تكريم زافين خدشيان سر الطاقة التي تسكن الشكل والمادة

أقيم مساء الإثنين الفائت حفل تكريم للنحات زافين خدشيان في دير بطريركية الأرمن الأرثوذكس في بكفيا، نظمته الجمعية الأرمنية للثقافة والتعليم في رعاية الكاثوليكوس آرام الأول لبيت كيليكيا، في حضور لفيف من أصدقاء المكرم من الفنانين.

الدخول إلى عالم منحوتات زافين خدشيان أشبه بمحاولة تفسير قول ليوناردو دافينشي “إن الحركة مبدأ تجسيد كل شيء حي”، فالقوة المتغلغلة في أعماله مصدرها معرفة هندسة قولبة الأشكال، وفق عوالم النحت القديم والحديث. استطاع زافين أن يدمج إشاراتها الواقعية والتجريدية وان يجمع في أسلوبه دينامية الحركة وشاعرية الاستكانة الكامنة في قطف اللحظة الخاطفة التي تجعل النحت يلامس هندسة روح العواطف. وهذا ما جعله ينحاز إلى مظاهر الواقعية التجريدية في خط جمالي تصاعدي تغلغل في تجارب أكثر من أربعين سنة عبر من خلاله عن سردية الحركة العاطفية كصورة ذهنية مجردة تعكس تجليات إيماءات الطاقة الداخلية التي تسكن روح الجسد وعواطفه الجياشة.

من هذا المنطلق دخلت منحوتات زافين في ذاكرة عالم النحت الحديث في العام 1974 في كتاب صدر عن “دار لاروس” في باريس عنوانه “الفن والعالم الحديث”، وأدرجت تجربته كتجليات تدمج بين طراوة روح الشرق والفكر المستقبلي الغربي “الفوتوريسم” في بلورة النسق الديناميكي- الحركي والمبالغة بإظهار بنائية إيماءات الحركة العضوية للجسد المنحوت، وتجسيدها كعطر لخطوط تنساق وراء الملمس العاطفي للأشكال المنحوتة وإبرازها كتجليات رؤيوية شعرية.

لا يمكن فصل تجربته عن مؤثرات مدرسة باريس في النحت، فهو من الجيل الثاني الذي انطلق بعد تخرجه من الأكاديمية اللبنانية في العام 1952 للدراسة في المدرسة الوطنية العليا في باريس، حيث افاد من دلالات الحركة في تجسيد المظاهر العاطفية في النحت الفرنسي الحديث من خلال مواكبته أعمال أستاذيه مارسيل غيمون والفرد جانيوت، اللذين يدرجان ضمن الحلقة الأخيرة من الواقعية الرؤيوية التي ظهرت مع أرستيد مايول وانطوان بورديل، اثر رحيل رودان. فقد أوحى “نصب لبلزاك” الذي نفذه رودان في تكريس مظاهر التمرد في النحت الفرنسي الحديث والانتقال من المفهوم الجامد إلى اقتناص الحركة وتجلياتها العاطفية والتركيز على القيم النحتية الجديدة، في سياق التعبير عن النزوات العاطفية العميقة التي تتجسد كحالة شعرية. تلك الرؤى النحتية تظهر دلالاتها في ايهامات مقاربة محاكاة الواقع بشمولية التجريد وفق المنطلقات الفلسفية الشرقية، التي تبدأ من المجرد إلى المحسوس، ومن الأعلى إلى الأسفل ومن فوق إلى تحت، فالكلي يسبق الجزئي ويحتويه مما يؤدي إلى مقولة أن التجريد يسبق الواقع.

جمع زافين بين طاقة اليد في قولبة تشخيص الأشكال ودلالات تأملاته الفكرية التي تفصح عن تفهم عميق لمجريات الواقعية التجريدية في النحت الحديث، من دون الابتعاد عن جوهر النموذج الإنساني الذي يقدمه كل مرة وفق منظور لجمالية شرقية تتبع التبسيط الاختزالي الجذري للشكل، أي تمحو أوصال التفاصيل كي تبقي روح الكتلة المنحوتة، أي حركة رسم محيطها وجذوعها اللينة والصلبة من دون التفلت من نسبها وسماتها الواقعية. كما لو أن زافين يتبع فلسفة قوامها أن التطابق الدقيق في النحت الواقعي ليس هو الحقيقة كاملة وان الحقيقة التشبيهية لا تكتمل إلا في استكشاف شاعرية المعالم الواقعية التجريدية ومدى انفتاحها على طقوس الحركة التعبيرية السريعة الزوال، أو على شاعرية الحركة المقطوفة كحالة عاطفية أو كتجليات لمواقف إنسانية. حركة توقظ فينا تلمس رهافة الإحساس بإيماءات العواطف والغرائز التي تفشي سرها ليونة الخطوط والأقواس في الكتل المنحوتة، التي تروي في مظاهرها حيوية الاستمتاع بديمومة إشارات الحركة الصافية، المنبثقة من جسد المنحوتة.

أدرك زافين أن مفاهيم التعبيرية التجريدية، النابعة من طاقة الحركة الكونية الحية، هي التي أوصلته إلى ملامسة أعماق الأحاسيس البشرية. فالشكل الإنساني هو قوة ابتكارية، بدأ يتمظهر في تكاوين منحوتاته كنماذج لأشكال بشرية ميتولوجية تأخذ في مظهرها الخيالي- الرؤيوي أشكال الالتحام مع تكاوين الطيور الواقفة في مهب الريح، وذلك من خلال إيهامنا بأن حركة الرداء عندما تعصف به الرياح يشبه حركة الأجنحة، وأن تجليات حركة الأقواس البارزة في المنحوتة تنبع في دلالاتها الرمزية من خطوط الرياح وانسيابية الجداول والأنهار وفسحات المدى المفتوح، أي من التحامها العضوي مع إشارات الطبيعة.

هكذا تعمقت رؤية زافين خدشيان الفلسفية، في بلورة نبض ملامح الصورة التجريدية من دلالات إشارات الصورة التجسيدية لشكل الجسد المنحوت، الذي يتفاعل في تحولات تموضعه مع إشارات الطبيعة، الإشارات الزائلة والثابتة، الإشارات البليغة النابعة من ليونة التموجات ومن استقامة ركائز الخطوط المنحدرة، التي تحقق ايهامات النقاء والرشاقة والتناسق والتوازن الشكلي.

يبدأ زافين نواة منحوتاته من عملية تنظيم التداخلات البليغة، المبسطة والموجزة، بين خطوط سطوح منحوتاته، كي تبقى أشكاله مفتوحة على إيقاعات الإشارات الحية، التي تجسد مسالك الحركة ورشاقتها. فالتوازن الكامن في فضاء استدارات منحوتاته يأخذ مجرى الموج في القدرة على التعبير، عن تماثل تموضع الإنسان الطائر المنتصب والمنحني والمستلقي، وفق قانون الإمحاء والتبسيط، ليس للملامح فقط وإنما أيضا لجوهر الكشف عن القوى الخفية الداخلية التي تسكن روح الكتلة النحتية، والإفشاء عن عملية الاستقطاب التجريدي الحيوي لعناصر الشكل من خلال الاختصار البليغ في صوغ الخطوط والأقواس، وجعلها تندفع كأشواق ورغبات وأحلام أو كمقاطع شعرية تحدد قدرة التكوينات النحتية على ملامسة الأعماق الإنسانية.

زافين خدشيان فنان كبير، تنبثق منحوتاته من حالات الجمع بين ما هو كوني وإنساني وتمزج العصور بالأزمنة الغابرة والراهنة لتجمع شتات الأحلام وميتولوجيا الشعوب التي ناضلت من اجل الحرية. نفذ في العام 1968 نصب شهداء الأرمن، وهو يعكس في دلالاته الرؤيوية التجريدية تجليات الوقفة الشامخة لكل مناضل يرفع شعلة الحرية، ويجمع بين هندسة روح الحركة النضالية المتوثبة في رفع شعلة الحرية وتجسيد تجلياتها الشعرية.

جدير بنا تكريم زافين خدشيان وجمع شتات نتاجه في متحف أو كتاب يروي تحولات تجاربه ويكشف عن العلاقة السرية الكامنة في أروقة مقامات أشكاله النحتية مع فصول حكايات الشعب الأرمني الذي هاجر من هندسة الرعب والمجازر إلى انبثاق هندسة الحياة، أي هندسة الألفة والحنان والتآخي والعواطف الإيمانية الجياشة بحب الأرض التي وقفت في وجه رياح الهجرات والحروب مثل طائر فينيق يعانق بأجنحته شموس التوق للحرية.

 

voicelebanon.net

Share This