سلام العائلة والوطن في ذكرى الثورة

كل عام جديد‏,‏ هو نعمة تلو النعمة يغدقها الله علي حياتنا‏.‏ ونحن معشر المؤمنين نشكره تعالي علي كل لحظة يقيمنا فيها علي هذه الأرض‏,‏ وندرك أيضا أن وجودنا في الزمان والمكان هو عطية من لدنه تعالي وفرصة معطاة لنا لنكمل فيها عمل الخلق ولنسهم في بناء حياة إنسانية يتحقق فيها ويتجلي ملكوت الله علي الأرض‏.‏

وكم يجدر بنا ونحن في مطلع السنة التأمل في هذه المناسبة بتكريم الله لنا ومنحنا مسئولية قيادة نفوسنا, وفي نشر روح العدالة والحق والسلام, كل حسب طاقته وبمقدار الوزنات التي اؤتمن عليها. وما من شك في أن الله لا يتركنا في هذا العمل الجاد وحيدين عندما تعتري سبيلنا الصعوبات علي مختلف أنواعها, لأن قضية الإنسان التي نخدمها باسمه, هي قضية تعهدها السيد المسيح إلي حياة جديدة.

لقد جعلت الكنيسة عيد رأس السنة, عيدا عالميا للسلام علي الأرض. فيلتزم المؤمنون بواجباتهم تجاه السلام, ويمدون أياديهم إلي ذوي الإرادات الصالحة من أجل تجديد العزم علي إقامة السلام. سائلين عون السماء وإلهاماتها لينجحوا بترسيخ السلام علي الأرض ويبنوا سعادتهم ليؤلفوا عائلة واحدة لها في الأساس مصدر واحد, وفي النهاية مصير واحد.

بهذه الروح نوجه أنظارنا إلي العائلة ونحث الجميع علي خدمة السلام ابتداء من العائلة, لأن سلام العائلة الصغري يبدأ بمحبة الأهل لأولادهم وحمايتهم وتربيتهم علي مبادئ الخير, ومحبة القريب ومحبة الوطن والحفاظ عليه وعلي كرامته, والرفع من شأنه وازدهاره.

بهذا نعلن أن العالم كله هو أيضا عائلة ويجب أن يكون عائلة واحدة يربط أفرادها وطوائفها برباط المحبة والتضامن والسلام والأمان. إن العائلة هي أول مؤسسة للمجتمع, وعلينا أن ندرك جيدا مسئوليتنا الجسيمة في الحفاظ عليها وفي الطلب من الحكومات والدول أن تأخذها بعين الاعتبار في مقرراتها وفي سياساتها. وعلينا نحن أن نتأمل واجباتنا نحو بعضنا البعض باعتبارنا عائلة واحدة, وبهذا العمل نسير نحو السلام ونعيشه ونعطي درسا للذين يفتشون عنه ولا يعرفون كيف يجدونه. إن بداية الطريق نحو السلام هي قبول الآخر, تماما كما يقبل الزوج زوجته ليؤسسا معا عائلة جديدة مؤسسة علي المحبة والتضحية. والناس إن لم يقبلوا بعضهم بعضا كأهل وإخوة, فإنهم يتحولون مباشرة إلي أعداء, أو إلي مجموعة بشرية لا ارتباط بينها ولا جامع يجمع شتاتها. إنه العيش المشترك العالمي المبني علي حوار الأديان والثقافات وتلاقي الأفكار والمصالح المشتركة. والعالم تجاه ذلك إما هو نحو عيش مقبول, وإما نحو عيش مرفوض. وفي حالة القبول والرضي, تنظر الإنسانية إلي الكرة الأرضية كبيت واحد يضم الجميع. وقد أصبح الأمر ضرورة تفرض نفسها اليوم أكثر من أي يوم مضي, لأن ارتفاع حرارة البيئة بفعل الصناعات والتلوث في العالم بات يهدد هذا البيت وقدرته علي الاستمرار في احتضان ساكنيه والحفاظ علي صحتهم. وأما خيرات الأرض فإنها لجميع الناس, فلا يحق لأحد أن يحرم منها أحدا. ومن المعروف في هذا المجال أن عددا قليلا من الشعوب الغنية يسيطر علي الكثير من الخيرات علي حساب شعوب أخري تئن من الحرمان والجوع والجهل والتخلف ويتعرض الكثيرون من أبنائها, خاصة الشباب, للسير في طرق ملتوية تؤدي إلي الإرهاب والحقد والبغض القاتل. هذا, فإن الإنسانية لا تستطيع أن تعيش دون قيم الروح أو بعيدا عن الأخلاق الواقية من المساوئ علي أنواعها.

إن ما يهمنا في اليوم العالمي للسلام هو سمو اهتمام ذوي الإرادات الصالحة والخيرين من أهل الرأي في العالم بمصير الشعوب وتقدمها علي كل الأصعدة. فالعالم يطمح في السير للأمام والقوي الحية للتاريخ تعمل من أجل تطوير الحضارة الإنسانية نحو الأفضل, والحرية أصبحت مطلبا أساسيا, مثلها مثل الخبز والماء والهواء لما تعطيه للإنسان من كرامة وحقوق. وهذا لا يعني أن الشر يغيب من الأرض أو أن الدول القوية توقفت عن فرض مصالحها علي الضعفاء. لكننا نسعي من أجل الحق والعدل مع أهل الأديان جميعا في سبيل إحلال السلام وتوطيده في هذا البيت العالمي الكبير. وكلنا اليوم نرفع الصلاة من أجل أن تثمر هذه الجهود في العام الجديد خيرا وبركة علي الجميع.
أمام كل ما ذكرناه سابقا نسأل أنفسنا: أين هي مصر في هذه الأيام؟ وكيف حال هذا البيت ووضعه, الذي هو بيتنا؟ وهل نحن بالفعل أهله وسكانه نعمل بروح الوحدة من أجل إقامة السلام في ربوعه؟

ننطلق أولا من العيش المشترك الذي يميز مصر في هذا المجال الإنساني العظيم. ومن وحدتنا الوطنية التي مع الأسف تكاد تتمزق لكثرة المشادات والاختلافات بين أهلها ولقلة الثقة التي يكنها كل طرف مسئول للطرف الآخر. فهل هذا يجوز؟ وهل بهذه المعاملة السلبية ننقذ مصر وشعبها؟ ونأتي ثانيا إلي بيتنا الواحد ووطننا المعذب في هذه الأيام مع أوطان عربية وشعوب أخري خيم الإرهاب والخوف والحرب عليها. فإننا لا نتفق علي مصالحه بصورة كاملة. ولا نعطيه الأولوية الكافية لتأمين هذه المصالح المشتركة تجاه جميع أبنائه. لذلك نري الشباب لا يجدون لهم عملا فيقصدون بلاد الله الواسعة تاركين وراءهم أهاليهم وعائلاتهم وأولادهم بحثا عن لقمة العيش والحياة الرغدة, فيما الأبواب مشرعة والمنافذ مفتوحة لكل عابث بالأمن ولكل معتد علي حياة الناس وأرزاقهم وكرامتهم دون القدرة علي تأمين رادع أو إقامة حسيب. ألا نشعر بالذنب الوطني الذي لا يستثني منا أحدا؟ وهل نعترف ـ علي الأقل ـ بأننا منذ اليوم الأول لثورة25 يناير حتي اليوم لم نتمكن من التوافق الراسخ حول مصير مصر ومستقبلها؟ وهل يحق لنا أن نهدر دم الشهداء الذي أريق في سبيل حرية مصر وكرامتها وازدهارها؟ وهل يحق لنا أن نضيع الفرص التي هيأها الثوار لنا وتسرق الثورة من أيدينا؟؟!!

إن واجبنا الوطني تجاه هذه اللوحة الي ترسم لعيوننا عذاب الوطن يكمن أولا باتخاذ قرار جريء وواضح أن نقلص أيام المحنة والصعوبات التي يمر بها بلدنا. فبدلا من التأجيل تلو التأجيل نأخذ الموقف الحاسم بألا نترك للغد ما يجب أن نفعله اليوم دون تردد. ونستلهم روح الآباء والأجداد الذين صنعوا وحدة مصر, فيكون لنا رئيس يرمز إلي هذه الوحدة ويصونها, وتكون لنا حكومة اتحاد جامع, مبنية علي الثقة بوطنية الجميع وبمحبة الجميع وخدمة الجميع لبلدهم دون تمييز بين إنسان وآخر والتقرب من بعضنا البعض دون خوف. وإن كان الله يمنحنا اليوم عاما جديدا فهو فرصة لحياتنا لنملأها محبة وسلاما وغفرانا ومسامحة ومصالحة وأمانا واطمئنانا. فعلينا أن نتجدد في محبتنا لمصر.

فيا رب السماء والأرض احفظ لنا مصرنا واحم شعبها وأبناءها من الخلافات والمنازعات وألهمنا جميعا ما فيه خير وسلام عائلاتنا وخير وسلام وطننا في هذا العام الجديد.إن لك الزمان يا رب ولك الأبد ونحن محاسبون عن مسيرتنا في الزمان وصولا إلي رؤية وجهك الكريم. فاسترنا برحمتك وقنا بحبك وسلامك وأنزل علينا وعلي بلادنا وأوطاننا وعلي الشرق الأوسط والعالم سلامك الإلهي واشملنا بفيض من نعمك وبركاتك.

المطران كريكور أوغسطينوس كوسا

أسقف الأرمن الكاثوليك في القاهرة 

الأهرام    

 

Share This