أردوغان وطريق العودة إلى دمشق عن طريق موسكو

“ألقاب مملكة في غير موضعها كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد” ـ أبو البقاء الرندي/ شاعر أندلسي

لعل أشد ما ينطبق على السيد رجب طيب أردوغان المثل الشعبي الرائج: “من يخلعْ ثيابه يُصِبْهُ البَرْد”. لكن المتتبع سيكتشف بأن أردوغان فعلها منذ أيام (أستاذه) نجم الدين أربكان الذي أدرك بعمق بصيرته مع رؤيته الإسلامية الراسخة أن مستقبل تركيا هو بالاستدارة إلى شرقها. والكف عن التملق للغرب الذي لن يقبلها إلا خفيرا في الحلف الأطلسي يتلقى الضربة الأولى. ونقول “خفيرا”! انطلاقاً من رأي الخبراء العسكريين حيث وجدوا بأن نوعية السلاح التي بيد الجيش التركي لا تتناسب وحجمه الضخم ـ الثاني في التعداد ـ. وهو بقناعتهم مُعدٌّ لتلقي الصدمة الأولى، والإعاقة فقط. وذلك بالنظر للمستوى التقني الأدنى له قياساً لما في حوزة أعضاء الحلف الأوروبيين من أسلحة متطورة. ومن المؤكد قياساً بما لدى كيان العدو الصهيوني!. أما الأستاذ اربكان فقد كان كاشفاً لتلميذه من قبل حتى وصفه عام 2007: “تلميذ فاشل هرب من المدرسة من الباب الخلفي ” صحيفة  الشرق الأوسط” عدد 1055ـ.

والحقيقة أن ما أسماه اربكان بالهروب كان انقلاباً من التلميذ على مبادئ حزبه: (الرفاه) الإسلامي. غير أننا الآن لسنا في وارد نبش التاريخ الذي ما زال غير بعيد. لكن ما يهمنا منه الآن أن أردوغان اعتقد منذ اللحظة الأولى بأن لا مستقبل لحزب “العدالة والتنمية” إلا بالتقاطع مع أمريكا!. وهذه مسألة معروفة وكان عرّابها “صديقه!” غراهام فولر مدير مكتب الـ CIA في أنقرة. إذ كان هذا الأخير صاحب نظرية تدعو إلى “إنهاء الأتاتوركية ودعم الإسلام المعتدل”! ليتم منه نشر “أفكار السوق الحرة” ثم لتعميم هذا على “كل بلدان الشرق الأوسط والقفقاس”!.

لكن أردوغان لم يقرأ جيداً إمكانيات الجغرافيا، وجديد الحاضر، حتى تخيل بأنه قادر أن يستعيد تاريخاً “للباب العالي” مضى وولّى!.

كان في البداية أكثر واقعية عندما حصر أفقه في إطار المنظومات الاقتصادية، من حيث تبادل المصالح والأدوار. فكانت اتفاقية التجارة الحرة مع سوريا. الاستثمار في الأسواق الحرة الداخلية السورية. السوق الحرة المشتركة مع إيران. التبادل التجاري بين البلدين بلغ رقماً قياسياً ـ 30 مليار دولارـ، مع تطلع لضم أذربيجان سريعا إلى السوق هذا كمقدمة لخطوة مماثلة مع روسيا. ومنها أيضاً المشاريع المشتركة مع هذه الأخيرة لضخ الغاز إلى شمال أوروبا عبر البلطيق فيما يسمى “التيار الأزرق”، ومؤخراً الاتفاقية لضخه إلى جنوبها ـ “السيل الجنوبي” ـ عبر المياه التركية في البحر الأسود.

والحقيقة ان ما فعله أردوغان جاء بناءً على توصيات الوثيقة التي وضعها مجلس الأمن القومي التركي والتي تعرف أيضا باسم “الكتاب الأحمر” أو “الدستور السري”، وقد جرى فيها لأول مرة شرح مسهب لمفهوم “ضمان الأمن الاقتصادي القومي”. وجاء فيها، أن أحد الاتجاهات المحورية لحل هذه المسألة يتمثل في تحويل تركيا الى مركز عالمي لمرور وتخزين موارد الطاقة

تجدر الإشارة إلى أنه من بين ما ورد في الوثيقة المذكورة رفع أسماء كل من سوريا وروسيا وايران واليونان من قائمة الدول التي تشكل “تهديداً للأمن القومي التركي”. وإذا علمنا بأن هذه الوثيقة قد جرى إصدارها في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2010، وأنها تخضع للمراجعة كل خمس سنوات، لأدركنا سبب تذمر الجيش، والأجهزة الأمنية من أردوغان بسبب انقلابه على هذه الوثيقة. هذا بصرف النظر عن تداعياته لو سلك الأمر طريقه إلى التطبيق!.

قايض أردوغان على مكتسبات ملموسة مقابل سرابٍ باعه له الأمريكيون.. وعليه انضم إلى اللعبة موعوداً بترتيبات تُحَضَّر عربيا لخربطة الوضع السوري تضعه أمامه على طبق من فضة. ما أطلق لخياله العنان كي يصبح طبعة ( عصرية!) لسلاطين بني عثمان!.. لا شك بأنه وغول اقتنعا بأن القوس الممتد من تونس الى مصر وسوريا سيضع بالتواتر بلاد الخليج في (العباءة العثمانية الجديدة)، من باب (الثقل الاستراتيجي) الذي يعززه إمساكه بحاجاتها المائية يبيعها لها من سدوده المنتشرة جنوباً!.

لقد اقتنع الثنائي: غول ـ أردوغان بأن مجرد تبني أمريكا للمشروع فإن حظوظ نجاحه سترتفع!، كما وجاء من يقنعهما بأن روسيا لن تذهب في الوقوف مع سوريا إلى آخر الشوط وستكتفي (بجنة!) الاتفاقات النفطية مع تركيا. إذ لم يخطربمخيلة هذين بأن روسيا لا تبيع بالمفرق!. وأن التضحية بسوريا لا تعني وحسب تصفية آخر قواعدها في “المياه الدافئة” كما يتصور البعض؛ وإنما أيضاً تحطيم قاعدة السد الكبير في وجه التمدد الأمريكي إلى وسط آسيا الممتد من شرق المتوسط إلى إيران!. وهذا أيضا هو أشد ما يقلق الصين. فضلاً عن المس المباشر بالأمن القومي للجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الحد الذي جعلها تقفز فوق مصالحها الاقتصادية مع تركيا لتبعث برسائلها لهذه الأخيرة ومفادها بأنها لن تتردد في ضربها فيما لو ضربت سوريا.

ثم لم يخطر ببال اردوغان وبعض شركائه ان التيارات الإسلامية برعاية أمريكية كما حلم به صديقة فولر لتعم “كل بلدان الشرق الأوسط والقفقاس”! هي خط أحمر في منظور الأمن القومي الروسي، والصيني بالآن معاً!. حيث يشغل المسلمون المرتبة الثانية في التعداد السكاني لكليهما! بعد هذا العرض نلمس مدى بعد نظر اربكان عندما وصف اردوغان بالتلميذ الفاشل!.

أما غول فيقول: “ان السوريين لا يجرؤون على اللعب في الورقة الكردية”، وقد يكون هذا صحيحا ولسبب جوهري هو أنها مثل الروليت الروسي! في هذا الظرف بالتحديد. مغامرة غير مضمونة. لكنها قد لا تكون كذلك عند الروسي بل هو سعى إليهاً! بعدما ركب التركي رأسه مستقدما الدرع الصاروخية الأمريكية إلى حدوده! فقد تسربت معلومات عن اتصالات خافتة بين موسكو وقيادات كردستان العراق عن عروض منها دعم أكراد تركيا عسكرياً للاستقلال بجنوبها الشرقي مقابل مقايضات لا تمس أمن ومصالح سوريا، وإيران. أمور هي حتى الآن في طور جس النبض الذي تقوم به الدول الكبرى وهي تبحث عن نصيبها على طاولة لعبة الأمم. لذلك فإن عيون “إسرائيل” في أربيل كانت تتابع الأفكار الروسية في مخطط الشرق الاوسط الجديد المعاكس للمخطط الأمريكي!!، من غير أن يقلقها ان “تتخفف تركيا من أثقالها الجغرافية” على حد تعبير أحد الصحفيين الأتراك!. لكن قلقها الوحيد ينصب في أن دعم روسي لأكراد تركيا بنفس زخم دعم الغرب للمجموعات السورية المسلحة، قد يعطي نتائج لمصلحة سوريا في لعبة تبادل الاوراق!.

أردوغان خسر المعركة فعاد ليخفض صوته، وقيل بحسب صحفي تركي قريب من المطبخ السياسي في أنقرة إن مستشاريه نصحوه “بالصلح مع الأسد، أو مهادنته”. وبحسب نفس المصدر بعث أردوغان “سراً يطلب المصالحة” لكن الأسد لم يرد، وأتاه من الروس التالي: “الأسد مشغول الآن بدفن الجنود الذين قتلهم المسلحون بالسلاح الذي أرسلته إليهم”!

الرسالة باتت واضحة. ويبدوا أن أوغلو ـ أردوغان قد استوعبا جيدا قواعد الاشتباك. ومن يفعلْ يعرفْ قواعد فَضِّه. الأمر بتقدير العديدين ينتظر عودة بوتين إلى الكرملين في الربيع القادم.

لؤي توفيق حسن 

الانتقاد

يذكر أن جريدة “أزتاك” الأرمنية قد نشرت المقالة مترجمة الى اللغة الأرمنية بتاريخ 21/2/2012.

Share This