إبادة الأرمن و باسبارتو

    غريب أمر فرنسا فهذا البلد الذي يعاني تاريخياً من عقدة النقص أمام المملكة المتحدة مستعد لعمل أي شيء من شأنه أن يضعه في مقدمة الجارة الشمالية. ولكن بلا جدوى على الأقل حتى الآن. وهذا ربما ليس من قبيل الصدفة. فمن قرأ القصة المشهورة حول العالم في ثمانين يوماً “Around the world in 80 days ”  التي ألفها جول فيرن ونشرها عام 1873 لابد وأن لاحظ الفرق بين فيلياس فوج الارستقراطي الانجليزي وخادمه الفرنسي جان باسبارتو. فهذه القصة رغم طرافتها توضح البون الشاسع بين التركيبة الذهنية للانجليز والفرنسيين.

لقد أجاد جول فيرن في قصته وتحليله للذهنية الفرنسية. وإلا فإن تجربة فاشلة مثل كمونة باريس ما كان لها أصلاً أن ترى النور في غير فرنسا. وهذا أيضاً ينطبق على ثورتهم الدموية والتي حقق الانجليز نتائج أفضل منها دونما إراقة لقطرة دم. فباسبارتو بعصبيته واستعجاله الدائم، كما في القصة المشار إليها، هو اليوم مثل البطل الكرتوني طرزان أمامنا يغامر ويستعرض عضلاته في الكثيرمن المشاهد الفرنسية. وإلا فما الذي يدفع فرنسا إلى إقحام أنفها في مذبحة الأرمن التي حدثت بين عامي 1915 و 1916 واستفزاز تركيا التي تربطها بها علاقات اقتصادية متقدمة؟!

وأنا هنا لا أقصد التخفيف من وقع هذه الجريمة النكراء التي حلت برأس واحد من أعرق الشعوب وأكثرها رقة وإحساساً. فالأرمن يحتاجون دون أدنى شك إلى الدعم والإنصاف من المجتمع الدولي. ولكن الانصاف لا يعني أن تتحول المذبحة إلى تابو يمنع الحديث عنه. فالكثيرمنا لم ينس ربما ردود فعل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردغان قبل وبعد مصادقة مجلس الشيوخ الفرنسي في يناير الماضي على قانون تجريم إنكار “إبادة الأرمن” وتذكيره الفرنسيين بجرائمهم في الجزائر وقتلهم ل 15% من سكانه منذ عام 1945. ومثلما هو معروف فإن الجزائريين منذ زمن وهم يطالبون فرنسا الاعتراف بجرائمها المرتكبة ضدهم خلال فترة الاحتلال.

ولذلك حسناً ما فعله المجلس الدستوري الفرنسي عندما رفض المشروع المصادق عليه. فنحن الآن لا نعيش في القرن الثامن عشر بل في القرن الواحد والعشرين، قرن الآيفون والآيباد والفيس بوك وتويتر، الذي لا يعرف أو لا يعترف بالحدود والممنوعات. فما بالك بفرض القيود المصطنعة على المتخصصين والعلماء الذي هم أولى من غيرهم بحرية البحث والمناقشة والتعبير- خصوصاً في بلد أوروبي يعتبر نفسه حاميا للثقافة ومدافعا عن حرية التعبير، فالخلق المصطنع لمناطق فكرية معزولة عن النقاش لا يتناسب مع منطق العصر وبالذات في أمور التاريخ التي تحتاج إلى البحث والجدل أكثر من غيرها.

إنه لأمر مستغرب كيف يمكن للفرنسيين أن يتعايشوا مع هذا الانفصام بين القول والعمل. ولكنها لعنة باسبارتو التي تجعل باريس تتقدم على كل ما سواها في فرض القيود على المتخصصين في قول كلمة الفصل في واحد من فصول التاريخ الدموية. فما حصل للأرمن كان يفترض أن يترك للباحثين وعلماء التاريخ لينطقوا فيه حكمهم والرئيس الفرنسي على ما يبدو لي ليس واحداً منهم.

د. عبدالله بن عبدالمحسن الفرج

الرياض

Share This