ثابت السُّويدي صاحب مأثرة!

لا أحد يعرف ما فعله ثابت يوسف السُّويدي (قُتل 1914)، وما هي مأثرة ذلك الشَّاب الموظف الجديد في الدَّولة العثمانية، ومؤكداً كم مثله قام بفعل شجاع وإنساني ضد واحدة مِن أفظع الجرائم، في القرن العشرين، وهي إبادة الأرمن والمسيحيين آنذاك (1914-1915)، وقد سبق أن كتبنا مقالاً ناقلين فيه مأثرة الأيزيديين في تلك الآونة.

‎يروي النَّائب في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) سليمان الفيضي (ت 1951) قصة السُّويدي، الذي ألتقى به وهو عائد إلى العِراق عبر حلب كشاهد على تلك الإبادة، يوم كان يشغل منصب قائمقام قضاء البشيرية في ولاية ديار بكر، والمعروفة في التَّاريخ باسم آمد. قال السُّويدي: «كنت اشغل قائمقامية قضاء البشيرية في ولاية ديار بكر، وجاءت أوامر الحكومة إلى الوالي رشيد بك الجركسي بذبح الأرمن القاطنين تلك الدِّيار. فأرسل هذا عصابة مِن الجراكسة تولوا ذبح الأرمن والمسيحيين على اختلاف مللهم، بصورة وحشية لا يمكن وصفها، لم ينج مِن أيديهم طفل ولا شيخ ولا امرأة».

‎وأردف قائلاً في ما فعلته حكومة الاتحاد والترقي بعد عزل السُّلطان عبد الحميد الثَّاني (ت 1918): «كان مِن الطَّبيعي أن اعترض على قتل المسيحيين العرب، الذين يشهد الجميع بأنهم لم يعصوا أمر الحكومة، ولم يكن لهم أدنى علاقة بالأرمن. وكتبت إلى الوالي أصف له المذابح البربرية، التي أرتكبها رجاله. فغضب مني وشكاني إلى اسطنبول، واتهمني بحماية الأرمن، فأمرت الحكومة بنقلي إلى قضاء روم قلعة مِن أعمال حلب، وها أنا ذا إلى القضاء المذكور» (مذكرات سليمان فيضي).

‎يقول فيضي إنه عندما وصل إلى بغداد واستقبله الأصدقاء افتقد أحد المقربين منه، وهو يوسف السُّويدي (ت 1929)، وكان مِن رجال اليقظة الفكرية، وعضو مجلس الأعيان في عهد فيصل الأول (ت 1933)، وشخصية معروفة في العهد العثماني من قبل المطبعي، أعلام العراق في القرن العشرين. فأسرع فيضي إلى داره، ووجده منكسراً كئيباً، وما ان أبلغه بلقائه بولده ثابت حتى أجهش في البكاء قائلاً: لقد قُتل ثابت! فقد دُبر قتله بمعرفة والي ديار بكر. فحسب رسالة وصلت لصاحب المذكرات فيضي أن الوالي المذكور خشي مِن ثابت أن يتصل ويخبر عن تلك المجزرة، ففتكوا به بعد ست ساعات مِن لقاء فيضي به بديار بكر، وافترق بهما الطَّريق. وبعد أن عُقدت الهدنة في الحرب العالمية الثَّانية فتح التحقيق في تلك المقاتل، فلجأ الوالي الجزار رشيد بك الجركسي إلى الانتحار.

‎تلك قصة القائمقام ثابت السُّويدي، الدالة على شعوره بالمسؤولية عمَن تولى إدارة بلادهم، والقيام بدوره مع معرفة ما سيلحقه مِن نقل أولاً وانتقام ثانياً. ماذا يحصل عندما يداخل الظُّلم النُّفوس إلى موقف تصبح فيه حماية أطفال ونساء وشيوخ تهمةً يُغتال عليها الإنسان، مع أن الدولة العثمانية شيدت أمجادها وقصور سلاطينها على هؤلاء الضحايا وسواهم مِن مسيحيين ومسلمين ممَن ليسوا على مذهب الدَّولة.

‎أقول: كم مِن المصادفات تؤرخ تاريخاً حافلاً، فلولا ذلك اللقاء العابر بين سليمان فيضي وثابت السُّويدي لضاعت تلك المأثرة، وأصبح ثابت نسياً منسياً. لا أشك في أنه بعد أن تهدأ النُّفوس ويستتب الأمن ويتعافى العِراق ستظهر قصص بطولات لمكافحين مجهولين ضد القتلة مِن قاعدة وميليشيات ومستهترين بدماء العِراقيين باستغلال الظرف العصيب.

د. رشيد الخيون

مجلة الأسبوعية

www.shams-alhorreya.com

Share This