أرمن الأناضول: رواية تاريخيّة بترجمات رسميّة متعدّدة

أثار إقرار الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) مشروع قانون يقضي بتجريم إنكار وقوع إبادة جماعية تعرّض لها الأرمن على أيدي الأتراك العثمانيّين بين عاميّ 1915 و1918، كثيراً من الجدل. كما تسبّب إقرار القانون هذا بتوترات دبلوماسية بين فرنسا وتركيا، إذ اعتبره الأتراك محاولةً لتعطيل حركات التقارب بين أرمينيا وتركيا. ففي حديث له مع صحيفة لوموند، رأى أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا ، أن “ما تقوم به فرنسا حالياً من شأنه أن يضرّ بمحاولات التقارب التي تتمّ بين تركيا وأرمينيا”، خصوصاً أن البلدين كانا قد وقّعا على اتفاق سلام العام 2009، بعد أن وافقا على إنشاء لجنة من الخبراء الدوليّين للنظر في الأحداث التي وقعت العام 1915، وعلى استعادة العلاقات الدبلوماسية، وفتح الحدود أمام النشاط التجاري لكن من دون أن تتمّ المصادقة على الاتفاق.

بدأ الخلاف في الواقع من داخل البرلمان الفرنسي قبيل التصويت على مشروع القانون الذي كانت قد اقترحته فاليري بواييه، نائبة الحزب الرئاسي في مرسيليا حيث تعيش جالية أرمنية كبيرة. وينصّ اقتراح القانون على عقوبة السجن عاماً واحداً وغرامة قدرها 45 ألف يورو عند أيّ إنكار علني لإبادة يعترف بها القانون الفرنسي.

انقسام الطبقة السياسية الفرنسية عبّر عنه وزير الدفاع الفرنسي جيرار لونغيه، الذي كان من بين الفريق الحكومي الذي أبدى انزعاجه، بحجّة أن النواب “ليسوا أفضل المؤرخين” للحكم على حصول عملية إبادة من عدمها. وأن القانون الجديد جاء ليزيد الهوّة بين باريس وأنقرة التي عمّقتها معارضة الرئيس ساركوزي القديمة والقطعية لانضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي. بدوره وزير الخارجية الفرنسي السابق هيرفي دو شاريت اعتبر القانون “مسألة ديماغوجية ما قبل انتخابيّة”، كما اعتبره النائب الفرنسي البروفيسور برنارد دوبريه “عديم الفائدة”، وأنه يعود إلى العام 2001، وذلك لإثبات أن إعادة إحيائه دليل على الأغراض الانتخابية المتأمَّلة منه:” ثمة منافسة بين اليمين واليسار لمعرفة مَن سيستعيد أصوات الأرمن”. أما رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي السابق جيرار لارشيه فأكّد أنه لن يصوّت على المشروع قائلاً:” لنترك للمؤرّخين مهمّة اكتشاف حقيقة التاريخ”.

في المقابل دعا جون ليونتي، وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي، تركيا إلى الاعتراف بإبادة الأرمن التي وقعت فى بداية القرن العشرين عام 1915 بوصفها “حقيقة تاريخية”، نافياً أن يكون لمشروع القانون المقترح أمام البرلمان الفرنسي أيّ خلفيات في مرحلة ما قبل الانتخابات” الرئاسية في فرنسا.

في الجانب التركي توالت تحذيرات المسؤولين الأتراك من أن أنقرة ستردّ، ربما عبر فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية بحقّ فرنسا، بسبب هذا القانون، خصوصاً أن فرنسا تعدّ خامس أكبر سوق تصدير لتركيا وسادس أكبر مصدر لوارداتها. أما رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، فردّ قائلاً إن على فرنسا أن تنظر إلى تاريخها القذر والدموي في الجزائر ورواندا. فيما أدّت الأزمة إلى خلاف بين ساركوزي، المصرّ على موقفه، ووزير خارجيته آلان جوبيه، الذي يسعى إلى تهدئة العلاقات مع تركيا، لكونها تلعب دوراً حيوياً بالنسبة إلى فرنسا في التعامل مع الأزمتين السورية والإيرانية.

تفسيرات كثيرة وتبريرات متنوّعة

من منطلق أن هذا القانون لا يخصّ إبادة الأرمن فقط بل جميع عمليات الإبادة الجماعية، وبحجة “إنصاف التاريخ” وضرورة اضطلاع فرنسا بدورها في تحمّل واجباتها الإنسانية تجاه أرمن تركيا، تمّ إذن الانقلاب المفاجىء لباريس على أنقرة. وقد تساءل الكثيرون كيف لفرنسا التي تسعى لإعادة مكانتها ودورها الجيوساسي في المتوسط، والذي يتجلّى تحديداً في إحياء سياستها الخارجية في محيطها المباشر، أي المحيط المتوسطي والمحيط المغربي، وفي الوقت الذي تحتاج فيه كثيراً إلى تركيا في ملفّات حيويّة عدّة من أبرزها الملف السوري، والإيراني، مقابل الدور الذي كان من الممكن أن تلعبه أنقرة بالتوازي مع التحرّك الأوروبي بعامة والفرنسي بخاصة، كيف لفرنسا في هذا الوقت بالذات أن تقوم بافتعال أزمة كهذه؟ فيما تساءل كثيرون أيضاً عن مصداقية شعار الثورة الفرنسية حرّية- مساواة- إخاء، في الوقت الذي لا تعترف فيه فرنسا إلا بإبادتين فقط هما محرقة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية والإبادة الأرمنية، علماً بأن القانون الفرنسي لا يعاقب حتى الآن إلا على إنكار محرقة اليهود؟!… ثم لماذا اتّهمت المفكّر الفرنسي روجيه غارودي بمعاداة السامية لمجرد تشكيكه في المحرقة وبعدد الضحايا اليهود البالغ برأيه 900 ألف إلى مليون ومئتي ألف، وليس ستة ملايين كما يدّعي اليهود أنفسهم؟ ألم تصادر فرنسا كتابه “الأساطير المؤسّسة لدولة إسرائيل”؟

أسئلة كثيرة طُرحت فضلاً عن مواقف مؤيّدة لتركيا، مقابل أطروحات أخرى مدافعة عن فرنسا منها ما جاء في مقال بعنوان “حول الأزمة الفرنسية التركية وقانون إبادة الأرمن” كتبه ألكسندر ديل فال Alexandre Del Valle في صحيفة فرانس سوار France Soir الإلكترونيّة بتاريخ 26 ديسمبر 2011، والذي جاء فيه ما معناه أن الدليل الأفضل على حقيقة المجازر التي ارتكبها الأتراك ضدّ الأرمن هو الاختفاء شبه الكامل لهؤلاء عن الأناضول، أرضهم الأصليّة التي يقطنها اليوم أكراد وأتراك مسلمون والخالية من مسيحيّيها، وذلك في الوقت الذي يعيش فيه الجزائريون على أرضهم المحرّرة منذ العام 1962، بعد أن طردوا غير المسلمين والمخلصين لفرنسا، وبالتحديد مليون مستوطن أوروبي (الأقدام السوداء) ومئات الآلاف من المقاتلين الجزائريّين الموالين لفرنسا. ما يعني أنهم عانوا من مجازر من قبل القوات الفرنسية التي كان من مهامها قمع المتمردين الإرهابيّين الجزائريّين، وهذا صحيح، لكن من دون أن ينطبق على الأمر صفة “الإبادة” كمصطلح لم تقم لا الأمم المتّحدة ولا أيّ هيئة دولية ولا أيّ من المؤرخين المولجين بهذه القضايا في استخدامه في الحالة الجزائرية.

القيم الإنسانية همّ أخير في صراع المصالح

المتتبّع لقائمة الدول أو البرلمانات التي اعترفت بالإبادة الأرمنية، وهي الأوروغواي(1965)، مجلس الدوما الروس (1994)، مجلس الشيوخ البلجيكي(1998)، المجلس الوطني السويسري، المجلس الأدنى في البرلمان(2003)، مجلس العموم الكندي(2004)، مجلس الشيوخ الأرجنتيني (2005)، البرلمان السويدي(2010)، فضلاً عن اعتراف لجنة تابعة للكونغرس الأميركي في آذار/مارس2010، يلاحظ أن هذه التواريخ تكثّفت في القرن الحادي والعشرين. أما الملاحظة الثانية فهي لوزير الخارجية الفرنسي السابق هيرفي دو شاريت، وذلك في معرض وسمه مسألة مشروع القانون الفرنسي بكونها “ديماغوجية ما قبل انتخابيّة” كما تمّت الإشارة إلى ذلك آنفاً، حيث قال إن فرنسا بدورها تهتمّ بهذا الموضوع كلّ5 أعوام: “في العام 2001 ، قبل الانتخابات الرئاسية للعام 2002 ، في العام 2006 قبل الانتخابات الرئاسية للعام2007 .

فإذا كانت أسباب الاهتمام الفرنسي بالمسألة الأرمنية عائدة لأسباب انتخابية، تحيلنا الملاحظة الأولى إلى المصالح السياسية العامة للبلدان الأوروبية والأميركية التي تشكّل الانتخابات في هذا البلد أو ذاك عيّنة ممثّلة لها.

وكان أردوغان قد دافع بشراسة عن بلاده متّهماً النوّاب الفرنسيّين الذين دعموا القرار بأنهم اتّخذوا قرارات سياسيّة على أساس من “العنصرية والتمييز وكراهية الأجانب”، وأنه “لم يتمّ ارتكاب أيّ إبادة في تاريخنا، ونحن لا نقبل ذلك” بحيث يعيش اليوم في تركيا أكثر من 140 ألف أرمني، وأنها بلد متسامح، استقبل عشرات آلاف اليهود الهاربين من الأندلس. كما كان أردوغان نفسه قد اتّهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بشنّ حملة انتخابية قبل الانتخابات الرئاسية التي ستجري العام المقبل، للحصول على أصوات 500 ألف أرمني يعيشون في فرنسا، وذهب إلى القول بأن تركيا ستشرح للعالم وأفريقيا المجازر والإبادات الفرنسية في أفريقيا والعالم:”ارتكبت فرنسا مذبحة بحقّ ما يقدّر بنحو 15% من سكّان الجزائر بدايةً من العام 1945.. هذه إبادة جماعية”.

لذا ثمّة مَن اعتبر أن أردوغان هذا ليس مختلفاً تماماً عن نيكولا ساركوزي أو سيلفيو برلسكوني. فهو بحسب ما جاء مثلاً في كلام الصحافي الإيراني- الفرنسي آرمن آريفي Armin Arefi “معتادٌ على الإطلالات المذهلة، شأن ما قام به سابقاً، وبطريقة أكثر عنفاً حيال إسرائيل”. إذ إن لتركيا- بحسب آرمن- نيّة لعب دور أكثر أهمية على الساحة الدولية منذ العام 2009 بوصفها وسيطاً وقوّة إقليمية. منذ ذلك الحين وأنقرة تتّجه إلى التعبير أكثر عندما تتكوّن لديها قناعة بأن مصالحها باتت مهدّدة”. توجد في النهاية، تماماً كما هو الحال في فرنسا، حسابات انتخابيّة”(من مقال بعنوان قانون الإبادات يدفع تركيا للانطواء على نفسها، نشر في 28/12/2011 في صحيفة لوبوان الفرنسية Le Point.fr.

قد يذكّرنا ذلك كلّه بشخصيّة “ميريك” المهمومة بقضايا الإصلاح للروائي التشيكي ميلان كانديرا في روايته “كتاب الضحك والنسيان”، وذلك حين ورد على لسان “ميريك” هذا، في الجزء المعنون بـ”الرسائل الضائعة”، أن “المستقبل لا يعدو كونه فراغاً لا مبالياً، ولا يهمّ أحداً. في حين أن الماضي لا يلبث نابضاً بالحياة، ووجهه يغيظ ويدعو للثورة، ويجرح أيضاً بحيث نرغب في تدميره أو إعادة طليه. ولئن نحن رغبنا في أن نكون أسياد المستقبل، فلأن ذلك يجعلنا قادرين على تغيير الماضي.

العدد: 140   التاريخ 11/01/2012

نشرة الأفق

مؤسسة الفكر العربي

Share This