المغامرة أساس في الكتابة

ينتشر الأدب العربي، عالمياً، على استحياء، فكأنه طفل يحبو متخطياً عتبة البيت، ليرى،في دهشة الطفولة، ما وراء هذه العتبة من كائنات بشرية وطبيعية. وفي هذا التخطي اكتشاف وحضور: اكتشاف للإبداع العربي عالمياً، وحضور هذا الإبداع في العالم، كما للعالم حضور لدينا، وبذلك وحده نجابه التحديات الثقافية، ولا بالمنع، أو التحصن، أو الوعظ والإرشاد، ففي زمن الكومبيوتر والانترنت، والثورة المعلوماتية، لم تعد ثمة تخوم، نتحصن وراءها، ونحمي أنفسنا مما يسمونه الغزو الثقافي للوطن العربي.

هذا، وفي رأيي، يختصر الكثير الكثير من الكلام والكثير الكثير من تحبير الصفحات، في البحث عن الطريقة المثلى لجبه التحديات الثقافية، في “القرية الكونية” التي نعيش فيها بحكم الواقع لا الرغبة، وكي يكون لنا، ثقافياً، مكان في هذه القرية، ينبغي أن نسلك إليه الطريق الصحيح: طريق حضورنا الإبداعي، في قلب هذا الكون من حولنا، بعد أن استطعنا، قبل جائزة نوبل لنجيب محفوظ، وبعدها خصوصاً، أن نخترق بأدبنا وفننا، الحصار الذي كان مضروباً حولهما، من قبل الصهيونية أولاً، وأجهزة الإعلام الأميركية والغربية ثانياً، وهذا في ذاته، انتصار ثقافي، سيتطور مع الأيام، بفعل المزيد من الإبداع العربي، ذي السوية الفنية الرفيعة، وهذه لن تدرك دون التغامر شبه المفقود في تجاربنا ومعلناتنا، لأن الكتّاب والفنانين العرب يخافون المغامرة أو لا يقدمون عليها، بسبب من الاسترخاء على المقاعد الفاخرة، أو الاستلقاء على الأسرّة الوثيرة، ووضع الاصبع على الصدغ متسائلين: ماذا نكتب!؟

هنا نقطة مهمة، تشكل نقصاً فاضحاً في ممارساتنا الإبداعية وهذه النقطة هي المغامرة، التي سيكون لها بحث آخر مستقل، كي يستيقظ الذين ينامون على أمل اصطياد أيما سحابة بيضاء، في الحلم لا في اليقظة، ليدونوا عليها خواطرهم الباعثة على الملل، لكثرة ما صارت مجترّة في الكتب والأفلام والمسلسلات العربية التي تنسج في الغرف المغلقة، لا الفضاءات الرحيبة، أي دنيا الناس، وما فيها من مناطق مجهولة علينا أن نغامر كي نكتشفها.

لقد قلت، وأكرر: إنني كاتب هذه المناطق المجهولة، وستصدر لي، قبل نهاية هذا العام، رواية عنوانها «امرأة تجهل أنها امرأة!»، تدور أحداثها في منطقة بعيدة، عسيرة، هي منطقة كسب في سورية، الواقعة بين الجبال والغابات، ويقطنها مواطنونا الأرمن، هؤلاء الذين كانوا، في الكفاح الوطني، جنباً إلى جنب معنا، وهم يناضلون لأجل التقدم الاجتماعي، جنباً إلى جنب معنا أيضاً.. ورداً على السؤال المفترض، حول الغاية من كتابة رواية عن منطقة كسب، في وقتنا الراهن، أجيب بأنه الاكتشاف عبر المغامرة، فقد غامرت عمري كله، واكتشفت، من خلال مغامراتي، عوالم مجهولة دائماً، وهذا هو الدافع لكتابة رواية «الفم الكرزي».

يبقى الكلام على فحوى هذا الاكتشاف، الذي أعطاني المادة المطاوعة لرواية غريبة، في موضوع غريب، وهذا ما يحتاج إلى إيضاح، في بعض جوانبه على الأقل، فالرواية تتناول مرحلة خاصة، في منطقة خاصة، هي منطقة كسب، المصيف السوري الشهير، وقد عشت، مدفوعاً بحب المغامرة، فترات من حياتي في هذه المنطقة التي تتدرج على سفح جبل، مرتفعة عن سطح البحر ارتفاعاً شاهقاً، يجعلها أشبه بمجرّة معلّقة في فضاء قبة من الصخور والخضرة، يحنو عليها الجبل الأقرع، الشبيه بوجه أمرد، في ملاسته الحجرية، وفي حنوّه يصدّ عنها الرياح والغارات، هذه المنطقة مسوّرة بالغابات الكثيفة البكر، التي تزأر الأسود، ويتردد صدى العواء الوحشي، في جنباتها.

أما الفترة التي عشت فيها، وغامرت من خلالها في منطقة كسب، فإنها تمتد بين بداية الحرب العالمية الثانية، وجلاء الاحتلال الفرنسي عن سورية، هذا الجلاء الذي تحقق بعد نضال عنيد، وثورات متتابعة، توّجتها الثورة السورية الكبرى عام 1925، الثورة التي اشترك فيها وطنيون مجاهدون من كل أنحاء سورية، ومن كل الأحزاب الوطنية، على اختلاف عقائدها وأيديولوجياتها، إلى أن كانت انتفاضة عام 1945، وقصف دمشق، ومعركة البرلمان، التي أدت إلى خروج القوات الفرنسية والانكليزية من سورية ثم من لبنان.

وإذا كانت هذه الرواية تتناول نضال الأرمن، رجالاً ونساء، في منطقة محددة، فإن هذا النضال كان جزءاً من كل، هو حزب الشعب الديمقراطي العربي، وقيادته في دمشق وبيروت، وكان المناضلون الأرمن في منطقة كسب يربطون ربطاً وثيقاً، بين كفاحهم من أجل إخراج الاحتلال الفرنسي من سورية ولبنان، وكفاحهم من أجل أرمينيا دولة مستقلة (وهو ما تحقق الآن) إضافة إلى أن المناضلين الأرمن في كسب كانوا يتلقون توجيهات وتعليمات من قيادة حزبهم في كل من سورية ولبنان، وينفذونها بدقة وأمانة وسرية ومرونة وتنظيم رفيع المستوى، اشتهر به الأخوة الأرمن بشكل خاص متميز دائماً.

ومن المعروف أن المناضلين الأرمن في منطقة كسب كانوا يقدمون العون والمساعدة إلى من يلجأ إلى هذه المنطقة من المناضلين السوريين، ومن قادة الثورات السورية المتتابعة، ويخفونهم في بيوتهم، أو في الغابات الكثيفة، في الجبال المحيطة بمنطقتهم، هكذا دخل المقاومون الأرمن في النسيج النضالي العربي ضد الاحتلال الفرنسي: فالمناضل هايكاز هايكازيان كان أحد قادة الإضراب الخمسيني ضد فرنسا في العاصمة دمشق، والمناضل المحامي بييرشد رافيان (الذي استشهد فيما بعد) كان يدافع عن الوطنيين السوريين أمام المحاكم الفرنسية المختلطة في حلب والمدن السورية الأخرى، والقائد أرتين مادونيان كان أحد الذين ناضلوا بأجسادهم وأقلامهم في سبيل «وطن حر وشعب سعيد» وقد اعتقل وسجن من قبل السلطات الفرنسية وإليه يعود الفضل على مدى نصف قرن ونيّف، في إشراك الجماهير الأرمنية، في لبنان وسورية، في النضال العام ضد فرنسا، ومن أجل تحرير فلسطين، وصياغة شعار «التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي» الذي غدا شعار كل التقدميين في الوطن العربي.

وكان جواد، بطل هذه الرواية، منتدباً من منظمة الحزب في اللاذقية، للعمل في منظمة كسب ومنطقيتها، وقد قاد نضال هذه المنظمة في ظروف صعبة جداً، وفي ظرف حكم الجنرال «دانتز» لسورية بعد احتلال ألمانيا فرنسا، وإقامة «حكومة فيشي»صنيعة النازية، ورغم تعدد الأسماء الحركية لجواد، فإنه كان عربياً من اللاذقية، وبعد تحقيق جلاء فرنسا عن سورية، والاحتفال الكبير به في كسب، يعلن  في ختام الرواية- قراره بالعودة إلى اللاذقية، لأن حبيبته ييرانيك، بطلة الرواية آثرت السفر إلى أرمينيا، على حبها لها.

إن هذا الإيضاح قد يكون نافلاً، لولا مساءلة مفترضة عن سبب قيام روائي عربي سوري بكتابة رواية مهادها منطقة «كسب» وأبطالها أرمن كانوا جزءاً لا يتجزأ من الحركة الوطنية العربية التحررية ولايزالون. وفي هذه اللحمة بين العرب والأرمن في سورية ولبنان، ولحمة المواطنة بين مسلمي وأقباط مصر، رد بليغ بالوقائع الموثقة (روائياً) على أعداء العرب، وفي المقدمة أميركا وإسرائيل، اللتان تحاولان –من خلال الأضاليل والافتراءات- إثارة موضوع الأقليات في الوطن العربي، فتأتي الحقائق التاريخية لتفضح أضاليلها، وتذروها في الرياح الأربع.

نعم! هذه رواية عن كفاح الأرمن، ولكنها، في المحتوى والهدف، رواية عن كفاح العرب ضد أعدائهم، على امتداد الوطن العربي الكبير كله، ولولا المغامرة ما كان اكتشاف مصيف كسب، ولا كانت هذه الرواية عن هذا المصيف وسكانه في أصعب الظروف!

بقلم حنا مينه
عن صحيفة تشرين الأسبوع الثقافي ، 16 آب 2009

Share This