ألين كاماكيان: Armenian Cuisine سفير الأرمن إلى العالم

سليمى شاهين

 

باربارا دريسكنز: لمست محاولات طمس الحضارة الأرمنية بأم العين

أن تجتمع اختصاصية في الطبخ وعالمة انثروبولوجيا في كتابٍ أمر غير تقليدي ولعلّه نادر وربما غير حاصل أبداً. ولكنه يمسي أمراً طبيعياً في حياة ألين كاماكيان، امرأة الاعمال المقدامة وشريكة سيرج معكرون في مطعم «مايريغ» (أمي الحبيبة) الذائع الصيت والمتخصص في الأطباق الأرمنية الواقع في شارع الجميزة في لبنان.

التقت كاماكيان ذات يوم بالبلجيكية باربارا دريسكنز، فخطر على بالها أن تؤلفا معاً كتاباً حول الطبخ الأرمني. تراءى المشروع أمام عينيها سهلاً سلساً وكأنّه مقدّر سلفاً، ولكن عالمة الآثار كانت متردّدة. وجدت صعوبةً في إقناع حاملة شهادة الدكتوراه وناشرة كتب مختلفة في القوانين والآثار في مشاركتها المغامرة. ولكن من يلتقي بكاماكيان يستشف من عينيها أنّها ليست ممن يجيد التراجع أمام مهمة شبه مستحيلة. وهكذا سرعان ما انتزعت ما أرادته فأبصر كتابهما “Armenian Cuisine الطبخ الأرمني” النور في شهر كانون الأول الماضي، بعدما وضعت فيه بعضاً من إرثها العائلي والثقافي، فيما حاكت دريسكنز قصصه لغوياً مصمّمةً صفحاته ومُلتقِطةً بعضاً من صوره.

في دفتي الكتاب قصصٌ عن المناطق التي استقت منها الوصفات وهي لا تقع في أرمينيا اليوم، بل في أرمينيا القديمة، كيليكيا التي طرد منها الأرمن، وأضحت اليوم تحت سيطرة تركية وقد زارتها السيدتان وعادتا منها بمجموعةٍ من الوصفات مقرونة بنكاتٍ وأخبارٍ وتقاليد تراثية وأسرار عن توابل وخلطات شفائية منزلية تحكي الجذور. إنّها حكاية ذاكرة ترفض أن تموت. قصص من كيليكيا على امتداد 2800 كيلومتر من ارزروم الى كارس الى أرارات الى فان وديارباكير واورفا وعنتاب. حكاية جدات يجمعن الأسرة حولهن في لقمة حب يتقاسمنها مع أفراد العائلة صغاراً وكباراً. إنّها كذلك حكاية معابد نُهبت بعدما أزيل عنها بحرص أيّ إشارة تدل على وجود شعب أرمني. ما حصل في بداية القرن العشرين لا يزال من التابوهات، فلا أحد يتكلم عن الموضوع الذي بقي لسنواتٍ طيّ الكتمان في أمةٍ ترفض الاعتراف بمجزرةٍ ارتكبتها. إنّها حكاية شعب يرفض أن تُمحى ذاكرته ويأبى الذوبان في حضارةٍ أخرى.

«الجريدة» التقت كاماكيان ودريسكنز في «مايريغ» وحاورتهما حول الكتاب ومواضيع أخرى:

لماذا شاركت في كتاب من هذا الصنف؟

باربارا: قصدت لبنان في العام 2006 كي أقوم بأبحاثي في مجال علوم الانثروبولوجيا وعملت لبرهةٍ مع مؤسسة فرنسية في هذا المجال، ثم انتقلت الى التعليم في الجامعة الاميركية ببيروت ولكني سرعان ما سئمت من الأمر فقررت ترك الحقل التعليمي للتوجه نحو تعليم فنون «التاي تشي» القتالية والرقص. وهكذا التقيت بألين التي كانت من تلامذتي فحاولت إقناعي بالمشروع. لم أكن مهتمة في البداية خصوصاً أنني بعيدة جداً عن المجال. ولكن حين أخبرتني أنّها تود عبر الكتاب أن تحكي للعالم قصة شعبها استهوتني الفكرة.

هل كنت قد سمعت عن الأرمن سابقاً؟

باربارا: نعم. كان لي عدد من الأصدقاء الأرمن وكنت قد سافرت الى أرمينيا وأحببتُ الثقافة فيها كثيراً وقد بدأت تعلم اللغة الارمنية. لذا لم يكن الموضوع غريباً عني نوعاً ما.

كيف بدأت المغامرة؟

ألين: بدأت المغامرة أولاً مع أمي ثم عماتي وأصدقائهما. نفّذنا وصفات 20 امرأة أرمنية. ولكلّ من هؤلاء النساء جذورٌ في منطقةٍ من المناطق المسلوبة التي ذكرناها سابقاً. من هنا اقترحت باربارا قصد هذه المناطق كونها كعالمة تريد أن تلمس لمس اليد ما كانت تقوله الوصفات، فسافرنا الى هذه المناطق وكنا نجد صعوبة في العثور على أرمن، فقد ضاعت هويتهم بعض الشيء لصالح الحضارة التركية المسيطرة، فكنا نجد وصفاتٍ أرمنية ولكن في الوقت نفسه إنكاراً لهويتها. أبصرنا النور في آخر النفق عندما عدنا الى اسطنبول حيث التقينا عدداً كبيراً من الأرمن واطلعنا منهم على تاريخهم وقصصهم.

باربارا: فجأةً اكتشفتُ حقيقة ما حصل. تيسّر لي أن ألمس ما حصل بعدما كنت قد قرأت عنه سابقاً. حين رأيتُ الكنائس وكيف تمّ محو الآثار الأرمنية منها ووُضِع عليها عبارة «غريغورية» بدلاً من «أرمنية» شهدت بأمّ العين محاولات طمس الحضارة الأرمنية. وفجأة تلاشى تمسّكي الشديد بعدم إدخال الطابع العاطفي في الكتاب خصوصاً مع الحكايات والقصص التي رواها لي من التقيتهم في هذه  الأراضي والذين أخبروني عن الجذور وكيف قتلت عائلاتهم واضطروا الى الهجرة. ولكني في الوقت عينه عزمت على عدم تضمين كتاب طبخ تفاصيل مأساوية. حاولت أن أُخفِّف من عبء المأساة بحيث يصبح «سهل» الهضم.

ماذا تعني لكِ هذه المغامرة؟

ألين: السبب الأساسي لغوصي في هذه المغامرة، بالاضافة الى رغبتي الشديدة في نقلي التجربة الارمنية، هو أنّ والدي كان يحلم دوماً بفتح مطعمٍ صغير يستقبل فيه أصدقاءه. كان يدعو أصدقاءه كلّ يوم أحد الى منزلنا حيثُ يحضّر اللحمة بنفسه. أما أنا فكنت أهتمّ بالمازة. وكان والدي يُفاخر أمام مدعويه أنّ ابنته حضّرت هذا الطبق أو ذاك. ولكن الفنّانة الفعلية للأطباق المطبوخة كانت أمي. بافتتاحي مطعم «مايريغ» حققتُ حلم أبي. ومع كتاب «الطبخ الأرمني» حققتُ حلم أمي. وانا أهدي هذا الكتاب للأمهات جميعاً اللواتي يطبخن بصبرٍ وحبٍ وكرم. هؤلاء يحملن مشعل التقاليد ويجمعن أواصر العائلة حول مائداتهن.

ما هي الصعوبات الاساسية التي واجهتها في العمل مع باربارا؟

ألين: كنا في جدلٍ مستمر. خصوصاً أنني كنت أغضب من محاولات الاتراك سلب ثقافتنا عبر ادعاء أنّ «المانتي» أو السوبراغ» مثلاً صناعة تركية. كان همي أن أدحض أقوالهم عبر زيارة المناطق التي تطبخ هذه الأطباق وتبيان مصدرها الفعلي. بحثنا عن الأرمن في مناطق مثل اورفا، وتومارزا وغيرها. وجدنا من يقول: «جدتي ارمنية أو أحد أقاربي أرمنيّ» ولكننا لم نجد من يقول: «أنا ارمني». وجدنا الوصفات التقليدية ولكنها تحولت الى خلطة هجينة. فالـ{مانتي» مثلاً أكثر دهنيةً، و{السوبراغ» زاد عدد طبقاته فبدا ثخيناً. ثمة أدلة كثيرة عن وجود الارمن في هذه المناطق منذ أزل بعيد ولكنهم محوا المجزرة من الذاكرة ويحاولون طمس الثقافة. ما أودّ قوله عبر الكتاب هو أنّ الأطباق هذه هي ملك الأرمن، إنها جزء من إرثهم الحضاري: قل لي ماذا تأكل أقول لك من أنت.

من هو ناشر الكتاب؟

ألين: لا ناشر. أصدرت الكتاب على نفقتي الخاصة. والسبب كان بسيطاً. كان عندي عقد مع إحدى دور النشر، ولكننا لم نتفق في ما بعد، لأنّها أرادت أن تلغي كلمة «المجزرة الأرمنية» من الكتاب وأن تتدخّل في التفاصيل. لم تعجبني الشروط خصوصاً أنّ الأهداف كانت مُختلفة. الناشر يهتمّ بالشق التجاري فيما أهتم أنا بالشقّ العاطفي. ثم انّني لم أكن بحاجة فعلاً إلى الناشر مادياً لأنّ أعمالي تسير على خير ما يرام. وحين لاحظت أنّ الناشر يريد جعله كتاباً عادياً مثل سائر الكتب حزمت رأيي. هذا الكتاب هو سفير الأرمن الى العالم لذلك قررتُ أن يكون بالانكليزية.

ماذا عن المبيع؟

ممتاز! فحين قمنا باحتفالٍ لتوقيع الكتاب هنا في مطعم «مايريغ» كان الاقبال استثنائياً. وفي بداية شهر ابريل المقبل نقوم بجولةٍ الى أميركا في كاليفورنيا، ونيويورك، وبوسطن وفيلاديلفيا ثم في مونتريال كندا.

ماذا عن البلدان العربية؟

بصراحة لم نتصل بأي موزع عربيّ بعد، ولكن كتبنا موجودة في المكتبات الكبرى في لبنان وهي توزع عبر الفيرجين ميغاستور. طبعاً نفكر بالتوسّع الى البلدان العربية في المستقبل.

ماذا عن نسخةٍ عربية؟

كُل شيء وارد. ولكنّني أفكر أولاً بترجمةٍ تركية.

لماذا؟

باربارا: عندما ذهبنا الى تركيا التقينا بأتراكٍ لا يعرفون شيئًا عن المجزرة. لم يسمعوا بها يوماً. كان الأمر مفاجئاً. خصوصاً أننا التقينا بدليلٍ سياحي في «أختامار» في «آني» لم تكن تعرف أبداً أن شيئاً ما حصل بالاضافة الى أشخاصٍ من أصول أرمنية تم اختطافهم من العربات التي كانت تنقل الناس إبان المجزرة، أو أشخاصٍ خبأهم الاتراك وترعرعوا بينهم وما كانوا يتكلمون ابداً عن هذه القصص بينما تجدهم اليوم يبحثون عن جذورهم.

ألين: لا أحد يحب اليوم قراءة الكتب المليئة بالتعاسة والحزن. فأيامنا الحالية ملأى بالمأساة، ولا يريد أي شخص أن يقرأ شيئاً تعيساً. لذلك حاولنا أن يكون الكتاب سهلاً وخفيفاً ومفيداً في آن. نقلت معلومة ما حصل مع أجدادي في جملةٍ بسيطة تمرّ مرور الكرام في وصفة مثلاً. كأن أقول أنّ وسبب وجود وصفة ما  في لبنان أو سورية هو بسبب ما عاناه الأجداد. وأنا بذلك أزرع بذرةً من الشكّ في ذهن الجيل التركي. لست على عداوة مع الشعب التركي فالجيل الحالي لم يفعل شيئاً وهو ليس مسؤولاً عما اقترفه أجداده، ولكن عليه الاعتراف بأنّ مجزرةً حصلت وأن يطلب المغفرة. يؤلمني أنّ الأتراك لا يعترفون بما حصل وكأنّ شيئاً لم يكن. أنا لبنانية مثلاً ولكنّني لا استطيع أن أنسى جذوري. لا يسعني نسيان ما حصل وأطالب بمعاملة المجزرة الارمنية كما تمّت معاملة «الهولوكوست» أو المجازر الأخرى.

أتشعرين أنّ الأمل بالاعتراف ممكن بعد مئة عام؟

ألين: عدم الاعتراف بالمجزرة الأرمنية هو إعطاء بطاقة خضراء لاستمرار المجازر. ونحن نرى اليوم مثلاً ما يحصل في الرواندا والسودان وبلدان أخرى من مجازر مؤلمة. مهما كانت جنسية مرتكبي المجازر إن تصرفهم بربري وهمجي. لست إنسانةً حالمة. أعرف تماماً أنّ ثمة مصالح سياسية واقتصادية تُحتّم على البلدان الكبرى عدم الضغط على تركيا لصالح الاعتراف بما ارتكبته من إثمٍ بحق الأرمن. أعرفُ كذلك أنّنا لن نستعيد ما خسرناه، لن نستعيد الأراضي التي سُلبت منا. ولكنني أطمع في أن نحصل على الأقلّ على اعتراف. فليعترف الأتراك بما فعلوا كي تهدأ النفوس وتعود الأمور الى مجاريها!

لمزيد من التفاصيل حول الكتاب أو الأطباق الأرمنية:

www.armenian-cuisine.com

http://aljarida.com/2012/03/15/2012456272/

Share This