تركيا: من “صفر مشكلات” الى مشكلات بالجملة

السياسة الخارجية التركية في السنوات الاخيرة عنوانها واحد: دور فاعل لدولة كبرى في الشرق الاوسط. لكن تركيا ليست وحدها في طموحها للعب هذا الدور، اذ تنافسها ايران التي ترى بدورها انها دولة كبرى في محيطها الاقليمي، وكذلك اسرائيل وان لاسباب واهداف مختلفة، مرتبطة بالنزاع العربي – الاسرائيلي. في زمن مضى لعبت مصر دور الدولة الكبرى في المنطقة، وكان طموح ايران الشاه آنذاك محصورا في محيطها الجغرافي الاقرب، بينما تركيا سعت جاهدة لتدخل الجنة الاوروبية.

انهارت السلطنة العثمانية عام 1918، بعد الحرب العالمية الاولى، ونشأت الدولة التركية الحديثة بالحديد والنار باسم قومية تركية انتجت حروبا ومجازر. وقد وضع اتاتورك حدا للحقبة العثمانية وللخلافة الاسلامية وجنحت تركيا، ومعها نظام قيم جديد فرضته الدولة، في اتجاه النموذج الغربي في زمن نشوء القوميات المتطرفة في اوروبا في المرحلة الفاصلة ما بين الحربين العالميتين.

غابت تركيا عن العالم العربي طوال ثمانية عقود، الا انها عادت بقوة واندفاع مع وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة في العام 2002. وشرع الحزب الحاكم بتوطيد علاقات تركيا مع عدد من الدول العربية، خصوصا مع الجارة الاقرب جغرافيا، سوريا، بوتيرة سريعة وبثقة المنتصر. هكذا استطاعت تركيا في حركتها الجديدة ان تجمع الاضداد في منطقة تعج بالنزاعات المزمنة، وفي مقدمها النزاع العربي- الاسرائيلي، وفي السنوات الاخيرة حرب العراق والصدام بين ايران ودول الجوار العربي.

ارتكزت السياسة الخارجية التركية، بقيادة حزب العدالة والتنمية، على قراءة جديدة لموقع تركيا ودورها في عالم عربي متراجع استراتيجيا وفي عالم اسلامي مأزوم. لا بل ذهب وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو، واضع سياسة الانفتاح في اتجاه العالم العربي، الى حد التأكيد بأن تركيا قادرة ان تصل الى “صفر مشكلات” مع الخارج، لكن من دون الخروج عن الهدف الاستراتيجي المتمثل بانضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي.

الميزة التفاضلية التي تملكها تركيا في المنطقة تمحورت حول علاقتها الوطيدة باسرائيل والتي تعود الى مرحلة قيام دولة اسرائيل في العام 1948، وهذا ما اهّلها ان تقوم بدور الوسيط بين اسرائيل وسوريا في مفاوضات غير مباشرة في زمن كانت المفاوضات متوقفة كليا بين اطراف النزاع بعد انهيار المفاوضات العربية- الاسرائيلية في العام 2000. الا ان هذه المفاوضات لم تتجاوز سقف المسائل التي طرحت في اجتماعات طابا في ايلول 2000، ولن تعطي اسرائيل، في ظل حكومة نتنياهو سوريا ما لم تقدمه للرئيس حافظ الاسد في زمن زخم المفاوضات والدعم الاميركي الكامل لها في آذار 2000. وبعد ان توضحت حدود تداعيات التحولات التي انتجها الغزو الاميركي للعراق في 2003 وتظهّرت العلاقة بشكل افضل مع ايران، توسع الانفتاح التركي في اتجاه المنطقة على المستويين السياسي والتجاري، لاسيما مع دول الخليج العربي وليبيا.

لحزب العدالة والتنمية دافعان في السياسة الخارجية تجاه المنطقة العربية: دافع الدولة الكبرى في محيط اقليمي مأزوم وانظمة عربية متعثرة، والدافع السياسي الاسلامي للحزب الحاكم. واستنادا الى هذين الدافعين، فان المجال الحيوي لحركة حزب اسلامي تركي هو العالم العربي بالذات، بينما المجال الغربي مؤمن عبر العلاقة المميزة مع الاتحاد الاوروبي من جهة، والدور الفاعل لتركيا في الحلف الاطلسي والذي تجسد اخيرا بنشر تركيا الرادارات الخاصة بالدرع الصاروخية على الحدود مع ايران من جهة اخرى.

الا انه سرعان ما خسرت تركيا ميزتها التفاضلية بالنسبة الى دور الوسيط في النزاع العربي – الاسرائيلي بعد الصدام مع اسرائيل على أثر موقف تركيا من العدوان الاسرائيلي على غزه، وما تبعه من اعتداء اسرائيلي على سفينة تركية كانت متوجهة لفك الحصار عن غزة ومقتل عدد من المدنيين الاتراك. ومع وصول العلاقات التركية- الاسرائيلية الى ادنى مستوياتها، تعطل دور تركيا كوسيط بين العرب واسرائيل.

اما العلاقات التي نسجتها تركيا مع العالم العربي فكانت الاكثر تقدما وطموحا مع سوريا. ففي خلال ثمانية عقود من العلاقات المتوترة، لا بل السيئة، بين البلدين، بدءا بالنزاع حول “لواء الاسكندرون السليب” في زمن الانتداب الفرنسي، مرورا بالنزاع حول المياه حيث قامت تركيا بانشاء سدود كبرى على نهر الفرات، وصولا الى تهديد تركيا بالاجتياح العسكري ردا على هجمات حزب العمال الكردستاني وايواء سوريا عبدالله أوجلان في تسعينات القرن المنصرم، لم تشهد العلاقة تحسنا بين الدولتين سوى في العقد الاخير.
شهدت العلاقات السورية- التركية “شهر عسل” مكثفاً وجرى توقيع عدد كبير من اتفاقات التعاون في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية. الا انها تدهورت بسرعة فائقة الى ان وصلت الى القطيعة الكاملة بعد هبوب رياح التغيير في “ربيع عربي” يدخل اليوم عامه الثاني. ففي حين أيدت تركيا في البداية نظام القذافي في ليبيا بعد انطلاق الثورة الشعبية ضده، الا انها عادت واتخذت موقفا مغايرا بعد دخول الامم المتحدة والحلف الاطلسي، بغطاء من الجامعة العربية، على خط النزاع الى جانب معارضي النظام الليبي.

اما الازمة السورية فشكلت فرصة تاريخية لتركيا للقيام بدور جديد في المنطقة، فراهنت انقرة على ارباك نظام الاسد وعلى امكانية تقويضه عبر تضييق الحصار عليه، وصولا الى اسقاطه بوسائل الضغط السياسي والاعلامي، او حتى بالقوة العسكرية. وراهنت ايضا على دور مفصلي في “النظام العربي الجديد” في مرحلة ما بعد الربيع العربي، حيث موازين القوى باتت تميل الى احزاب اسلامية جاءت الى الحكم في مصر وتونس وفي دول عربية اخرى. انها الشهوة الامبراطورية الناعمة التي استيقظت فجأة في اوساط قادة حزب العدالة والتنمية، ظنا منهم ان تركيا الدولة الاقوى اقليميا والنموذج الافضل لحكم الاسلام السياسي. ولهذه الغاية كانت تركيا السباقة في احتضان المعارضة السورية وتأمين كل وسائل الدعم لها بعد نحو شهر على بدء الازمة، كما اتخذ الجيش السوري الحر من تركيا قاعدة لانطلاقه. هكذا جنّدت تركيا كل وسائل المواجهة مع النظام السوري بالتعاون والتنسيق مع دول الخليج العربي والدول الغربية.

لكن سرعان ما اكتشفت حدود قدراتها على التأثير في مجرى الازمة السورية، خصوصا بعدما اعلنت ان هدفها اسقاط النظام. في الواقع، تركيا غير قادرة على التدخل عسكريا لاطاحة النظام لاسباب داخلية وخارجية بالغة التعقيد، ولا هي قادرة على تأمين ممرات آمنة بلا دعم دولي، كما انها محرجة في حال تراجعت عن مواقفها. الا ان التهويل باستعمال القوة حرك قوة اقليمية اخرى تتشارك معها في الحدود الجغرافية وايضا في الطموح للعب دور مؤثر في سياسة المحاور الاقليمية، الا وهي ايران، الحليفة الاستراتيجية لسوريا قبل نحو عقدين من دخول تركيا الساحة العربية. كما ان الطموح التركي بات مصدر قلق لمصر، لاسيما ان احزابها الاسلامية لا ترى في التجربة التركية العلمانية نموذجا يحتذى في شؤون الحكم وفي علاقة الدين بالدولة، بعد ان عولت انقرة على امكانية تصدير نموذجها الى عالم عربي يشهد صعودا غير مسبوق للاسلام السياسي.
دخلت تركيا العالم العربي عبر البوابة السورية وقد تخرج منه عبر البوابة نفسها. ففي حين ان العالم العربي في تراجع استراتيجي، قبل الربيع العربي وبعده، الا ان التحولات التي احدثها ساهمت في رسم حدود استعمال القوة لدول الجوار العربي وفي وضع حد للنزعة الامبراطورية في السياسة الخارجية التركية، لاسيما ان انقره منشغلة بمشاكل داخلية وبتركة ثقيلة منذ نشوء الدولة. لقد باتت تركيا تواجه مشكلات تحركت دفعة واحدة مع ايران وروسيا واسرائيل وربما مع اوروبا على المدى الطويل، وفي منطقة عربية تشهد تحولات لن تتضح معالمها ولن تعرف نقطة توازن لها في وقت قريب. يبقى ان الثابت في السياسة الخارجية التركية هو موقعها في الحلف الاطلسي. اما المتحرك فهو الانتقال من “صفر مشكلات” الى مشكلات بالجملة.

 

http://arabi-press.com

2012-03-27

فريد الخازن

النهار

Share This