الأردوغانيّة وتجديد الإبادة الارمنيّة بإنكارها!

هوشنك أوسي

“يجب على بريطانيا الاعتراف بالإبادة التي ارتكبتها في الهند والعراق ومصر وفلسطين… وكل مستعمراتها”. و”يجب على اسبانيا الاعتراف بالإبادة التي ارتكبتها بحقّ السكّان الأصليين في أمريكا إبان فترة الاحتلال”. و”يجب على اليابان الاعتراف بالإبادة التي ارتكبتها في الصين وفيتنام وبقيّة مستعمراتها”. و”يجب على ايطاليا الاعتراف بالابادة التي ارتكبتها في ليبيا”…، هذا ما يمكن أن يصرّح به، رئيس الوزراء التركي، وزعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي “المعتدل”، الطيّب أردوغان، في حال لو اعترفت بريطانيا واسبانيا واليابان وايطاليا…، أو أيّة دولة أخرى، بالمذابح والإبادة الجماعيّة التي ارتكبها الاتراك بحقّ الأرمن، إبان خواتم السلطنة العثمانيّة (1915 _ 1917) وراح ضحيّتها أكثر من مليون ونصف أرمني، ونحو نصف مليون كردي (يتم تجاهلهم)!. ذلك أن الساسة الأتراك، يستذكرون قبائح أجداد الآخرين، ويتجاهلون قبائح وفظائع أجدادهم!.

مناسبة هذا الكلام، هو طلب أردوغان من فرنسا الاعتراف بانها ارتكبت إبادة جماعيّة في الجزائر، على أن حرب التحرير الجزائريّة، خلّفت مليون ونصف مليون شهيد أثناء مقارعة الاحتلال الفرنسي!. وبالتأكيد أن الاتهام الاردوغاني، صحيح وفي محلّه. ولكن، صحيحٌ أيضاً، التساؤل: لماذا كتم اردوغان هذه الحقيقة، لحين إقرار البرلمان الفرنسي، قانون تجريم إنكار الإبادة الارمنيّة، ولماذا لم يطالب فرنسا، نفس الطلب، قبل أعوام؟!. وهل كتمان الحقائق، حفاظاً على المصالح، من مبادئ وقيم الدين الإسلامي الحنيف، الذي يزعم حزب العدالة والتنمية بأنه يمثّلها!؟.

ولو افترضنا، إن البرلمان الجزائري اعترف بالإبادة الأرمنيّة، وافتراض المحال ليس من المحال، أقلّه الآن! ، هل سيبقى اردوغان محافظاً على مطالبته فرنسا الاعتراف بالإبادة الجماعيّة التي ارتكبتها في الجزائر؟!.

لا شكّ أن القرار الفرنسي، في جزء هام وكبير منه، خاضع لاعتبارات انتخابيّة، ولعبة التجاذب بين اليمين واليسار الفرنسي، لجهة استقطاب أصوات الأرمن الفرنسيين. لكن، صحيح أيضاً، إن الحقيقة التاريخيّة القاسية والمرّة والمؤلمة، كثيراً ما تنال حظّها من الاعتراف والقبول، في معمعمة توازنات القوى الداخليّة. فالاعتراف بمذبحة ديرسم (راح ضحيتها نحو 60 الى 70 الف كردي علوي) التي ارتكبها الاتراك سنة 1938 على خلفيّة انتفاضة قادها الثائر الكردي سيد رضا، كثيراً ما أنكرتها الحكومات التركيّة ومنها حكومة اردوغان. لكن، الأخير، وفي مسألة الصراع والتجاذب السياسي بين الحكومة والمعارضة القوميّة، العلمانيّة الكماليستيّة، اعترف، ولو بشكل غير مباشر، بوقوع هذه المجزرة، محيلاً ارتكابها الى حكومة حزب الشعب الجمهوري (أكبر احزاب المعارضة التركيّة آنئذ!.

ما هو مفروغ منه، تلقّف معشر المطبّلين والمزمّرين، وربما المخدوعين، بتركيا واردوغانها، مطالبة اردوغان من فرنسا الاعتراف بارتكاب إبادة في الجزائر، على انه من صنف نصرة القضايا العربيّة!، دون أن يسائلوا صاحبه عن سبب الكتمان والصمت على الجريمة والمذبحة الفرنسيّة في الجزائر طيلة هذه المدّة!؟. وبالتأكيد أيضاً أنه لو اعترفت ألمانيا بالإبادة الأرمنيّة، لن يستطيع اردوعان مطلبة برلين بالاعتذار من اليهود والاعتراف بالهولوكوست، لكون ألمانيا اعترفت واعتذرت. ولئن واشنطن اعتذرت من اليابان على قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، فأن اردوغان سيطالب واشنطن بالاعتراف بالمجازر التي ارتكبتها في افغانستان والعراق، إن أخرج الكونغرس الامريكي قانون إبادة الارمن ووضعوه على الطاولة مجدداً. وليس في هذا الامر، ما يمكن وصفه بـ”قصب السبق” للزعيم التركي الاسلامي. ذلك انه سبقه كُثُر الى هذه المطالبة!.

الموقف الفرنسي، يتسم بالشجاعة والجسارة السياسيّة والأخلاقيّة، رغم ان البعض حاول التقليل منه، عبر حصره ضمن الاعتبارت الانتخابيّة الصرفة فقط. ذلك أنه أتى في وقتٍ، أوروبا، وتحديداُ فرنسا، بحاجة لخدمات النظام التركي في ما يخصّ مساعي ومخططات اقتلاع نظام الاسد من سورية. بينما الموقف الأمريكي، يتسم بالابتزاز واللاخلاقيّة الفظّة والوقحة، حتّى لو أقرّ الكونغرس الامريكي قانون تجريم إبادة الارمن لاحقاً!.

حاصل القول: آن لوجدان تركيا أن يرتاح، وبل تأخّر. بخاصّة، إذا كانت تسعى لنمذجة نفسها على أنها مصدر التسامح والديمقراطيّة والانفتاح والعدالة. وبإمكان أردوغان الاعتراف بالمجازر التي ارتكبها أجداده بحقّ الارمن، وألاّ يعتبرها من ميراث السلطنة ودولة الخلافة الإسلاميّة، تفادياً نقمة وسخط ناخبيه المتديّنين المحافظين. وبإمكانه القول: “إن الذين اقترفوا وصمة العار تلك، كانوا من جماعة الاتحاد والترقّي التركيّة، (الطورانيّة، العلمانيّة، الماسونيّة)”!. لكن، في إنكاره الشرس لتك الابادة، ودفاعه المستميت عن مرتكبيها من قادة “الرجل المريض” آنئذ، ينصّب أردوغان، ومن خلفه جماعة فتح الله غولان والدولة التركيّة، أنفسهم فريق دفاع عن القتلة وعارهم التاريخي، أولئك الذين أطلقوا رصاصة الرحمة على “دولة الخلافة” والسلطنة العثمانيّة!؟.

والسؤال: ما الذي يجبر اردوغان على اقتراف هذا المسلك، وتجديد الإبادة، بإنكارها؟ والسبب بسيط ، وريما وجيه، يتمثّل بالبطانة أو الذهنيّة القومويّة، التركايتيّة، المقيتة، التي تتوارى خلف قناع الاعتدال الإسلامي و”نصرة” المظلومين والمقموعين في العالمين العربي والاسلامي!. هذه الذهنيّة التي ترتعب من قبائح الماضي، تسعى لتوريط العالم كله في هذه الابادة، عبر ممارسة الضغوط الرامية الى الإبقاء على الصمت والسكوت عن هذا الجرح التاريخي العميق في جسد الاناضول والشرق الاوسط والعالم الاسلامي. وإذا كانت الإبادة، حقيقة، وهي فعلاً حقيقة، فمن حقّ ضحاياها الاعتراف بهم، على أنهم أبيدوا، أيّاً كانت الخلفيّات والأسباب.

ولئن خزانة التاريخ التركي، والعثماني خصوصاً، مليئة بالإبادات والمذابح، فالاعتراف بالمذابح الارمنيّة، ستقود للاعتراف بالمذابح التي ارتكبها العثمانيون بحق العلويين، في فترة حكم السلطان سليم ياووز ومراد الرابع (يلقّب بحفّار الآبار، لكونه دفن عشرات الآلاف من العلويين* الكرد والترك في الآبار). وسيتبعها، أيضاً وأيضاً، الاعتراف بالمجازر التي ارتكبها العثمانيون في البلقان بحق الصرب والبلغار واليونانيين…، والمجازر التي ارتكبوها بحق الكرد (لو اجريت حصيلة تقريبيّة لضحايا التمرّدات والانتفاضات الكرديّة “27 انتفاضة وعصيان” التي سحقها الاتراك، لوصلنا لعدد قد يقارب عدد ضحايا المذابح الارمنيّة). دون ان ننسى عدد الضحايا العرب الذين سقطوا إبان الحكم العثماني الذي دام اربعة قرون للبلاد العربيّة!. وبالتالي، أردوغان، يحاول ان يسدّ أبواب التاريخ على جرائم الأجداد، وبذا، يجدد ما اقترفوه من فظائع. ورغم هذا المسلك المريع، يبقى الزعيم التركي الإسلامي، المنارة التي تهتدي بها الاجيال العربيّة ونخبها الإسلاميّة واليساريّة في زمن “ربيع الشعوب”!. ثم يصفون لك من يخاف التاريخ مذعوراً من حقائقه، بـ”الطود الشامخ والبطل الشجاع، ونصير المظلومين، الذي لا يسكت عن ظلم وغبن وقمع، كائناً من كان فاعله، وفي أيّ مكانٍ كان”!؟.

كاتب كردي سوري

http://www.direkhamko.com/vb/showthread.php?p=69702  

 


Share This