تحرير العقل من الغزو القانوني

في كل البلاد التي ابتليت بالاستعمار‏,‏ كان المستعذمرون حريصين ـ بعد احتلال الأرض ونهب الثروات ـ علي احتلال العقل وتغريب الفكر والثقافة والقانون, وحتي منظومة القيم والأخلاق.. لأن احتلال العقل يصرف الشعوب المستعمرة عن ذاتها الحضارية الخاصة, ويحولها إلي موقع التبعية للمركز الحضاري الغربي, الأمر الذي يؤيد ويؤبد احتلال الأرض ونهب الثروات..

وعلي امتداد الحقبة الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين, لم يكن المستعمرون يخفون سعيهم الحثيث لاحتلال العقول وتغريب الفكر والثقافة والقانون في المستعمرات.. بل كانوا يعلنون أن ذلك إنما هو حق الفتح المسلح الذي مارسوه في تلك البلاد.. وبعبارة أستاذ الحقوق الفرنسي جورج سوردون في كتابه (مبادئ الحقوق العرفية المغربية) الصادر في الرباط 1928م فإن الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية, وهذا يخولنا اختيار التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد. وفيما يتعلق بمصر, فلأن الحملة الفرنسية 1798م لم تمكث ـ بسبب الثورات المصرية ـ سوي عامين, فإن الظروف لم تتح لبونابرت تغيير فقه المعاملات الإسلامية, الذي كان سائدا في القضاء المصري علي امتداد تاريخ مصر الإسلامي.. لكن هذا القانون الفرنسي ـ الوضعي العلماني ـ قد بدأ يتسلل إلي بعض المحاكم المصرية علي عهد الخديو سعيد للفصل في المنازعات التجارية بين التجار المصريين والتجار الأجانب ـ في المواني التجارية.. فصدرت إرادة خديوية في 18 إبريل 1855م بإنشاء محكمة تجارية ـ (مجلس تجار) ـ مختلط من المصريين والأجانب, ليقضي ـ بالقانون الفرنسي ـ في المنازعات التجارية التي يكون الأجانب طرفا فيها.. ثم تطور هذا التسلسل والاختراق ـ عبر المحاكم القنصلية ـ خارج المواني التجارية.. ثم تبلور هذا الاختراق في المحاكم المختلطة 1875م ـ علي عهد رئاسة الأرمني نوبار باشا,1825ـ1899م لوزراء مصر!! وكان قضاة هذه المحاكم المختلطة أجانب, ولغتها فرنسية, وقانونها فرنسيا.. ولقد وصفها أحد قضاتها ـ القاضي الهولندي فان بملن ـ بأنها وليدة الاغتصاب الواقع من الأقوياء علي الضعفاء!.. فلما احتلت انجلترا مصر 1882م, عممت هذا القانون الفرنسي ـ مع بعض التعديلات ـ في القضاء الأهلي المصري 1883م, فتم تعميم بلوي الاغتصاب القانوني, الذي احتل به القانون الوضعي العلماني قضاءنا القانوني في التشريع والقضاء ومدارس الحقوق.. ولم يبق تحت السيادة الكاملة للشريعة الإسلامية سوي محاكم الأحوال الشخصية.

ولقد كان فكرنا الوطني وحركتنا الوطنية علي وعي تام وعميق بأن احتلال العقل القانوني المصري مثله تماما كمثل احتلال الأرض بالقواعد العسكرية الأجنبية, ومن ثم فإن تحرير الأرض لابد لإنجازه من تحرير العقل.. فلقد كان الاستقلال الحضاري هو الهدف من وراء الفكر الوطني والحركة الوطنية.. ولقد تجلي هذا الوعي الحضاري في كتابات قادة الفكر وزعماء الإصلاح علي نحو جلي لا لبس فيه..

فالزعيم الوطني الثائر والمجدد الإسلامي عبد الله النديم 1261ـ1313 هـ 1845ـ1896م] يفصح عن الوعي بالمخطط الاستعماري القانوني, وإحلال التشريعات الوضعية العلمانية محل الشريعة الإسلامية وفقه معاملاتها.. فيقول: إن دولة من دول أوروبا لم تدخل بلدا شرقيا باسم الاستيلاء, وإنما تدخل باسم الإصلاح وبث المدنية, وتنادي أول دخولها بأنها لا تتعرض للدين ولا للعوائد ثم تأخذ في تغيير الاثنين شيئا فشيئا.. كما تفعل فرنسا في تونس والجزائر, حيث سنت لهم قانونا فيه بعض مواد تخالف الشرع الإسلامي, بل ننسخ مقابلها من أحكامه, واتخذت لتنفيذه قضاة ترضاهم, ولما لم تجد معارضا أخذت تحول كثيرا من مواده إلي مواد ينكرها الإسلام, توسيعا لنطاق النسخ الديني. ولم نلبث نحن ـ في مصر ـ أن جاريناها وأخذنا بقانون يشبهه.

هكذا أبصر النديم ـ الذي جسد ضمير الحركة الوطنية المصرية ـ أن إحلال القانون الأجنبي محل قانوننا الإسلامي إنما هو نسخ لدين الإسلام! كذلك أبصر النديم أن قيم الليبرالية الغربية ومذهبها في الحريات الشخصية ـ التي يقررها القانون الوضعي الأجنبي ـ إنما تمثل نقضا للمذهب الإسلامي الذي يوازن بين الحقوق والواجبات, والذي يجعل حقوق الإنسان محكومة بحقوق الله, فقال: إن الحرية عبارة عن المطالبة بالحقوق والوقوف عند الحدود, أما هذا الذي نسمع به ونراه فهو رجوع إلي البهيمية وخروج عن حد الإنسانية.. إنها حرية مدنية ينفر منها البهيم.. ولئن كان ذلك سائغا في أوروبا, فإن لكل أمة عادات وروابط دينية أو بيئية ـ, أسرية] ـ, وهذه الإباحة لا تنتاب أخلاق المسلمين ولا قواعدهم الدينية ولا عاداتهم, وهي لا تتوافق مع عوائد أهل الشرق ولا أديانهم والقانون الحق هو الحافظ لحقوق الأمة من غير أن يجني أو يغري بالجناية عليها بما يبيحه من الأحوال المحظورة عندها.
> وقبل النديم, وقف رفاعة الطهطاوي,1216ـ1290هـ 1801ـ1873م] محذرا من الاختراق القانوني الغربي لقضائنا الوطني, ومعلنا أن هذا القانون الذي يعتمد علي العقل المجرد عن الشرع, مناقض لفلسفة الإسلام في القانون والتشريع, هذه الفلسفة التي تجمع بين الشرع والعقل..

وعندما ترجمت مصر قوانين نابليون ـ ونشرتها 1866م و1868م ـ لم تترجمها لتكون شريعة القضاء المصري, وإنما لمعرفة الخلفيات القانونية للتجار الأجانب الذين زادت معاملاتهم مع التجار المصريين.. ولمعرفة هذه الحقيقة ـ التي يزيفها المتغربون ـ نقرأ عبارات الطهطاوي ـ الذي أشرف علي هذه الترجمات وقدم لطبعاتها ـ بقوله: لقد صدر الأمر العالي الخديوي بتعريب هذه القوانين حتي لا يجهل أهل هذا الوطن أصول الممالك الأخري, لاسيما وأن علاقات الاقتضاء, ومناسبات الأخذ والعطاء تدعو إلي الإلمام بمثل تلك الأصول الوضعية ليكون من يتعامل معهم في تسوية الأمور علي البصيرة…

ولأن المدافعين عن القانون الأجنبي كانوا يحتجون بعدم تقنين فقه المعاملات الإسلامية, نهض تلميذ الطهطاوي, محمد قدري باشا,1237ـ1306هـ 1821ـ1888م] ليسد هذه الثغرة ويبطل هذه الحجة, فأنجز تقنين البديل الإسلامي, وقدم كتبه الأربعة التي قنن فيها فقه معاملات المذهب الحنفي:

1ـ مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان] ـ2 ـ قانون العدل والإنصاف للقضاء علي مشكلات الأوقاف] ـ3 ـ تطبيق ما وجد في القانون المدني موافقا لمذهب أبي حنيفة] ـ4 ـالأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية.

فلما جاء جمال الدين الأفغاني,1234ـ1314هـ 1838ـ1897م]أكد أن المرجعية الإسلامية هي المنطلق الوحيد للنهضة الشرقية:

الدين هو السبب المفرد لسعادة الإنسان, يرفع أعلام المدينة لطلابها, فيظفرهم بسعادة الدارين. وإن العلاج الناجع لانحطاط الأمة الإسلامية إنما يكون برجوعها إلي قواعد دينها..

وإنه لا ضرورة تلجيء الشرقي في بدايته أن يقف موقف الغربي في نهايته.. ولقد علمتنا التجارب أن المقلدين لتمدن الأمم الأخري إنما يكونون منافذ لتطرق الأعداء وطلائع لجيوش الغالبين, وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل, ويفتحون الأبواب ثم يثبتون أقدامهم.. وإن نتيجة التقليد للتمدن الغربي ليست إلا الذهاب بالأمة إلي الفناء والاضمحلال, وبئس المصير…

وعلي هذا الدرب ـ درب الإصلاح بالإسلام- سار الإمام محمد عبده 1266ـ1323هـ 1849ـ1905م] الذي قال: إن سبيل الدين لمريد الإصلاح في المسلمين سبيل لا مندوحة عنها.. فكل من طلب الإصلاح من غير طريق الدين فقد بذر بذرا غير صالح للتربة التي أودعه فيها, فلا ينبت, ويضيع تعبه, ويخفق سعيه.. وإذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق, وصلاح الأعمال, وحمل النفوس علي طلب السعادة من أبوابها, ولأهله من الثقة فيه ما ليس لهم في غيره, وهو حاضر لديهم, والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به, فلم العدول عنه إلي غيره؟!.

هكذا كانت تجربة العقل الشرقي مع فرض الاستعمار قانونه الوضعي العلماني علي مؤسسات التشريع والقضاء والحقوق في بلادنا كانت مقاومة علمائنا وأعلامنا لهذا الذي مثل اغتصاب الأقوياء لحقوق الضعفاء.. وهكذا تساوي تحرير العقل القانوني من القانون الأجنبي مع تحرير الأرض من احتلال جيوش الغزاة!.

 

د. محمد عمارة

الأهرام

Share This