أزمة الدور التركي وحقيقة التطلعات الجامحة

بين السعي التركي إلى تغيير النظام السوري والحرص من التداعيات بدا الدور التركي يتراوح بين صورة النمر الإقليمي الذي يتحرك كلاعب إقليمي خطر والعجز عن التحرك دون قرار أميركي ودولي، وهو ما وضع تركيا في امتحان مع المصداقية والذات وخاصة بعدما انتهجت أنقرة تصعيداً غير مسبوق بحق هذا النظام.

ومع تفاقم أزمة الدور التركي يبدو أن حكومة أردوغان تراهن على الزمن وعلى العاملين العربي (الخليجي) والدولي (الأميركي) في تحقيق هدفه المذكور، وعليه اتجهت في الفترة الأخيرة إلى اتخاذ المزيد من الخطوات التي تعتقد أنها ستساعدها على تحقيق هذا الهدف، ولعل من أهم هذه الخطوات:

1-التنسيق التام مع الإدارة الأميركية بخصوص الأزمة السورية، وقد كان لافتاً في هذا السياق، الزيارة السرية التي قام بها أخيراً رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ديفيد بتريوس برفقة مدير المخابرات الوطنية الأميركية جيمس كليبر واجتماعه بأردوغان ورئيس الاستخبارات التركية حقاي فيدان وإجراء مباحثات بشأن التعاون الأمني بين البلدين بخصوص تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط وتحديداً سورية وإيران.

2- المناورات الضخمة التركية الأميركية في منطقة ملاطيا التي جرت بين الخامس من آذار ولغاية الخامس عشر من الشهر نفسه، وهي جاءت بديلاً من مناورات نسر الأناضول السنوية، وللمرة الأولى جرت هذه المناورات دون إشراك دول أخرى فيها كما جرت العادة سنوياً حيث كانت تشارك فيها دول أعضاء من الحلف الأطلسي إضافة إلى إسرائيل، وقد تركزت هذه المناورات على كيفية مواجهة أنظمة الدفاع الجوي لدول المنطقة وتعطيلها دون هجوم مباشر عليها، وكذلك كيفية خوض حرب مشتركة على هذه الأطراف.

2- استضافة تركيا لمؤتمر (أصدقاء سورية الثاني) كتتمة للمؤتمر الأول الذي عقد في تونس، وما رشح عن مؤتمر إسطنبول حتى الآن، هو أن أنقرة تسعى إلى تحقيق أمرين مهمين.

الأول: جلب اعتراف دولي بالمجلس الوطني السوري المعارض كممثل وحيد للشعب السوري، والجدير بالذكر هنا هو أن هذا المجلس ولد في إسطنبول وبرعاية واحتضان تركيين.

والثاني: تشكيل تحالف دولي يستهدف سورية خارج مجلس الأمن الدولي بعد أن اصطدمت الجهود العربية والدولية في إصدار قرار في مجلس الأمن بحقها بالفيتو الروسي الصيني ولمرتين.

4- اتخاذ سلسلة إجراءات جديدة، منها وقف حركة الشاحنات التركية إلى سورية وعبرها نهائياً على الرغم من الخسارة الكبيرة التي تلحق بالاقتصاد التركي، وزيادة وتيرة دعم (الجيش السوري الحر) وتدريبه وتسليحه وتأمين المأوى له داخل الأراضي التركية، الحديث عن إقامة سلسلة مخيمات إضافية جديدة للاجئين السوريين في المناطق التركية المحاذية لمحافظة إدلب السورية، في مؤشر إلى أن تركيا تعد لمرحلة جديدة من التصعيد.

5-عودة أردوغان إلى الحديث عن إقامة منطقة أمنية عازلة في المنطقة الحدودية.

6-دخول منظومة الدروع الصاروخية الأميركية الأطلسية التي نشرت على الأراضي التركية إلى حيز العمل، وهي منظومة معروفة الأهداف والغايات، وقد قوبلت بردود فعل منددة ومعارضة من روسيا وإيران.

هذه المعطيات تؤكد أن حكومة أردوغان ستواصل سعيها إلى إسقاط النظام السوري تحقيقاً لأهدافها من جهة، وكي لا تفقد مصداقيتها في الداخل التركي من جهة ثانية.

ولكن من الواضح أن الحسابات التركية قد لا تكون دقيقة، فالنظام السوري ورغم تجاوز عمر الأزمة سنة إلا أنه في الداخل ما زال قوياً حيث نجح في بسط سيطرته على مختلف مناطق الداخل، بل في الحالة التركية وصل الجيش السوري إلى النقطة الحدودية مع الأراضي التركية بعد أن كان ذلك ممنوعاً عليه بموجب الاتفاقيات الأمنية الموقعة بين البلدين، كما أن النظام السوري نجح في جعل الأزمة السورية الداخلية أزمة دولية بامتياز بعد الاصطفاف العالمي الذي حصل، فالمعسكر العربي الخليجي التركي الأوروبي الأميركي الساعي إلى إسقاط النظام يقابله معسكر حلفاء سورية، أي إيران، الصين، وروسيا.

وكل طرف له أسبابه ومصالحه وإستراتيجيته التي تحشد لها الطاقات والجهود المختلفة، وفي لغة الحسابات والمصالح والإستراتيجيات فإن مسألة شن الحرب على النظام السوري لإسقاطه تبدو مستبعدة نظراً للتداعيات الخطرة المنتظرة من خيار كهذا في منطقة حساسة فيها إسرائيل الابنة المدللة للغرب.

وهو ما يضع السعي التركي أمام امتحان صعب خاصة أن تركيا لا تستطيع أن تتحرك بمفردها عسكرياً تجاه النظام السوري، بما يعني أن مجمل الخيار التركي بشأن الأزمة السورية بات في أزمة عميقة وحقيقية.

وعليه ثمة من يتساءل عن أسباب وصول الموقف التركي إلى هذه النقطة الحرجة إزاء الأزمة السورية؟ بل في الأساس، لماذا صعدت تركيا على هذا النحو على النظام بل انقلبت عليه بعد أن وصل التحسن في العلاقات بين الجانبين إلى حد الحديث عن حكومة مشتركة للبلدين؟ وفي الأصل لماذا التخلي التركي عن نظرية صفر المشكلات مع دول الجوار الجغرافي والحديث عن إمكانية إقامة عمق إسلامي في المنطقة لمصلحة العودة إلى القيام بدور وظيفي في الإستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط وآسيا؟ يرى مدير مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية (أورسام) حسن قانبولاد أن خطأ تركيا في البداية أنها رفعت السقف عالياً تجاه الأزمة السورية ومع مراحل الأزمة أحرقت تركيا جميع مراكبها.

وحقيقة فإن تركيا تبدو في أزمة حقيقية، فمن جهة لا مؤشر إلى خيار عسكري بقرار دولي بحق النظام السوري لإسقاطه كما جرى لنظام القذافي في ليبيا، ومن جهة ثانية لا قدرة تركية على القيام بمثل هذا الخيار حتى لو كان هناك تمويل خليجي للتكاليف، فمثل هذا الخيار سيكون نهاية للدبلوماسية التركية الناعمة والتحول إلى دولة استعمارية لن تقبل بها الشعوب العربية مع التأكيد أن هذا الخيار غير مضمون النتائج، بل قد يكون كارثياً على الداخل التركي نفسه الذي يعيش على وقع الأزمة الكردية القابلة للتحول إلى بارود في أي ساعة.

وعليه ثمة من يرى أن تركيا أضحت ضحية الصورة التي قدمت لنفسها وتحديداً من أردوغان عندما صور بلاده كقوة إمبراطورية ضاربة قادرة على التحرك ورسم المصائر قبل أن يكتشف أن للقوة حدوداً وأن الجغرافية السورية هي في قلب الصراعات القديمة الجديدة بين القوى الدولية الكبرى المتنافسة على رسم المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط انطلاقاً من البوابة السورية نفسها، ولعل وصول الموقف التركي إلى هذه الدرجة من التصعيد منذ بداية الأزمة السورية قبل أن يصطدم بالحقائق والمعطيات السابقة يشير إلى عدم تفهم السياسة التركية لديناميات العالم العربي على شكل ارتكاب خطأ فادح في فن السياسة وممكناتها.

وعليه، فإن السؤال الأساسي هنا، هو لماذا انتهجت تركيا التصعيد مع النظام السوري ولم تبادر إلى القيام بوساطة بينه وبين المعارضة ولاسيما أنها تحتضن هذه المعارضة وتحديداً حركة الإخوان المسلمين؟ ألم يكن مثل هذا الخيار سيحفظ لتركيا المزيد من الدور والقوة الناعمة بدلاً من أن تتحول إلى لاعب إقليمي خطر يحدد حركاته على وقع الساعة في واشنطن ويضع السياسة التركية في موقع الصدام مع دول الجوار العربي والإسلامي؟ دون شك، تركيا في أزمة مفاهيم وخيارات إزاء الأزمة السورية، وهي أزمة ناتجة أساساً عن تطلعات تركيا الجامحة التي تدمج بين الإرث التاريخي (العثمانية الجديدة) والتطلع إلى الدور والنفوذ في الشرق الأوساط انطلاقاً من علاقاتها المتينة مع الولايات المتحدة وإستراتيجيتها تجاه المنطقة.

خورشيد دلي

الوطن

Share This