كيف يُفتن العرب بـ “دكتاتور” تركيا الجديد ؟

بدل أن تتطلع دول التحول العربي إلى المعايير الدولية وتجربتها التراكمية في الحاكمية الرشيدة، التعددية السياسية والحريات الاعلامية على طريق بناء مستقبل أكثر عدالة، حرية وكرامة، وأقل فسادا وتهميشا- نسمع إطراء متناميا لتجربة الحكم في تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان الذي يبدو أنه تحول الى دكتاتور، في نظر العديد من مواطنيه.

نسمع في عالمنا العربي الجديد منذ هبوب رياح التغيير عن احتذاء تيارات إسلامية مدعومة من واشنطن بـ”تجربة تركيا” أو “أنموذج تركي”، وهي تحقق نصرا تلو الاخر في الانتخابات الحالية واللاحقة من تونس والمغرب إلى مصر.

لكن الكثير منا لا ينظر إلا للجانب المعلن من المشهد او ما يدعم توجهاته.

قد يشكل هذا الحزب النجم أنموذجا للتحول صوب الإسلام السياسي، لكنّ يتوارى خلف ذلك حكم شمولي بقبضة حديدية. وثمة من يتهمه في الداخل بأنه وظَف النمو الاقتصادي ليغطي الشمولية وقمع الحريات امتدادا لحقبة الاستبداد السابقة.

صحيح أن حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، الذي هيمن في الانتخابات الثلاث الأخيرة يقود الدولة دون أن يشكل تهديدا لنمط حياة المواطنين وحرياتهم، بعد أن نجح في المزج بين القيم الدينية ومبادئ العلمانية وفي تبني سياسات اقتصادية ليبرالية حققت معجزة نمو 9 % سنويا!

ويتعامل هذا الحزب مع حرية العقيدة على أساس أن “الدين لله والوطن للجميع”، لكن ليس لأنه حزب ذو جذور اسلامية يؤمن بالديمقراطية، بل لأنه يحكم تحت سقف جمهورية علمانية منذ 80 عاما وقوانين مدنية وليس تحت سقف الشريعة الإسلامية على عكس غالبية الدول العربية.

هنا تنتهي قصة النموذج التركي الجديد الذي فشل حتى اليوم في ترسيخ معايير الديمقراطية والحريات العامة. فالأضواء لا تسلط على سجل أردوغان “الأسود” فيما يتصل بالحريات العامة والتعبير والاعلام- التي تراجعت منذ 2006، وبحقوق الأقليات كالأكراد – 15.5 مليون من عدد سكان تركيا المقدر ب 75 مليونا. كما يرفض الاعتراف بمجازر الأرمن وغيرها من المسائل الداخلية والدولية الشائكة.

بقايا إعلام تركيا المحايد والمستقل يحتضر فيما يتهم أردوغان بتكميم الأفواه وتجاهل السلطة الرابعة.

كما تتوغل الحكومة على السلطة القضائية وتسيسها. أما سياساته الاقتصادية فخلقت تفاوتا طبقيا كبيرا بين القرى والمدن وتأججت شكاوى رجال أعمال ممن لا يندرجون ضمن “شبكة أصدقاء وأتباع رئيس الوزراء”، الذين باتوا يستحوذون على غالبية الفرص الاستثمارية والتجارية الداخلية وفي مناطق تمدد النفوذ التركي الجديد في الإقليم.

كما أن الكثير من مصادر الثروات المتحققة في تركيا هذه الايام والايداعات المالية تظل مشبوهة في غياب معايير الشفافية والمحاسبة.

وبالتالي فأن وضع الإعلام من سيء إلى أسواء، على غرار فترة حكم العسكر خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

خلال زيارة عمل إلى أسطنبول الأسبوع الماضي، صدمت من هول ما سمعته من عشرات الكتاب، المعلقين السياسيين البارزين، ونشطاء. زادت حالات التنصت والتصوير السري وتسريبها إلى مواقع انترنت ذات ملكية غامضة للاساءة لرموز المعارضة، بمن فيهم كتاب ومعلقون أو الجيش مع استبعاد الحكومة. يقول أحد الصحفيين المخضرمين: “نخشى مهاتفة أحد حتى من عائلاتنا، خشية أي تأويل يفسره المتنصتون لأي كلمة قد نقولها فيوظفونها كيفما يريدون بهدف افتعال تهم ضدنا في حال لم يعجبهم ما نكتب”. بالطبع، لا يستطيع أحد التطرق إلى هوية الجهة الخفية التي تستطيع التنصت على هؤلاء من دون أن يهدد ذلك أمن تركيا؟

القنوات التلفزيونية المؤثرة تتعرض لضغوط حكومية منها الخضوع لتدقيق مالي وضريبي. وفي المقابل تزدهر مؤسسات إعلامية اشتراها أو أسسها مقربون من حزب العدالة والتنمية م ويزداد عددها في غياب الشفافية حول تمويل بعضها.

يقبض على انفاس الصحافيين بثغرات وعبارات مطاطية في قانون الاعلام الذي يعود إلى حكم العسكر في ثمانينيات القرن الماضي.

قبل شهور، احتج صحافيون بعد أن طالبت وزارة العدل وسائل الاعلام بالكف عن دعم 73 صحافيا مسجونين على ذمة قضايا يتعلق معظمها ب”مخططات انقلابية”. فغالبيتهم متهمون بدعم “التنظيمات الإرهابية او مجموعات مسلحة”. التقديرات الخاصة تتكلم عن أكثر من 90 صحافي خلف القضبان غالبيتهم بدون محاكمة.

يقول المحتجون على هذه الممارسات “إنهم كانوا يواجهون التهم ذاتها سابقا ويخضعون لمحاكمات تستمر لسنوات في حال كتبوا عن القضية التركية أو حزب العمال الكردستاني، او تناولوا دور المؤسسة العسكرية في الحياة الصحافية”.

إضافة لتلك الممنوعات، يعاقب اليوم غالبية من يتعرض للحكومة أو يكشف علاقتها بجماعة “فتح الله غولان” – الداعية الإسلامي الذي حوكم سابقا بتهمة تقويض أسس علمانية تركيا — أو يبرز ادلة على تغلغلها وسيطرتها على مؤسستي القضاء والأمن. يتحول هذا الاعلامي الى “إرهابي” ويتهم بدعم التنظيمات الانقلابية بالاستناد الى قوانين مكافحة الارهاب التي تمتاز أيضا بمطاطية عباراتها.

أمام محكمة حقوق الانسان في أوروبا اليوم نحو 16 ألف قضية تتعلق بحرية الرأي، منها 1000 قضية تتصل بحرية الاعلام. وفي 2010، هبط ترتيب تركيا إلى 138 من أصل 178 دولة، على سلم مؤشر الحريات الاعلامية العالمية لمنظمة صحافيون بلا حدود، قبل إثيوبيا وروسيا الاتحادية على التوالي.

غالبية الصحافيين والمعلقين يمارسون رقابة ذاتية شبيهة بالماضي. ويخشون دائما ان يكون هذا اخر مقال رأي ينشر لهم قبل اقالتهم من مناصبهم على يد أدارات مرعوبة تضطر لمحاباة الحزب الحاكم لحماية مصالحها وضمان السترة.

تقول الصحافية الاشكالية أتشه تملكوران إنها فصلت من صحيفتها بسبب مقال رأي انتقدت فيه سياسات أردوغان. تعدّد هذه الصحافية أسماء زملائها والكتاب المعتقلين منذ فترات متفاوتة بسبب مواقفهم السياسية، مع ان أيا منهم لم يدعم العنف الذي يمارسه حزب العمال الكردستاني.

بعد حبس رئيس الأركان السابق بتهمة محاولة انقلابية بداية الشهر، تقول واحدة من أهم مقدمي البرامج الحوارية التلفزيونية أن مديرها طلب منها متابعة “أخبار الطقس، البندورة والصحة”.

غالبية المحطات التلفزيونية والصحف ووسائل الاعلام باتت تغير من خطها السياسي من باب كف الشر. في قناة “أن. تي. في” الاكثر شهرة وتأثيرا، فضلت المذيعة بانو غوفان قبل شهور الاستقالة بعد منعها من استضافة شخصيات معارضة في برنامج حوار تقدمه، علما انها من مؤسسي المحطة الفضائية. هذه القناة الاخبارية تواجه ضغوطا مستمرة على غرار محطة (سى أن أن) التركية ومجموعة “دوغان” الاعلامية.

محطة ستار الفضائية ألغت برامجها الحوارية السياسية، فيما يتواصل حجب مواقع على الشبكة العنكبوتية. بالنسبة لسياساته الخارجية، فهي مليئة بالتناقضات وتستهدف إحياء مجد السلطنة العثمانية، الأمر الذي لا يريده الكثير من الاتراك. مواقف أردوغان العلنية المتشددة من سياسات تل أبيب توفر له عصا سحرية لدغدغة مشاعر وعواطف العرب وكسبهم إلى جانبه كأنموذج للقائد الوطني الشجاع والعادل. من جهة تتزعم تركيا جبهة الرفض للممارسات الاسرائيلية وترعى اسطول الحرية خلال حصار غزة. لكن في ذات الوقت، لا أحد يقيّم حجم التبادل التجاري والعسكري مع إسرائيل أو يتوقف عند خبر سحب أنقره دعواها القضائية ضد قادة إسرائيليين لقتلهم نشطاء على متن سفينة العودة “مرمرة”، بعد أن كانت تركيا اشترطت اعتذارا رسميا وعلنيا من حكام تل أبيب.

من وقت لآخر تنتقد واشنطن ومنظومة الاتحاد الاوروبي سياسات أردوغان حيال الإعلام وحرية الرأي. لكنه لا يكترث. المؤسسة العسكرية التركية التي لطالما نجحت في حماية العلمانية، قد تتحرك مرة اخرى في مواجهة نفوذ أردوغان وحزبه بعد فشل سياسات الأحزاب العلمانية واليسار.

عودة الى عالمنا العربي المتغير. قد يكون من الأفضل الاستعانة ببعض ما جاء في تجربة أردوغان الاقتصادية وتفعيل مبدأ “الدين لله والوطن للجميع”، لكن لننظر أبعد صوب تبني معايير عالمية تتعلق بحقوق الانسان، والحريات المدنية والسياسية، ونعمل على ضمان مبدأ فصل السلطات وتداول السلطة.

فالخشية أن تمارس غالبية الأحزاب الصاعدة إلى الحكم في العالم العربي المتغير سياسات مماثلة في التهميش وقمع الحريات وتكميم الافواه، التي مورست ضدها لأن الواقعية أو الانتهازية السياسية تتطلب ذلك للبقاء في المنصب أو لأنها لن تستطيع كسر “عقدة الاضطهاد والتأمر”.

حتى الجمهور التركي المثقف الذي شارك في حوارات الدوحة الاخيرة في أسطنبول يوم 12 كانون ثاني (يناير) صوت لصالح ثيمة الحلقة “هذا الحضور يعتقد ان تركيا نموذج سيء للدول العربية الجديدة”. أذ خلص متحدثون في تلك الجلسة إلى أن لدى العرب من المشاكل مع الحرية والديمقراطية ما يكفيهم وليسوا بحاجة للتعلم منا.

رنا صباغ

وكالة عمون الاردنية

Share This