النهضة غاية الأرمني السوري العربي أديب إسحاق

أديب إسحاق: إذا اتخذتم الاعتدال سبيلاً والكمال غاية فلا ترهبكم حوادث الزمان

للنهضة أعلامها وأقلامها، والنهضة العربية التي نشطت في القرن التاسع عشر اعتمدت ميادين متعددة، فكانت حركة متكاملة للتجديد الديني، وحركة للنهوض اللغوي والأدبي، وأخرى للإعلام والصحافة، وأخرى علمية بدأت ولم تكتمل، فكان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكان بطرس البستاني وكانت حركة الإعلام التي شهدت ولادة أكبر كم من الصحف والدوريات العامة والمتخصصة، وكانت ولادة المستشفيات وكليات الطب، فنشط القصر العيني، ومع بداية القرن العشرين كانت كلية الطب بدمشق وتعريب العلوم الطبية على يدي مرشد خاطر وغيره من حاملي عبء النهضة. وبعد مئة عام العرب يبحثون اليوم عن نهضة مماثلة

ولكن تقانة اليوم جعلت العرب يبحثون عن نهضتهم بأنفسهم دون البحث عن رواد.. وكما رائد اليوم متعدد ومتنوع كذلك كان رائد الأمس الإنساني متعدداً ومتنوعاً. وإنه لمن الفخر أن يكون أحد رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر أرمينياً عربياً، سورياً، لبنانياً- مصرياً- مهاجراً- مستقراً، ويحمل اسم أديب إسحق الشهاب اللامع الذي غادر الأرض قبل أن يكمل عامه الثلاثين، ولكن ترك أثر المعمرين.

أديب إسحاق المتعدد

من إيجابيات الحركة الثقافية في سورية أن تغيب التصنيفات التي تؤطر هذا الأديب أو ذاك، ويفاجأ الكثيرون، وهم يقرؤون سيرة رائد النهضة أديب إسحاق، فتذكر المصادر على سبيل التوثيق بأن أديب إسحاق ولد عام 1856 في دمشق، وكان والده من طائفة الأرمن الكاثوليك، وتوفي في عام 1885 م في الحدث ببيروت، ولا يعنينا أن يقول بعض الباحثين إنه دمشقي وغادر إلى بيروت والقاهرة، أو يقول آخر إنه لبناني ولد في دمشق، ما دام في سيرته الذاتية يعود إلى أرمينيا، فالتجاذب لا يفيد ما دام يعود إلى أصل آخر غير الولادة. ولكن أديب إسحاق كان متعدداً حقيقة، فهو أرمني الأصل والقومية، وعربي اللغة والنهج والتأليف، وسوري المولد، ولبناني الحياة والقبر، ومصري الهوى والكتابة، والمهاجر اتجه بعقيدته وآرائه إلى باريس التي لم تكن سوى محطة عابرة عاد بعدها بسبب المرض ليكمل أيامه ويودّع الدنيا في بيروت، فهل هذه علامة شخص متعدد متنور أم ماذا؟ وهل هذه علامة عصر منفتح يعترف بالآخر أم ماذا؟

أديب إسحاق وشيخ النهضة

أديب إسحاق ابن البيئة الشامية السورية التي كانت تواجه الدولة العثمانية بكل وسائلها التي استعملت بحق مواطنيها ورعاياها، وهو ابن الجالية الأرمنية التي كانت سابقة على إبادة الأرمن التي حدثت عام 1915، فوجوده في سورية كان سابقاً للإبادة، وممارسات الأتراك لم تكن محصورة على عام الإبادة، ولا على عام شهداء العرب عام 1916، وهذا يعني وجود الروح الثائرة والرافضة لكل أنواع الاحتلال الخارجي الذي حاول الهيمنة على مقدرات الدول الواقعة تحت السيطرة سواء أكانوا من العرب أم غيرهم.
وأديب إسحاق لم يتخلف عن بيئته العربية التي انتمى إليها لغة وتأليفاً وإعلاماً، بل تفاعل مع مجتمعه في سورية ولبنان أمام الإجراءات المتتالية بما فيها من استبداد وكم للأفواه وتعليق للدستور، وتتريك للبلاد، وفي هذا حديث مهم عن وحدة آلام الشعوب المقهورة، حتى قبل أن يقع القهر. وكان اللقاء الأهم بين لقاءات حياة أديب إسحاق القليلة مع الشيخ جمال الدين الأفغاني في القاهرة وهذا اللقاء كان علامة فارقة في حياته القصيرة وفي عصر النهضة فكراً وثقافة وصحافة.

أديب إسحاق وثورة الفكر

هناك من يقول: بلقاء إسحاق مع الأفغاني تسربت روح الثورة إلى إسحاق، وهناك من يرى أن اللقاء كان قدراً للنهضة، وهذا الرأي أقرب للصواب، إذ لا يمكن لشاب يافع أن تتسرب إليه روح الثورة لو لم يكن مالكاً لهذه الروح أصلاً، فقبل توجه إسحق إلى القاهرة كان نشطاً وعاملاً في الصحافة من خلال جريدتي «ثمرات الفنون» و«التقدم» ومن هنا يمكن أن نفهم هذا التقارب مع الأفغاني صاحب الأفكار الثائرة. خرج إسحاق من لبنان ومن جمعية «زهرة الآداب» إلى الإسكندرية فالقاهرة. وكان للشاب إسحاق المتخرج في مدرسة الآباء العازاريين بدمشق، والمتقن للعربية والفرنسية النشاط الكبير مع الأفغاني الذي قرأ فيه مخايل النبوغ، فشجعه وأثّر فيه تأثيراً كبيراً وفاعلاً. وفي القاهرة عادت إليه لوثة الأدب والإعلام فأصدر مع صديقه سليم النقاش جريدة «مصر» 1877 ثم أصدر جريدة «التجارة» التي أسهم الأفغاني نفسه في نشر مقالات فيها.

باريس الهروب والمصادفة

من بيروت وجمعية «زهر الآداب» انطلق إسحاق، فارتحل إلى الإسكندرية فالقاهرة ولكن متابعة الأتراك له لم تسمح له بالاستقرار، وقد استخلص «معجم البابطين لشعراء العربية، ببراعة ما يتعلق بإسحاق المنسوب أصالة إلى العربية وشعرائها فقال: «كانت نزعته التحررية تجد غذاءها في فكر الأفغاني، فحاربه الحكم التركي وطارده إلى باريس، وهناك التقى بفكتور هوغو، وشهد الحياة النيابية الحرة، وسجل هذا في صحفه، كما تبنى القضية ذاتها في نشاطه المسرحي ليوصلها إلى الشعب. لقبه الأدباء الفرنسيون الذين صادفهم في باريس بنابغة الشرق.

لم يتمكن إسحاق من العيش هادئاً، واضطر للسفر إلى باريس، وهناك التقى صاحب البؤساء فيكتور هوغو، وقليل منا يعرف مثل هذا اللقاء الذي يكسب إسحاق قيمة أدبية إضافية، ومن هذا الإيجاز يمكن أن نفهم أهمية إسحاق ورحلته، فقد سجل هذه الزيارة وهذه المشاهدات في صحفه، فالكاتب الثائر الشاب أسهم في تلقيح آراء الناس، وأطلعهم على الحضارة الفرنسية، كما زاد على غيره في مسرحه ومعرفته المسرحية، فوصل مكانة عظيمة لم يصل إليها من هذه اللقاءات سوى رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه النهضوي «الإبريز» وأحمد شوقي عندما نفي وعاد بالمسرح الشعري وبالأندلس شعراً وروحاً وانتماء. ولكن ما يلفت الانتباه، ويجب ألا يمر مروراً بسيطاً هو تلقيب الفرنسيين له بـ«نابغة الشرق» وهنا نعرف أن إسحاق لم يعرّف بنفسه، ولم يقدم نفسه ابناً لثقافة غير عربية، ولم يحاول التسلل إلى نفوس الفرنسيين بقوميته، وهذا يوصلنا إلى أصالة إسحاق، وإلى طبيعة فكره الإنساني المنفتح الذي كرّسه نابغة للشرق، ثم شاعراً بالعربية ومن أبنائها.

غزارة ورحلة قصيرة

لم يتم أديب إسحاق عامه الثلاثين، لكنه جاب الأرض من دمشق إلى بيروت والإسكندرية والقاهرة، وأتقن العربية والفرنسية والتركية، وأصدر عدة صحف، وكتب مقالات كثيرة، واشتغل بالتشخيص والمسرح وقد ترك إسحاق: – مقطوعات شعرية وقصائد فقد الكثير منها، وما بقي في كتاب «الدرر» الذي جمعه أخوه عوني. و- ثلاث مسرحيات مترجمة عن الفرنسية: «أندروماك» و«شارلمان» و«غرائب الأنفاق» والثالثة مفقودة. و- كتاب نزهة الأحداق في مصارع العشاق. و- آثار الأدهار بالاشتراك مع سليم الخوري.

وقد أجمع الدارسون على أن أهمية أديب إسحاق النثرية كانت أعلى من أهميته الشعرية، وذلك لاعتماده الصنعة والبلاغة في الشعر، ولكن ما أسف له الدارسون وذكره وفيق غريزي في مقالة له هو أن جزءاً كبيراً من مؤلفاته اختفى أو أخفي عمداً عقب وفاته بقليل لأسباب تتعلق بموقفه المناوئ للكنيسة الكاثوليكية في لبنان.

المفهوم التنويري الإصلاحي

في فرنسا عرف إسحاق التنوير في الثورة الفرنسية، فأحب هذه الفلسفة، وصار رافضاً للعنف والتغيير المفاجئ كما يشير غريزي، وربما كان هذا الميل من تأثير لقائه بالإصلاحي جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ويستشهد بقول مهم لإسحاق في هذا المجال «تدرجوا في مراتب الكمال لتبلغوا نقطة الاعتدال.. فإذا فعلتم واتخذتم الاعتدال سبيلاً والكمال غاية فلا ترهبكم حوادث الأزمان..» كما يشير الباحثون إلى مواطن خاصة في رؤية إسحاق الإصلاحية القائمة على المثل والأخلاق، الرافضة لكل عنف وقسوة. لم تميز النهضة بين أبناء الأرض، لم تفصلهم العقيدة والقومية، وأزعم أن النسبة الكبرى من قرائنا، بل من مثقفينا لا يردون أديب إسحاق إلى قوميته التي منها انحدر، لأنه اعتنق ثقافة أرضه، وبذل حياته دفاعاً عن هذه الأرض وقضاياها، ومن أجلها عمل في جمعيات سرية، وانتقل من مكان إلى آخر، وطورد ولوحق، وأحرقت كتبه ومؤلفاته، رحل أديب إسحاق في ميعة الصبا تاركاً أثراً لا يزول يدل على وعي مبكر وعبقرية فذة تجاوزت زمانها في الفن والمسرح والترجمة والمقالة والشعر والسياسة، رحل تاركاً مثالاً نادراً لما كانت عليه الحياة حين ينصهر ابن الأرض بأرضه ذائباً في حبها، متعبداً في محرابها، ناهلاً من تياراتها المختلفة، وكل ما يوافقه الفكر يصبح مكاناً له ولآرائه.

وها هو يخاطب قومه:

كيف يرضى بخطة الذل قوم
ويقولون نحن شمّ الأنوف
قد تبينت حالتي وأنا في
ربقة الأسر تحت رقّ العريف
فحسدت البهائم العجم لمّا
لُحنَ للعين في ظلال الكهوف
كيف يصفو عيش الفتى في ديار
ساد فيها الغبيّ كلّ ثقيف؟

إسماعيل مروة

الوطن

Share This