع الأرمن لتستغله في مواجهة تمدد الإسلام السياسي الذي تعتبر تركيا المروج الأكبر له حالياً وخاصة لنموذجها الذي درجت العادة على تسميته الإسلام المعتدل.

هذا يوضح جانباً من دوافع القرار وفي الجانب الآخر كانت النظرة الفرنسية إلى تركيا تشير إلى أنها تعتبر «الخيار الأخير» الذي يمكن أن تعتمده للوصول إلى عمق دمشق فهي تركيا دخلت عالم «التريليونات» في الدخل القومي للأمم ما أوجد فيها استقراراً نسبياً بعد فترة انقلابات عسكرية ليست بالقصيرة، ويضاف إلى ذلك أن جيشها قد حقق تطوراً لافتاً –ساعد فيه بالتأكيد الفائض المالي- ما جعله يندرج على لائحة الجيوش المتقدمة في العالم بل في الأرقام الأولى على هذه اللائحة.

دخل الخيار التركي حيز التنفيذ كخيار وحيد منذ أشهر وتحديداً عندما أيقنت فرنسا أن إصدار قرار أممي يمهد الطريق لتدخل عسكري في سورية أمر في غاية الصعوبة أقله ضمن الثوابت المتوافرة حالياً.

يبدو أن تركيا فكرت وأعادت التفكير مراراً –وفي الأمر ما يدعو إليه- فامتنعت عن السير في فكرتي «المنطقة العازلة» أو «الممرات الإنسانية» الممهورتين بخاتم فرنسي، كانت النظرة الفرنسية تقول إن تغيراً حقيقياً في الموقف لا يمكن حدوثه إلا بتطبيق إحدى الفكرتين الأمر الذي سيدفع إلى حدوث انشقاقات كبيرة ومؤثرة في الجيش مقرونة بهجرة سكانية ضخمة ما يشكل «أزمة إنسانية» تخلق مبرراً –دون موافقة مجلس الأمن- لتدخل خارجي تكون تركيا دعامته الكبرى.

وفي النقطة الثانية –التي باعدت بين الطرفين- كان «العقم التركي» في إيجاد سد منيع أمام التمدد الإيراني كان العراق حتى وقت قريب يشكله تقليدياً قبل أن تقوم أمريكا بتقديم تلك الهدية الغالية لإيران: تدمير العراق في عام 2003.

ورغم أن القوة التركية الآن تعادل أضعاف ما كانت عليه القوة العراقية عشية سقوط بغداد، إلا أن ديناميكية السلطة في كلا البلدين (تركيا والعراق) ما زالت تفرز قيادات تستمد قراراتها الاستراتيجية وتحدد أعداءها بناء على سياق تاريخي راسخ في الذات الجماعية لكل منهما فتركيا لا ترى في إيران خصماً عدائياً لها بينما العراق –وبدفع خليجي هائل- كان يرى فيها ذلك وبأشد الصور أيام حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

هددت فرنسا طوال العقدين الأخيرين بإقرار القانون السابق الذكر وهي تدرك أن قيمة الورقة التي تهدد بها سوف تفقد قيمتها عند استخدامها بشكل عملي ووضعها موضع التنفيذ ما يوضح حجم التناقض في الموقفين التركي والفرنسي وحجم الضرر الفرنسي الناجم عن هذا التناقض وهو ما دفع بفرنسا إلى الرمي بورقتها دون تردد.

في معرض محاولته لمنع إقرار القانون دعا الرئيس التركي الذاكرة الفرنسية إلى استرجاع ماضيها الاستعماري في الجزائر هي التي أبادت 15% من شعبها في محاولة منها «لفرنسة» الجزائر، لكن ما لم يذكرها أحد به – لا إعلام ولا دبلوماسية – هو أنها سلخت لواء اسكندرون عن الجسد السوري وضمته إلى تركيا في عام 1939 حتى من دون قيامها بمسرحية، كما جرت العادة في مثل تلك الحالات القيام باستفتاء نتيجة معروفة ومحددة مسبقاً يفضي إلى موافقة الأغلبية السكانية في اللواء بالانضمام إلى تركيا خياراً نهائياً.

هل راجعت تركيا حساباتها وحسمت الأمر برؤية اقتصادية بحتة؟ فالكيان التركي الحالي قائم كله على حالة «إبهار» اقتصادي حققته تركيا في فترة قصيرة نسبياً ومن شأن التصعيد الاقتصادي مع سورية أن يؤدي إلى فقدان كل هذا البريق وانهيار النموذج في أذهان الآخرين.

أم كان هناك تداخل اقتصادي جيوسياسي اقتضى تخوفاً تركياً من هشاشة التركيبة المكونة للداخل التركي، ومن شأن أي تصعيد عسكري تقوم به تركيا ضد سورية أن يؤدي إلى حرب إقليمية يرافقها حراك للداخل التركي المتململ ترى أنقرة أن إيران وحزب اللـه طرفان أكيدان فيها.

مهما كانت الدوافع التركية فإن النتائج لم تكن ترضي التوجه الفرنسي والأيام القادمة سوف تشهد تصعيداً تركياً فرنسياً يعكس حجم وقع القرار وتأثيره على الدبلوماسية التركية و«كسوف» نموذجها.

لكن متى تنتاب فرنسا نوبة «حقوق إنسان» أخرى تكفر فيها عن خطئها – الذي يتجاوز الجريمة بتعبير تاليران – المتمثل بسلخ لواء اسكندرون وتفضي – تلك النوبة – إلى إقرار قانون فرنسي يشجب القائمين بالفعل ويستنكر التتريك لجغرافية وتاريخ اللواء ويكون ذلك مدخلاً لقرار دولي بضرورة عودة لواء اسكندرون إلى سورية وفي المقابل يثبت رغبة فرنسا في التكفير عما اقترفته ويمهد –في حالة التوبة – لغفران الخطايا عن الجرائم الفرنسية الواقعة بين العامين 1920 – 1946 في كل أنحاء هذا الوطن؟

عبد المنعم علي عيسى

2012-01-05

الوطن

Share This