مطران جبل لبنان جورج صليبا: ندعو الأتراك لإعادة حساباتهم بشأن المجازر

أجرى الحوار: يعقوب جوزيف قريو

في إطار طرح مجلة “إشراقات عشتروت” لقضية الأراضي السورية السليبة وما نجم عنها من إبادة بشرية لسكان المنطقة آنذاك، نلتقي مع مطران جبل لبنان “جورج صليبا”، الذي تنحدر أصوله من مدينة “نصيبين” السورية “السريانية”، وهو المطلع العارف بكل خفايا المؤامرة التي نُفذت ضد السوريين السريان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فكان لنا معه هذا اللقاء المفعم بالمعلومات.. علمنا أن الحكومة التركية قرَّرت إعادة أملاك الكنائس والأديرة الأرثوذكسية الكائنة على أراضيها إلى أصحابها، وهي التي تمت مصادرتها في ثلاثينيات القرن الماضي..

ما رأيكم في هذه الخطوة؟ وما هي الظروف التي أدت إلى مصادرة تلك الأملاك؟

أنا لا أعرف ما إذا كان الأتراك سيعيدون الأملاك المنسية للسريان الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس. ربما سيعيدون أملاك الكاثوليك أو بعض المسيحيين الآخرين، لذلك فإن هذا السؤال غير واضح بالنسبة لي. علمًا بأن هناك بعض الأديرة التي تخص السريان الأرثوذكس مازالت موجودة بأيدينا في منطقة شرقي جنوب “تركيا”، الإ أننا نذكر بعض الأديرة التي تمت مصادرتها ولم يحافظوا عليها كأديرة. فعلى سبيل المثال في “اورفا” كان لنا دير “مار جرجس” ودير “مار بطرس وبولس” اللذين تم العبث بهما؛ فدير “مار بطرس وبولس” تم تحويله إلى معمل أسمنت، ودير “مار جرجس” تم تحويله وبكل صفاقة إلى جراج. وحسب شهود عيان زاروا المدينة آنذاك فقالوا: إنه اُستخدم كأسطبل للحيوانات وبعد ذلك تم تحويله إلى مؤسسة عامة. ولكن هناك أديرة في منطقة جنوب شرق “تركيا” وفي مدن مثل “ديار بكر” و”أورفا” و”آل عزيز” و”خربوت” و”ماردين” و”طور عابدين” ماتزال بأيدينا، وهذه المنطقة أصولها سريانية. أما في “أورفا” فقد كان يقيم إلى جانب السريان الكثير من الأرمن. ففي هذه المنطقة بقيت أغلب الأديرة معنا، لكنهم صادروا أديرة الروم والأرمن. لكن الروم والكاثوليك والكلدان الموجودين في منطقة جنوب شرق تركيا هم سوريون أيضًا، أليس كذلك؟ ** نعم هم من سكان المنطقة. وهنا نلفت إلى أن الروم قسمان، منهم اليونان ومنهم الروم من أصل سوري، أما جنوب شرق “تركيا” فإن سكانه هم من السوريين السريان. كما نلفت إلى أن ولاية “ماردين” و”مديات” و”آزخ” و”آربو” المتاخمة لشمال الجمهورية العربية السورية- ومنها منطقة “طور عابدين”- فإن سكانها هم من السريان الأرثوذكس مائة بالمائة، ولابد من ذكر أن حالة الفوضى وتنامي الأحقاد دفعتهم للتعدي على الكنائس والأديرة، ففي “المنصورية” سيطروا على كنيسة “مارسيا الحكيم” وحوَّلوها إلى جامع باسم “محمد الحكيم”، وهناك قرى ومدن أخرى سيطروا على كنائسها، أما الأديرة الشهيرة فلم يسيطروا عليها. وفي منطقة “البشيرية”، سيطر الأكراد على دير “مار قرياقص” الذي عاثوا فيه فسادًا، فتحوَّل إلى خراب، وكان من أهم الأديرة في المنطقة. وهناك عشرات الأديرة التي لا نعرف تاريخها، فقد انقرضت ولا نعرف عنها شيئًا.أما دير “الزعفران” فمازال معنا، وكذلك دير “مار يعقوب” لكنه مهجور مثله مثل دير السيدة. أما كنيسة “مار يعقوب” ومدرسة “السريان” في مدينة “نصيبين” فمازالا في أيدي السريان. يبدوا أن لدى الأتراك سياسة معتدلة، والغاية منها عدم إثارة بعض المواقف ضدها، خاصةً في مثل هذه القضايا.

ما هو أثر ذلك على موقع هذه الأديرة وهذه الكنائس من الجانب الديني والاجتماعي؟

لقد تم العبث في بعض هذه الأديرة بعد أن هاجر أجدادنا وأباؤنا من المنطقة تحت وطأة الحرب والقتل والمذابح، وخاصةً بعد اتفاقية “سايكس بيكو” عام 1916 اللعينة التي كانت غايتها ضرب الأرثوذكس قبل أي شيء آخر، إذ سلخت كل الولايات التي كان يتواجد فيها الأرثوذكس وأُعطيت للأتراك، كما أُعطيت “لواء إسكندرون” و”أنطاكية” لهم لأن معظم سكانهما كانوا من الأرثوذكس. أما “أنطاكية” فلأنها تمثل الكرسي الأنطاكي للكنائس الشرقية حيث قرَّروا سلخها عن أرض الأجداد سورية. وهذا يعني الكثير للمسيحيين المشرقيين الذين يُحاربون بسبب مذهبهم الأرثوذكسي، وتم كل ذلك في ظل السيطرة الأوربية خاصة “فرنسا”. وهنا أقول، وسجلها على لساني: “إن الأوروبيين يكرهون الأرثوذكس”، وهم تآمروا علينا وعلى أرض أجدادنا على الرغم من أن تاريخنا ضارب بأعماق هذه الأرض. ونحن لا نرى أن الأوروبيين مسيحيون، بل هم بالاسم كذلك. فلا نقبلهم كمسيحيين، وليس عندهم أي شيئ من المسيحية، فهم ضد المسيح. حتى أن موقفهم الأخير في “كوسوفو” يؤكّّد حقدهم على الأرثوذكس، حيث أعطوها للألبان وهي أرثوذكسية مائة بالمائة، كما حدث في “لبنان” عندما كانوا يريدون إعطاء جنوب “لبنان” للفلسطينيين. ونقول هذا على سبيل الذكر والمقارنة ليس أكثر؛ لأنهم ينطلقون من مصالحهم الخاصة. عذرًا.. نريد أن نحصر الحوار بما يخص منطقة “جنوب شرق تركيا”، وهي الأراضي التي تم ضمها إلى “تركيا” بظروف خاصة.. أرجو بيان هذه الظروف، وكيف تم تقسيم المنطقة؟ وما هو اتفاق سكة قطار بغداد برلين؟ ** بمؤامرة بين “ألمانيا” و”فرنسا” وإنجلترا” والعثمانيين، تم الاتفاق على تقسيم المنطقة حسب الخط الحديدي الممتد من “بغداد” إلى “برلين”، حيث اعتبر شمال خط سكة القطار للأتراك أما في جنوبه فقد أصبحت الأراضي سورية. وبهذه الطريقة تم سلب أراضينا السورية ذات الغالبية السريانية الأرثوذكسية وضُمت إلى “تركيا”، مما أتاح للأتراك العبث بأهلنا وشعبنا وممتلكاتنا وبالكنائس والأديرة الكائنة في منطقتنا “ماردين” وتوابعها و”ديار بكر” وتوابعها، وهي أراض سورية سريانية مائة بالمئة. ولنا عتب على الغرب لأنه عمل من أجل مصالحه وكان يمارس العنصرية الدينية والمذهبية، فتآمر علينا كل من البروتستانت والكاثوليك، وساهموا في قتلنا وتهجيرنا بهدف إخلاء المنطقة وتركها للأتراك. وبحسب الاتفاقية المبرمة المذكورة صرنا في الشمال أتراكًا وفي الجنوب سوريين..

اذكر لنا أولى المجازر التي استهدفت السريان.. متى وكيف وأين كانت هذه المجزرة؟

في عام 1895 كانت هناك مؤامرة ألمانية فرنسية إنجليزية قضت- وبالاتفاق مع العثمانيين- بارتكاب مجازر في “ديار بكر” ذهب ضحيتها مائة وثمانية عشرة ألف من السريان الأرثوذكس، إلا أننا نؤكِّد أنه خلال المرحلة العثمانية كانت تُرتكب مجازر بحق أفراد وجماعات بين فترة وأخرى في قرانا ومدننا، إلا أن المذبحة الأولى كانت في “ديار بكر” وتوابعها وسُميت بمجازر “سيفو ديار بكر” يعني “سيف ديار بكر”، وأخذوا كل منطقة “البشيرية” و”آل عزيز” وغيرها.. واستمرت المجازر ضد السريان حتى بدء المجازر ضد الأرمن، فصارت أوسع وأكبر وأشد قتلًا وفتكًا، وامتدت أكثر من عقدين من الزمن.. لقد قمت بترجمة كتاب عن اللغة السريانية بعنوان “الدم المسفوك” للملفونو “عبدالمسيح نعمان قرباشي” الذي يروي فيه جملة مذكرات كشاهد عيان في المجازر العثمانية ضد المسيحيين السريان والأرمن الأرثوذكس وغيرهم من المسيحيين في المنطقة، وسفك الدم هذا كما ذكرنا حضر وخطط له الأوروبيون واستفاد منه العثمانيون الطامعون بأموال المسيحيين وأملاكهم، وتم التعدي على الأعراض المسيحية، واُنتهكت الحرمات، وتم سبي النساء المسيحيات. وكتاب “الدم المسفوك” يوضِّح تلك الجرائم التي انتشرت في القرى والمدن والمناطق. والمرحوم البطريرك “أفرام برصوم” الذي كان شاهد عيان بفترة من الفترات كتب إلى وزير خارجية كل من “فرنسا” و”بريطانيا” وأعطاهما لوائح بأسماء القتلى والجرحى والمهجرين والقرى التي تم إبادتها… قتلونا كرهًا بديننا لأنهم يكرهون المسيح والمسيحية، والذي شجَّعهم على ذلك الأوروبيون في “فرنسا” و”بريطانيا” و”ألمانيا” آنذاك. وقد سميت عملية القتل والتشريد والتهجير وانتهاك الأعراض بالسوقيات.

لماذا سميت بالمذابح الأرمنية ولدى السريان كل هذه الضحايا؟

يومها كان الصراع عثمانيًا أرمنيًا لأن الأرمن كانوا قد شاركوا بالحكم العثماني واحتلوا مراكز عالية، وكانوا أناسًا مثقفين ومتعلمين، وعلى المستوى المهني والصناعي والاجتماعي كانوا يتبوأون مكانة مرموقة، وكانوا يحتلون مراكز بالجيش العثماني، وكان لهم حضور اقتصادي كبير. كل هذه الظروف كانت تخيف العثمانيين من قوة الأرمن، فكانت الغاية العثمانية- وبالتنسيق مع الأوروبيين- التخلص من الأرمن الأرثوذكس، وحتى يتخلصوا من الفكر المسيحي المتنور فحصلت المجازر.

هل هناك خلافات جغرافية مع الأرمن؟

نعم. هناك أراض أرمنية تم الاستيلاء عليها من قبل العثمانيين الذين أقاموا دولتهم على أراضي الغير من أرمن وسريان ويونان، لكن نحن السريان لم نعتد عليهم، ولم نحمل يومًا سلاحًا أو سكينًا. نحن شعب آمن كنا نعيش في مدننا آمنين محبين لكل الناس، مقتنعين بديننا ومسيحنا، متسامحين مع الجميع. إلا أنه بعد الفوضى التي حصلت، وبعد صدور الفرمان العثماني بقتل جميع المسيحيين، فكان القرار ينص أن لا فرق بين البصلة البيضاء والحمراء، عليكم قتل الجميع، فعندما كان العثمانيون وأعوانهم يطرقون الأبواب على السريان يسألونهم هل أنتم من أرمن؟ فعندما يجيبون بأنهم سريان يقولون المسيحي هو مسيحي لا فرق بينكم، فكانوا يرتكبون المجزرة في هذا البيت لينتقلوا إلى بيت آخر.. وهكذا كانوا يقومون بعملية المسح للقرى والمدن حيث تسيل الدماء وتتدحرج الجماجم وتتناثر الجثث.

من هم العثمانيون؟ ومتى تأسست إمارتهم الأولى؟

تأسست الإمارة العثمانية على يد “محمد الفاتح” الذي فتح القسطنطينية وحول اسمها إلى “إسلام بول”، وهم خليط من القبائل الطورانية المتعصبة، وكانوا من بقايا التتار والتركمان القادمين من “تركمانستان”، وورثوا عن “تيمورلنك” مهارة قتل كل إنسان غير مسلم أو إجبارهم على الدخول في الإسلام، حتى جاء “مصطفى كمال أتاتورك” 1924 وأسَّس الدولة العلمانية وأراحنا منهم.. * هنا سؤال يطرح نفسه: كيف أُقيمت الدولة التركية؟ ** “تركيا” أُقيمت على حساب اليونان الأرثوذكس وأراضي الأرمن الأرثوذكس وأراضينا نحن السوريين السريان الأرثوذكس، وإن كان هناك تواجدًا للكلدان الذين تركوا الأشوريين، فإن هذا خلاف مسيحي مسيحي ليس هو موضوع حديثنا الآن…

هل هناك حادثة مؤثرة تحب ذكرها على سبيل الذكر لا الحصر؟

الحوادث المؤثرة فعلًا لا تُحصى، إلا أنني أروي لك عن عائلتي. فوالدي كان يخدم في الجيش على البحر الأسود في الحرب العالمية الأولى، وعندما عاد إلى “نصيبين” حيث تسكن عائلتنا، سأل عن والده ووالدته، فقالوا له: “قُتلوا في المجازر”. وسأل عن أعمامه وأولاد عمه، قالوا له: “ذبحوا بمذابح السوقيات”. وسأل عن أخته وأولادها، فقالوا له: “إن الجميع قد قُتل”. فنجا هو وأخته “وردة” التي كانت في “أنحل” في زيارة عند بيت قريبنا في الميرون، و”أنحل” هي مدينة تقع في جبل “طور عابدين”، وهي تابعة لـ”ماردين”، ولما عاد والدي ذهب وعاد بها إلى “نصيبين”. وهناك عائلات أُبيدت بشكل كامل وانقطع نسلها.. عندنا جيران يُسمونهم بـ”يت مخي” (ميخائيل) أُبيدت العائلة بأكملها ولم يبق لهم أثر. واليوم عندما نذكر أمواتنا في الصلاة نذكرهم؛ لأننا في الكنيسة عندما نذكر الأموات نقصد هؤلاء الذين ذكرناهم والذين لم نذكرهم… إن هذه المعارك أبادت عائلات ومدنًا وقرى عن بكرة أبيها، فكانت حربًا لإبادة الجنس البشري، والقائمون عليها كانوا فاقدي الإحساس الإنساني، والذين بقوا على قيد الحياة إما أجبروهم على الدخول في الإسلام، أو شُرِّدوا وهربوا، وآخرون قُتلوا وقطعت أواصرهم إربًا إربًا.. ولدينا مئات القصص في كل بيت وكل عائلة من عائلاتنا تستطيع أن تروي عشرات الحوادث المؤلمة.. أما بالنسبة إلى حادثة “مركدة” التي تقع على الطريق المؤدية إلى دير الزور، إذ تم سوق الكثير من السريان مع الأرمن منهم قُتل على الطرق، وفي “مركدة” كانت المجزرة الكبيرة أيضًا حيث قُتل كل الذي تم سوقهم إليها.. هذه هي أعمال العثمانيين الشرفاء!.

لماذا تُذكر مذابح الأرمن أما السريان يتم التعتيم عليهم؟

الأرمن كان لديهم تنظيمات سياسية، وكان لهم وجود على المستوى السياسي، وعندهم ارتباطات في “إسطنبول”، أما نحن السريان لم يكن لدينا أحد في “إسطنبول” ولا في “أنقرة”، والأرمن كان عندهم مسئولون في الجيش.

أخيرًا.. هل تحب أن تضيف شيئًا؟

نتمنى من الحكومة التركية الحالية أن تعيد النظر في هذه الجريمة التي اُرتكبت بزمن العثمانيين، وتعوِّض العائلات والكنائس معنويًا وماديًا، وتفسح المجال للأجيال لترى تراث الآباء والأجداد. ونحن ليس لنا أي عداء مع الأتراك، خاصةً الحكومات المتعاقبة بعد عهد القائد “مصطفى كمال أتاتورك”، وأنا أتكلَّم كسرياني.. لا يوجد عندنا أي حقد، إلا أنه تبرز أحقاد عند الأتراك التي تظهر من خلال بعض الممارسات. لذلك نطلب من الحكومة التركية العلمانية أن تراجع حساباتها، وهي دولة حضارية بهذا الزمن، لكن بكل أسف أن العلمانية بهذه الأيام تتراجع عندها، ونتمنى أن يبقوا على العلمانية لأنها مقبولة من الله والناس.


الجمعة ١٣ يناير ٢٠١٢

http://www.copts-united.com

Share This