ابراهيم خلايلي: “إن طمس الهوية الأرمنية في المناطق الأرمنية التاريخية إنما يشكل معاناة لكل الأبناء المنتمين إلى الشرق القديم”

Ibrahim_Khalayli
الباحث د. ابراهيم خلايلي

في حوار مع “أزتاك” الملحق العربي، يؤكد الباحث في تاريخ الشرق القديم وآثاره د. ابراهيم خلايلي: “إن طمس الهوية الأرمنية في المناطق الأرمنية التاريخية إنما يشكل معاناة لكل الأبناء المنتمين إلى الشرق القديم”. د. ابراهيم خلايلي باحث في تاريخ الشرق القديم وآثاره، متخصص بالحضارة الكنعانية الفينيقية، مؤسس مجلة “مهد الحضارات”(المجلة الأثرية السورية الفصلية)، مدرس تاريخ الشرق القديم وآثاره في جامعة حلب، مدير متحف دمشق التاريخي.

أزتاك العربي: يقال “من ليس لديه ماضٍ وتاريخ، لن يكون له حاضر”، كيف يجب أن نقرأ التاريخ القديم للمنطقة، وما هي الدروس التي يجب أن يتعلمها المرء من الحضارات القديمة؟

د. ابراهيم خلايلي: التاريخ القديم لمنطقتنا هو الصفة المميزة لها، فإذا ابتعدنا في مدننا وقرانا عن الأبنية الحديثة، نجد أنفسنا متوغلين في التاريخ القديم – بل وفي جل العصور – … لا توجد مدينة في الشرق لا تحمل آثار العصور… هذا الشرق الحياة متواصلة فيه – بدون انقطاع – على الأقل منذ عشرة آلاف سنة، وهذه المدة كانت كفيلة بأن تترك آثارها وبصماتها التاريخية في مدننا وقرانا، سواء على مستوى المباني الأثرية والأوابد، أو على مستوى المواقع الأثرية المكتشفة، وتلك التي تستوطن بطون التلال وطبقات الأرض، واللافت هو أن روح التاريخ تسكن منطقتنا… فنادرةٌ هي البلدان التي لا زال عبق التاريخ يسكنها… أسماء مدننا وقرانا الحالية قديمة جداً، والآثار الكتابية تؤكد ذلك، لغتنا ولهجاتنا التي نتحدث هي أيضاً قديمة، عاداتنا، أدبنا وفنُّنا، أغانينا وأهازيجنا ورقصنا، صفاتنا ومميزاتنا، طعامنا، حِكَمُنا وأمثالنا الشعبية، حبُّنا وعشقنا، طباعنا وأخلاقنا،… كلها تستمد ملامحها من الماضي القديم… نحن أناس من الماضي ومستمرون منه. ولكن هل هو فينا الآن كما يجب أن يكون؟!… إذا كان كذلك فنحن إذاً الأحرص على حاضرنا ومستقبلنا، لأننا كلما ازداد إيماننا بمنجزات حياتنا القديمة كلما ازددنا ثقة بأنفسنا وتَقدّمْنا وتَطورْنا… وكم من الأمم الحديثة الآن تبني حاضرها بحرص وإصرار من أجل أن يكون لأجيالها في المستقبل ماضٍ تفتخر فيه… هكذا يجب أن نقرأ تاريخنا القديم وأن نستثمره، ففيه هويتنا ويجب أن نحافظ عليها لنحافظ على أنفسنا من الضياع في عالم متغير.

أزتاك العربي: ماذا أعطتنا الحضارة الكنعانية أو الآشورية أو الحضارات القديمة بشكل عام؟ ولمَ الاهتمام بالتاريخ القديم؟

د. ابراهيم خلايلي: الحضارة الكنعانية أعطتنا هوية كان يصعب على شعوب العالم القديم امتلاكها، فأن يكون الانسان القديم كنعانياً، يعني أنه كان ابن المنطقة التي وُلدت فيها أصول الأشياء، والتي كانت منبعاً للأفكار والتقاليد والآداب والفنون… كان الكنعاني يحيا في مدن لها أسوار وقصور ومعابد وبيوت – بشبابيك – ، وكم كان هذا الشرط صعباً على بعض الأقوام…

البحر المتوسط كان – عبرحقبة طويلة – بحيرة كنعانية، والسفينة الكنعانية كانت مركزاً تجارياً وحضارياً مبحراً متنقلاً بين البلدان، والبحّار الكنعاني جاب بحاراً وبلداناً عدة… هاجر وأسّس المعمرات والمدن، ووصل إلى أبعد جزر التاريخ والجغرافيا، تغرّب واختلط بجل سكان المعمورة القديمة، ولكن لم يقل يوماً إنه ليس كنعانياً!… ولم يعرفه الآخرون إلا بهذا الاسم… إنه الذي يقرأ ويكتب، يصنع وينتج، يتاجر ويربح، يقاتل وينتصر، ويدرك أسرار الكون!… أعداؤه لم يتمكنوا منه أثناء وجوده على قيد الحياة، أظهروا له العداء دائماً… لماذا؟!… لأنه امتلك ناصية الحياة والمبادرة فيها كما يجب أن تكون، وكما لم تكن عندهم.

وكذلك الآشوري فهو ابن حضارة فريدة، يحاربه أعداؤه – كما الكنعاني – إلى الآن لأنه آتٍ من التاريخ. التاريخ الذي لا رجعة عنه…

نحن نهتم بالتاريخ القديم لأنه حصننا المنيع في وجه تيارات الابادة الثقافية… وفي وجه الزحف الهمجي الذي يستهدف أصولنا… فإذا أُتلفت هويتنا، وطُمست معالم شخصيتنا التاريخية، فهل من معنى لبقائنا على قيد الحياة أجساداً؟

أزتاك العربي: ما الذي يميز أرمينيا عبر تاريخها القديم وصولاً إلى التاريخ الحديث؟

د. ابراهيم خلايلي: أرمينيا جزء من أمتنا التاريخية الكبيرة، وما يميز أرمينيا عبر تاريخها القديم، هو أنها تميز – بمعطياتها – كل تاريخنا القديم كأمة شرقية مترابطة حضارياً، تمتد من شواطئ بحر قزوين إلى شواطئ بحر غزة، ومن بحيرة فان إلى بحيرة طبرية، من آرارات إلى حرمون، من يريفان إلى نينوى وحلب ودمشق والقدس، إلى صور وحاصور وعكا وأرواد…

ولـْنَسِـر حسب مجرى الفرات ومجرى دجلة، ولننطلق معهما من المنبع إلى المصب… سوف تتعب أساطير الوصف، ويستسلم الواقع الحالي للأمر الواقع القديم… أما أقلامنا – كمؤرخين وباحثين – فلا يجب أن يجف حبرها حين نبدأ بكتابة تاريخ الشرق القديم، كل الشرق القديم كما عرفه أبناؤه.

وأرمينيا امتلكت مفاتيح الشرق القديم كله ضمن أسوارها الأصلية. هناك تلازم بين تاريخ أرمينيا كجزء من تاريخ الشرق القديم وبين بقية الأجزاء…

ووصولاً إلى التاريخ الحديث، فإن ما يميّز أرمينيا هو أنها بقيت مع الأرمن حين اتجه بعضهم من بلده إلى بلاده، العراق وسوريا ولبنان وفلسطين… لقد وحّد هذه البلاد ملكٌ أرمني في عصر من العصور… والأرمن أتقنوا الحياة وأَلِفوها في هذه البلاد عبر العصور.

أزتاك العربي: ماذا تقول على عمليات تحريف المعطيات الأثرية والتاريخية في منطقتنا؟ علماً أن عمليات تحريف كبيرة تحصل لطمس الهوية الأرمنية من المناطق الأرمنية التاريخية.

د. ابراهيم خلايلي: جزء هام من أمتنا التاريخية محتلٌّ الآن… ومن احتل الأرض يعمل بالتأكيد على احتلال التاريخ، لأن التاريخ هو الشاهد الأهم والأبقى على الأرض… وتحريف المعطيات الأثرية والتاريخية في منطقتنا عملية مرتبطة باحتلال التاريخ، وهي عملية ينجزونها ويسعون إليها بالقوة، وباستخدام أعتى أسلحة القوة… نحن لسنا ساهين عن ذلك، ونعمل ما بوسعنا للتصدي لهم، ولكن ما يعيقنا ويعرقلنا أحياناً هو أكثر مما يسهّل عليهم مهامهم… والعراقيل ليست بالأمر السهل، هناك أراضٍ محتلة في منطقتنا، والظلم الدولي في حالة تحدٍّ مع العدالة السماوية وحقوق الشعوب… فمتى أنصفتنا المنظمة الدولية في قضية من قضايانا؟

إن طمس الهوية الأرمنية في المناطق الأرمنية التاريخية إنما يشكل معاناة لكل الأبناء المنتمين إلى الشرق القديم، واستهداف الهوية الأرمنية جزء من حرب مفتوحة على الهوية الحضارية الموحدة في المنطقة… هناك من يسعى في هذا العالم إلى عدم الابقاء على منطقتنا كما كانت… يريدون بعثرة أوراق التاريخ ليتصرفوا في الأرض كما تشاء السياسة والمصالح والأطماع، ومن يفعل ذلك قرأ تاريخنا جيداً ويريد أن يضع له الفصل الأخير، ومهمتنا نحن هي أن نستمر، وألا نعطيه فرصة وضع الفصل الأخير.

إن جل المؤلفات الخاصة بتاريخ أرمينيا – العربية منها والأجنبية وخاصة المراجع الأكاديمية – لا يقدم أرمينيا للدارس أو القارئ كوحدة تاريخية وأثرية ولا حتى جغرافيّة… هناك تقطيع لأوصال الوحدة التاريخية الجغرافية لأرمينيا، وهذا التقطيع ملموس من خلال المراجع الأكاديمية أولاً… إذْ لا توجد إشارات موحدة إلى المكونات الحضارية (التاريخية والجغرافية والأثرية) لأرمينيا، والمعطيات الآتية من مجمع الجغرافيا التاريخية الأرمنية – إن صح التعبير – تُذكر متفرقة وملصقة بأجزاء هذا المجمع كلاً على حدة، فنرى معطيات تنتمي إلى جبال طوروس دون الربط مع الأرض الأم، وكذلك الأمر معطيات مناطق بحيرة فان وسيفان وجبال زاغروس وأرتين ومجاري الفرات ودجلة وهاليس، وهضبة الأناضول وشواطئ بحر قزوين… كل هذه المناطق المنتمية إلى الأرض الأرمنية، تُذكر ضمن الشواهد الأثرية على أنها مناطق جغرافية غير معرّفة على المستوى الوطني المحلي… وهذا يقدم أرمينيا على صورة نموذج مصغر لشرق قديم يعاني نفس المعاناة، أي محاولات تقطيع الأوصال الجغرافية التاريخية والانفراد بمعطيات الأجزاء لتصويرها وكأنها طفرات إنسانية زمنية لا أساس لها ضمن تطور الفكر الجماعي الموحد والمترابط تاريخياً في الشرق القديم… وبالمقابل فإن محاولات التقطيع هذه تُرسم لها مخططات لإعادة التركيب التاريخي للمنطقة تتضمن التركيز على الناحية الكرونولوجية الجغرافية المجزّأة، والعبث بهوية المعطيات الأثرية ومضامينها…

أزتاك العربي: كباحث في تاريخ الشرق القديم، كيف تنظر لأرمينيا وتحالفاتها عبر الزمن، وخاصةً التحالفات والتطبيع الحالي؟

د. ابراهيم خلايلي: أرمينيا كانت حليفاً حضارياً للمنطقة التي كانت – ولا زالت – تتغذّى من أنهارها وذوبان ثلوجها، ورغم بعض أخبار الحروب القديمة، فإن أرمينيا واجهت مصير حلفائها في المنطقة، ولعل المخلفات المادية والكتابية في أرمينيا وجاراتها قد عكست روح هذا التحالف الحضاري… أما تحالفات هذا العصر فتختلف عن تحالفات العصور القديمة، وهي أمر لا بد منه ضمن سياسة أية دولة، على أن تلتزم هذه الدولة بثوابتها التاريخية والقانونية، وخاصةً حين تتضمن صيغة التحالف  مصطلح “التطبيع”.

ونعطي مثالاً من العلاقات الآشورية الأرمنية في زمن الامبراطوريتين الآشورية الأورارتية، حيث كانت هناك لغة عتاب بين الطرفين تنفي تماماً وجود حالة عداء قومي أو ضرورة لـِ”التطبيع”، ونلمس ذلك من رسالة أحد حكام أورارتو إلى الملك الآشوري حيث قال له بلغة الصداقة: “نحن أصدقاء فكيف تسلب مني قلاعي؟!… وبالمقابل تعرف أنني إذا اجتزت حدودك يوماً فسأعتذر…!”…

هذه اللغة القديمة بين الجوار تعتبر بمثابة العبرة التاريخية، ولكن هل ثمة من يَعتَبِر الآن أو يعتذر عن خرق حدود المنطق التاريخي كما ساد زمناً طويلاً لدى أبناء المنطقة؟…

كانون الثاني 2010

Share This