لمحة تاريخية مقتضبة حول العلاقات العربية – الأرمنية التاريخية

إن عدنا إلى بواطنِ التاريخ ودخلنا بين دفتي أمهاتِ الكتب التاريخية العربية والأرمنية واستخلصنا تفصيلاتِ العلاقات العربية – الأرمنية التاريخية فإنني أجزم أنه سيكون بوسعنا تجهيز موسوعة من ستةِ مجلدات كبيرة على أقل تقدير .

تمتد جذور هذه العلاقات إلى قرون مديدة جداً تصل إلى حوالي 2000 عام لأن هذين الشعبين عاشا منذ الأزل في منطقة جغرافية واحدة طوال هذه السنين وتحديداً في الشرق الأوسط.‏ كانت العلاقات السياسية والفكرية والثقافية مميزة بين الطرفين قبل ظهور الإسلام وبعده وكان أول لقاء قصير بينهما ضمن الإمبراطورية الواسعة التي أقامها الملك ديكران الكبير من القفقاس حتى فلسطين بين الأعوام 84-66ق.م لكن العلاقات المميزة كانت في عصور الخلافتين العربيتين الأموية والعباسية طوال 200سنة بين القرنين السابع والتاسع ثم مع ممالكَ عربية وإسلامية بعد انشطار الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر الميلادي .‏

وأضاف الدكتور الكسندر كشيشيان عضو اتحاد الكتاب العرب خلال المحاضرة التي ألقاها في جمعية العاديات مؤخراً قائلاً:‏

خلّف مؤرخو الشعبين دراساتٍ قيمة جداً عن حياة هذين الجارين نذكر منهم البلاذري والطبري والمسعودي وابن الأثير والمقريزي وأبو الفداء وغيرهم العديدين ومن علماء الجغرافيا والرحالة ابن الفقيه والاصطخري وابن حوكل وابن بطوطة والمقدسي وياقوت الحموي وسواهم الذين دوّنوا مشاهداتهم حول حياة أرمينيا الكبرى وكيليكيا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.‏ بدورهم قدم مؤرخون أرمن قروسطيون مثل سيبيوس وغيفوند وهوفهانّس تراسخاناكيردتسي وطوماس أردزروني واستيبانوس أصوغيك وفارطان الشرقي معلوماتٍ لا تعوض حول تاريخ العرب على وجه الخصوص والشرق الأوسط عامة.‏

وأضاف اهتم العرب بدراسات علماء الأرمن ومؤرخيهم بعد الفتح العربي لأرمينيا بين عامي 640-650م ومن ثمرة هذه الاهتمامات ترجمة كتاب “تاريخ الأرمن” لأكاتانكيغوس كذلك كتب المسعودي بشكل مفصل في كتابه “مروج الذهب ومعدن الجوهر” حول الملحمة الأرمنية الشهيرة “آرا وشاميرا” وكان الأرمن بدورهم شديدي الاهتمام بالشعر والأدب العربيين فاعتبروه عن حق من جواهر الأدب العالمي فكتب الفيلسوف والمفكر الأرمني من القرن الحادي عشر الميلادي كريكور ماكيستروس معرباً عن إعجابه الشديد بشعر المتنبي كذلك عرف الأرمن بدورهم قصة “ألف ليلة وليلة” بشكل جيد منذ القديم لأن جو الكتاب وأحاسيسه لم يكن غريباً عنهم.‏ وكذلك امتدت العلاقات العربية – الأرمنية لتشمل حقل الطب والجراحة عندما كانت أوروبا في ظلام علمي دامس كان العرب والأرمن متقدمين ومتفوقين في هذين المجالين بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر وكان هناك تعاون كبير بين الأطباء الأرمن والعرب وخاصة في مملكة كيليكيا الأرمنية حيث كان بعض الأطباء العرب يعملون في مستشفياتها جنباً إلى جنب مع زملاء لهم من الأرمن. لقد أدى وجود مدرسة للتشريح في كيليكيا في وقت كان تشريح جثة الإنسان محظوراً في جميع أنحاء أوروبا شرعاً مما أدى إلى ترحال أطباء عرب وغيرهم العديدين لدراسة تشريح جسم الإنسان عملياً في كيليكيا.‏

ولا يسعني هنا إلا أن أذكر الطبيب السوري الشهير أبو سعيد وعلاقاتهِ العلمية – الطبية مع ألمع طبيب أرمني في زمانه في كيليكيا وتحديداً مخيتار هيراتسي.‏ علينا الإشارة هنا أيضاً إلى أنه كان لأبي سعيد كتاب بعنوان “تشريح الإنسان” يدرّس في أرمينيا في القرون الوسطى إلا أن النسخة العربية لهذا الكتاب فقدت مع الأسف لكن هناك عدة نسخ مترجمة إلى الأرمنية تقبع في دار مخطوطات العاصمة الأرمنية يرفيان فنأمل من جامعة حلب ومن معهد التراث العلمي العربي في هذه المناسبة الاهتمام بالأمر للحصول على نسخة منها لإغناء مكتبة المعهد.‏ ومع استقلال أرمينيا عن الدولة العربية في عام 885م وإقامة الدولة الأرمنية كان الخليفة المعتمد أول من اعترف بالدولة الوليدة فأرسل إلى الملك آشود بقرادوني تاجاً ذهبياً مرصعاً بالحجارة الكريمة عربوناً للصداقة والاحترام المتبادل.‏

استمر هذا التعاون السياسي والعسكري بين الطرفين حوالي قرنين ونيف رغم بعض الهزات والخلافات.‏ وكانت العلاقات الأرمنية – العربية متطورة ووثيقة جداً إلى حد أن مئات العسكريين والسياسيين الأرمن كانوا يعملون في بلاط الخلافة والجيش العربي وخير مثال على ذلك أن الخليفة هارون الرشيد أرسل وفداً إلى القيصر كارلوس الكبير عام 803م وكان الوفد العربي الملكي يحوي اثنا عشر مستشاراً أرمنياً في الشؤون العسكرية والسياسية.‏

يتحدث التاريخ العربي بفخر واعتزاز جمين عن القائد العربي علي بن يحيى الذي حارب البيزنطيين وانتصر عليهم وكان القائد العام لأهم منطقة عسكرية في الإمبراطورية العربية التي تدعى بـ “الثغور الشامية” التي كانت تمتد من مدينة أنطاكيا حتى شمالي العراق بطول ينوف عن 1.000كم كذلك يعتبر حسام الدين لوزون من القادة الذين تبوؤا أعلى المراتب في قيادة الأسطول الحربي العربي ويعتبر فسطاط بن وهرام من مؤسسي مدينة القاهرة.‏

احتل الأرمن مراتب سياسية وعسكرية عالية جداً وخاصة أيام الخلفاء الفاطميين ومحمد علي باشا ولكن الفارق أن الذين خدموا دولة محمد علي ظلوا على دين أجدادهم بينما أسلم الذين دخلوا في خدمة الفاطميين بين الأعوام 969-1171م نذكر من هؤلاء الأرمن المسلمين أشهر القادة قاطبة بدر الجمالي.‏ حيث تقلد مناصب عدة كان حاكم مدينة دمشق في بادئ الأمر ثم عين حاكماً عسكرياً لمنطقة عكا ثم أميرالاً أولَ للبحرية المصرية يقول المؤرخ العربي ابن خليكان في كتابه “وفيات الأعيان”: حينما عمت الفوضى والضعف حكم المستنصر دعا الخليفة بدر الجمالي لإخماد الفتنة في مصر فجاء على رأس جيش جميع أفراده من الجنود الأرمن يصل عددهم إلى 30.000 ودخل القاهرة عام 1074م وأخمد الفتنة بيد من حديد وعم السلام في ربوع مصر وعرفاناً منه أغدق المستنصر على بدر الجمالي مناصب عديدة منها الوزير الأول ثم أمير الجيوش وقاضي القضاة.‏

يقول المؤرخ العربي الآخر ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ”: أصبح بدر الجمالي الحاكم الفعلي لمصر واحتفظ بسلطاته حتى مماته سنة 1094م” ويذكر فيليب حتي بدوره أن فترة حكم بدر الجمالي وابنه الأفضل يمكن مقارنتها بالفترة الأسكندرانية من الناحية العمرانية والثقافية.‏ ساد ظلام دامس بعد هذه النهضة الرائعة والتعاون المشترك بين الشعبين العربي والأرمني لسقوط هذه البلدان تحت نير الاستعمار التركي واستمر التأخر الحضاري بتسارع شديد طوال حكمهم التعسفي وبسبب هذه السياسة هاجرت أعداد كبيرة من جموع الأرمن إلى البلدان العربية كمصر وسورية ولبنان وفلسطين السودان وكان العرب منذ القديم متعاطفين مع النازحين الأرمن فمنحوهم حرياتٍ واسعةً في فتح المدارس وتدريس اللغة الأرمنية بحرية وعبادة دينهم فأخلص الأرمن لهم لقاء ذلك وقدموا جهوداً كبيرة في إنعاش البلاد في شتى أوجهها.

اشترك الأرمن بنشاط كبير في بناء دولة محمد علي باشا أيضاً وتبوأ بعضهم مواقع سيادية في دولته القوية مثل نوبار توباريان باشا في منصب رئيس وزراء مصر مدة 20 سنة متواصلة وبوغوص يوسوفيان وأرتين جراكيان وأراكيل نوباريان كوزراء خارجية وغيرهم .‏ كذلك اشترك الأرمن في الحياة السياسية في لبنان وسورية أيضاً وكان كربيت داووديان أول متصرف للبنان ونائب السلطان العثماني بعد الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1860 الذي قرّب وجهات نظر الفرقاء المتقاتلين في عهده واهتم بنهضة البلاد الاقتصادية تشكلت متصرفية جبل لبنان عام 1861 وظلت على هذا الوضع حتى عام 1914 حكم لبنان أثناءها 8 متصرفين 4 منهم من الأرمن آخرهم هوفهانّس قيومجيان باشا.

وأضاف كان هدف الأرمن والعرب المشترك أثناء الحرب العالمية الأولى التخلص من الحكم التركي الذي طال 400 سنة إلا أن هذا التعاون بين الشعبين لم يكن مستحباً من قبل الترويكا الأتراك المجرمين أمثال جمال وطلعت وأنور فاستغل هؤلاء الاتحاديون من أصل اليهود الدونمة ظروف الحرب الكونية الأولى واتجهوا إلى ضرب العرب والأرمن معاً وتحولوا إلى سفاحي هذين الشعبين الأكثر تحضراً منهم .‏

يقول المؤرخ العربي أمين سعيد في كتابه المعنون “الثورات العربية في القرن العشرين”: بعد استلام الأتراك الاتحاديين الحكم حاولوا إنهاء الحركتين القوميتين العربية والأرمنية في سورية ولبنان والعراق والحجاز وأرمينيا التاريخية بشكل جذري عبر تعليق مشانق الأحرار والمفكرين العرب في دمشق وبيروت وزحلة وسواها وذبحوا 1.5 مليون من الأرمن بأبشع الطرق وحشية على جميع الطرقات نحو المشرق العربي” (نهاية كلام المؤرخ) على طول طريق أسميها أنا دانتيه تمتد في سورية من قرية قطمة الحدودية حتى منبج والباب وحلب ودير حافر ومسكنة ودبسي فرج ودبسي عفنان والرقة ودير الزور والشدادة حتى الموصل شمالي بلاد النهرين وأضحت أراضي سورية العريقة أكبر مقبرة أرمنية في العالم دفن في ترابها الطاهر أكثر من نصف مليون شهيد قضوا بأكثر الطرق وحشية لا يعرف التاريخ مثيلاً لها بدءاً من 24 نيسان عام 1915 أما الباقون على الحياة في حلب فقد كان عددهم يصل إلى 120 ألف عندما كان عدد سكان حلب لا يتجاوز 300 ألف وقاموا على أرجلهم بعد فاقة وعوز شديدين وخرجوا من أكواخهم المبنية من الطين بسبب كدهم ليل – نهار ومساعدة الحكومة السورية والسكان المحليين من مسلمين ومسيحيين وجمعيات خيرية أرمنية في المهاجر في جميع أصقاع المسكونة ومنظمات الإغاثة العالمية وتجنسوا كسوريين في عام 1924 وأخلصوا بدورهم إلى البلدان التي منحتهم المأوى والكرامة وعملوا في الصناعات والمهن والبناء والرياضة والفنون والموسيقا وغيرها الكثير الكثير متمتعين بكامل حقوق المواطنة كأي فرد من البلاد.‏

وختم قائلاً بأن كتب التاريخ ذكرت بأن هناك نساء اشتهرن في صنع الأحداث وكتبن بأحرف من ذهب سيرة حياتهن نذكر منهن:‏ بدر الدجى زوجة الخليفة العباسي المقتدر والخليفة القائم بأمر الله وقرة العين التي تزوجت القائم بأمر الله بسعي من والدته بدر الدجى وكانت محبة للفقراء وتعطف على المساكين وحجت ثلاث مرات وشجرة الدر زوجة الملك الصالح اسماعيل وهي غنية عن التعريف وست الملك ابنة الوزير بدر الجمالي.‏

ومن الرجال الشيخ عبد الله بن يونس الذي أمضى جميع سنوات حياته متعبداً في الجبال وعلي بن يحيى الذي كان أحد الضباط القادة الرئيسيين في جيش الخلافة العربية أثناء الحروب البيزنطية التي استمرت قرابة /300/ عام وأسندت إليه مهمة الذود عن أخطر الدفاعات وتحديداً عن الحدود العربية – البيزنطية أو ما يدعى ثغور الشام وأتابك وسلطان الموصل بدر الدين بن عبد الله اللولو الذي وسع مملكته حتى وصلت إلى حلب وكان محباً ومشجعاً للمفكرين والكتاب ويمنحهم الهدايا والعطايا المالية الثمينة والقائد الشهير بدر الجمالي الذي قدم خدمات جليلة للخلافة الفاطمية والأفضل سيف الإسلام وأحمد بن الفضل والسعيد أبو الفتح يانس الذي اتصف بالذكاء الخارق والشجاعة ولهذا تم تقليده رئيساً للوزراء وقائداً للجيوش الفاطمية ولهذا منح لقب أبو الفتوح ناصر الجيوش سيف الإسلام وطلائع بن رزيك وكان قائدا ًللجيوش ورئيساً للوزراء ولقب بـ /الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك/ ورزيك بن طلائع كما نبغ العديد من الكتاب والعلماء والفقهاء والمعمار باشي سنان وغيرهم.‏

حلب
الجماهير

Share This