تركيا ..نيبال الشرق الأوسط ..كيف تسقط السماء على الأرض؟

نارام سرجون

لو سقطت السماء على الأرض هذه الأيام لرفعتها تنهدات وزفرات الساسة الأتراك في استانبول .. ولو سقطت النيازك من الفضاء على استانبول لانحرفت مساراتها من زفرات أردوغان هذه الأيام .. ولو مرت كل غيوم العالم في سماء أنقرة لبددتها وشتتتها كعصف مأكول حدة الجدال الدائر في أروقة المطابخ السياسية التركية وهي تتساءل عما يمكن أن يفعله أردوغان ..

في الشأن التركي لاحاجة لقراءة الكثير ولاحاجة للمراوغة .. ولاضرورة للمراجعة في مراجع السياسة الدولية ولا انتقاء المفردات الديبلوماسية كيلا يصاب أحد بالحرج .. ولاحاجة لاضاعة الوقت في تفحص لون عيون تركيا .. فأكثر مايحتاجه الناظر الى الشأن التركي هو عين فاحصة على الجغرافيا .. كيلا يصيبه الوهم والتوهم .. فتركيا هي نيبال الشرق الأوسط ..موقع محير سياسيا وجغرافيا ..فلا هي اسلامية ولاهي غربية ..لاهي آسيوية ولاهي أوروبية ..وكذلك سياستها غامضة منذ سقطت الخلافة ..لكن أكثر كلمة تناسب السياسة التركية حاليا هو السياسة الحائرة ..والحائرة جدا ..

الموقف التركي في الأزمة السورية لايحير أحدا كما يحير الأتراك أنفسهم في كل مستوياتهم .. كل شيء في تركيا حائر من قصر يلدز …الى قبر أتاتورك .. ومن شرق تركيا الى غربها ..من بواباتها الأوروبية الى سدودها في الشرق .. الأزمة السورية على غير توقع دوّخت حزب أردوغان الذي كان في بلاده وفي الشرق يتمايل كما واثق الخطوة يمشي ملكا وهو يبني الحديقة الاسلامية-الصهيونية .. لأن السؤال الذي يتمنى اردوغان ان يجيب عليه أحد هو: ماذا بعد يا أردوغان؟

كان اسقاط الطائرة التركية حادثا اصاب مستقبل اردوغان .. فمن يسمع الرجل منذ أشهر كان يعتقد أن حادثا كهذا سيجلب الكارثة على سورية .. ولكن الرجل لايريد الآن سوى اعتذار ..اعتذار لم يعطه له الاسرائيليون سابقا .. ولن يعطيه له السوريون لاحقا ..أطوار هذا الرجل غريبة .. يطلق العنتريات في شوارع الشرق الأوسط وعندما يصفعه احد لايطلب منه سوى اعتذار لاينال .. وكما ان مصير الطيارين التركيين غير معروف بعد فان مستقبل أردوغان على المدى الطويل صار مجهولا لما تسبب به تورطه من احراج لهيبة وسمعة تركيا في الشرق بل واستقرارها نفسه..

أردوغان وفريقه يشبهون من يجلس في مسابقة المليون على كرسي وقد وصل الى الأسئلة الصعبة ..والسؤال الآن هو: ماذا بعد يا أردوغان؟ لقد تجاوز الرجل وفريقه الأسئلة السهلة (التي يكسبها كل المتسابقين لتشجيعهم) عن ليبيا وتونس ومصر ..ولكنه في السؤال السوري تبين له أن سؤال المليون صعب للغاية وأنه لا يعرف الاجابة .. ويبدو طيف جائزة المليون بعيدا أكثر وأكثر .. وبالرغم من أن اردوغان وفريقه طلب مشورة صديق هو الناتو فان صديقه لم يقدر على اعطائه اجابة شافية .. ويفرك أردوغان جبهته ويسأل: ماذا بعد يااردوغان؟ يتأمل أردوغان وفريقه أربعة احتمالات عليه ان يختار احدها .. ولكن الجواب الخاطئ سيخرجه من المسابقة تماما خاسرا كل ماكسب:

اما أن يعود من حيث أتى .. ويعود به الزمن الى أيام كان المواليد في الشرق العربي يسميهم آباؤهم رجب وطيب واردوغان … الى أيام كان يدخل الشام كما أهل الشام .. ويلعب وسيطا مهابا في الشرق ..ولكن أردوغان الآن مكروه أكثر مما كان جمال باشا السفاح مكروها .. صار مكروها من الوطنيين السوريين لخيانته .. ومكروها من المعارضين الذين خذلهم ووعدهم بالقدوم على حصان الناتو الأبلق..ولم يفعل ولكن من يقدر على أن يعيد أردوغان الى الشرق غير السوريين؟؟ دخل اردوغان تاريخ تركيا نفسها من البوابة السورية لأن الأتراك عادوا الى الشرق عندما أغلقت دمشق متحف جمال باشا السفاح وأيامه الكئيبة ومعركة السلطان سليم في مرج دابق .. ومن أجل ثلاث دقائق في دافوس شطبت دمشق 400 سنة عثمانية كراهية .. ومن اجل سفرة تركية واحدة الى غزة هدمت دمشق كل جبال طوروس أمام الأتراك .. وصارت حلب ودمشق مرئية لمن يدخن الأركيلة في استانبول .. ولكن بعد الخيانة والطعنة الغادرة الآن جاءت مقامرة أردوغان وفريقه بسلسلة جبال الهيمالايا وقمة ايفريست الى حدود تركيا الجنوبية .. ولن ترحل أبدا..

أما أن يكمل المشوار مع المعارضة السورية التي صارت أكبر نحس ونذير شؤم يلتصق بحزب العدالة والتنمية منذ ولد في المعترك السياسي .. انها العلاقة التي جعلته مقامرا خاسرا.. لاشك ان أردوغان السياسي الطموح والذي يحب النجاح والمدائح صار يكره المعارضة السورية في قرارة نفسه وصار اسم سورية هو الشؤم بعينه والتي يراها في كوابيسه .. وكأن نظراته الى المعارضين السوريين تقول عندما يقابلهم: يانذر الشؤم ..من أين أتيتم؟؟ ولكن من يدري اين نهاية المشوار مع المعارضة السورية؟ وكيف ستكون؟ وكم الثمن؟ وهل هو طريق مأمون العواقب بعد اليوم..

ان لايعود من حيث اتى ولايكمل المشوار بل يبقى حيث هو دون اي حركة بحيث يترك الباب مواربا للمستقبل للعودة لزيارة الشام كبطل سابق في رفع الأثقال الشرقية اذا جاءت مرحلة الصفح والغفران .. أما اذا سقط النظام بالصدفة فانه سيدخل الشام عبر المعارضة السورية كشخص له افضال عليها دون أن يبقى في مرتبة الشهم (أبو اليتامى).. لكثرة خذلانه للمعارضة.

ان يعلن أنه سيغير قواعد الاشتباك .. ويدفع نحو الحرب مع سورية ..ولكن هذا بحد ذاته سيكون مقامرة المقامرات .. لأنه سيكون الثقب الاسود الذي سيمتص المنطقة الى حرب طاحنة لن تنتهي الا على جثة أردوغان السياسية..انه خيار انتحاري ..

لقد تحول الربيع العربي بالتدريج من ثورة يديرها بالوكالة امراء الخليج مع خلفاء بني عثمان لبناء الحديقة الاسلامية-الصهيونية الى مغامرة يخوضها الاسلاميون الصهاينة في استانبول.. ولكن ومع تقدم الزمن تحولت المغامرة الى مقامرة تركية بلا أمل ..

لافرق بين المغامر والمقامر الا أن المغامر يفعل فعل المغامرة معتمدا على شيء من الحظ وشيء من الموهبة والامكانات الشخصية والشجاعة الفردية والجسارة مثل مغامرات الرئيس صدام حسين .. أما المقامر فانه يعتمد على الحظ فقط دون اية مواهب او امكانات .. وهو يفسر الاحداث حسب سوء الطالع أو حسن الطالع ..ومثال المقامر هو الموقف التركي الذي صاغه المقامرون الثلاثة في السياسة والذين جروا حزب العدالة والتنمية ..انه مثلث أردوغان-غول-أوغلو ..

هذا الثلاثي المقامر في وضع لايحسد عليه على الاطلاق ..ولاأبالغ ان قلت ان كم القلق في مقر القيادة في استانبول من تطورات الاحداث السورية وتعقيداتها وتعثر المشروع الاسلامي السوري هو أكبر بكثير من كم القلق الذي تمر بعض أحياء حمص التي هرستها مطاحن المقاتلين ..وبالتأكيد فان قصر الشعب في سورية رغم كل الضغوط والعقوبات الأوروبية فان حجم الأخبار المريحة التي تدخله يوميا عن انجازات سياسية وداخلية واستخباراتية واتصالات تجعل الأعصاب باردة .. ولكن نفس هذه الأخبار تدخل الى رئاسة الوزراء التركية يوميا وتجعل منسوب التوتر وفرك الأصابع لايحتمل ..والزفير كالأعاصير.

قد يستطيع محلل أن يتنبأ أين ستكون سورية غدا وفق عدة احتمالات لكن لايعرف أحد أين صارت تركيا في عهد أردوغان وأين ستصير غدا ..

فقبل أردوغان كان هناك اتجاه وأمل وجهد بأن تركيا ذاهبة ان عاجلا أو آجلا الى الغرب … وأن ميولها وأحلامها الاوروبية ستحرك الجغرافيا .. وأن القطعة التركية تلتصق أكثر باوروبة وسيتلاشى مضيق البوسفور وتلتحم شفتاه .. فيما ستتشقق الأرض وتصنع فالقا ابديا على امتداد جبال طوروس التي تربطها كالمشيمة بأمها الآسيوية وشرقها الاسلامي تفصل تركيا عن الشرق الى الأبد ..أي أن التاريخ العثماني الذي يرتدي الشروال قد فصله أتاتورك بحد السيف عن وجدان المواطن التركي الذي حلق لحيته وحروف لغته .. وصار لون عيون تركيا أزرق .. ولون دستورها أنغلوساكسونيا ..

لكن أعلن اردوغان في بياناته الانتخابية ان لتركيا موقعا وضميرا اسلاميا وقلبا عثمانيا…وأوهم الشعب التركي أنه العملاق الذي سيرفع السوط الاسلامي في الشرق وتسمع فرقعته الدنيا .. حتى أوروبة سيذلها بالسوط الاسلامي .. وسيعود لون عيون تركيا بنيا .. الا أن الأوروبيين استعملوا هذه النزعة العلنية لابعاد حلم تركيا عن اوروبة .. وعادوا الى عناد معركة فيينا ضد التوجه التركي نحو دخول أوروبة .. واتسع مضيق البوسفور الى أن ساوى عرض البحر المتوسط ..

و عندما جاء الربيع العربي وفي خضم الازمة السورية ظهر أردوغان في موقف مغاير حاملا لضمير الناتو وممسكا بسوط الغرب الاسلامي .. وتبين ان السوط الاسلامي الذي رفعه اردوغان وجلد به الشرق من تونس الى سورية قد سقط من يده على أعتاب جسر الشغور السورية .. وكلما حاول استعادته لسعته سياط الفشل ..في حماة وفي بابا عمرو .. والآن سقط في البحر قبالة قرية أم الطيور السورية .. والفضيحة أن السوط لم يكن اسلاميا .. بل سوط الغرب والناتو على ظهور العرب والمسلمين ..وأن ما اعتقدناه لونا شرقيا على السوط كان لون الدم العربي في ليبيا وفي فلسطين وفي العراق ..سوط مغمس بالدم واللحم الممزق بيد اردوغان ..

فنهضت المخاوف في الشرق كله من تركيا ..وارتفعت جبال طوروس أكثر الى السماء .. ولذلك صار لمثقفون الأتراك يميلون للقول ان الورطة التركية في الأزمة السورية لم تعد سياسية بل هي ورطة هوية حقيقية وورطة مستقبل أمة بكاملها كشفتها مقامرة أردوغان في الجنوب على حدود سورية ..

انها مقامرة كشفت أن عملية خلط الماضي بالحاضر كانت ضحكا على الذقون .. انها الوصفة الرهيبة لتدهور الهوية التركية ولولوجها الأزمات .. لأن بعض المثقفين الأتراك الذين لحقوا مسرحيات أردوغان لم يعودوا يصدقون ان قيل لهم ان تركيا يمكن أن تقود الخلافة الاسلامية الحديثة لأنهم اكتشفوا أن تركيا الأردوغانية لا تزال عضوا فعالا في الناتو .. ويستغيث بالناتو .. بل وعضوا أطلسيا فعالا ضد البلدان الاسلامية من أفغانستان الى ليبيا .. والأطلسي هو أكثر أعداء الخلافات الاسلامية على الاطلاق منذ وجدت الخلافة الاسلامية على هذا الكوكب …

الدور التركي في الربيع العربي وفي أزمة سورية فتح العين التركية على حقيقة مؤلمة وهي أن هوية تركيا لاتزال مفقودة منذ ان أعدم السلطان عبد الحميد .. ومنذ أن خرجت من الشرق عبر آخر بوابات الشام .. فلا هي في الغرب ولاهي في الشرق ولم يعد لها مكان هنا أو هناك ..

ان مرحلة أردوغان تحصر تركيا أكثر وأكثر مثل حبة الحمص بين الشرق والغرب ..وصار البعض يشبهها بدولة نيبال الواقعة بين قوتين بشريتين عظيمتين هما الصين والهند .. فلا هي هندية ولاهي صينية وهي تهرس كلما تناطح وتدافع العملاقان الأصفر والأسمر.. اذا ماتكامل المحور السوري العراقي الايراني مع الروسي .. فستتحول تركيا الى نيبال الشرق الأوسط .. حبة حمّص مطحونة بين كتلتين كبيرتين متخاصمتين ..كتلة الشرق المقاوم ..وكتلة الغرب الأوروبي ..

لايوجد رجل وضع تركيا في التيه مثل أردوغان .. ولايعرف أحد كيف سينتهي المستقبل السياسي لهذا الرجل الذي انتقل من الديبلوماسي الذي يقطف النجاح تلو النجاح الى الديبلوماسي الذي تقطفه الأزمات تلو الأزمات ..وهو يتلفت حواليه ويتعثر بخياله في أزمات الشرق العربي هذه الأيام ..

السؤال الصعب جدا العاجل جدا الذي لايعرف أردوغان كيف يجيب عليه حتى الآن في اجتماعاته مه حلفائه وخصومه السياسيين في تركيا هو ماهي الفائدة التي سيجنيها من تورطه في حرب على السوريين؟ .. قد يقبل المواطن التركي بثرثراته وعنترياته لنصرة المآسي الانسانية في سورية كما يصورها الاسلاميون الصهاينة .. لكن التركي الذي يقبل بايواء المعارضة والمسلحين السوريين والدعم المعنوي للمعارضة السورية سيسأل عن مدى الحكمة من ارسال أولاده للموت في الحرب من اجل ثوار دوما وادلب ..وكذلك فان المثقفين الأتراك يعرفون أن دعم الناتو دعم خبيث ..فهو يعني أن تدخل تركيا الحرب ويبقى الناتو في الفضاء والسماء ويحارب من أعلى نقطة ..دون أن يخسر جنديا واحدا فيما الشباب التركي يلتحم بالشباب السوري على الأرض ويموت .. وفيما تنام مدن الغرب على أصوات الموسيقا الهادئة .. ستنام المدن التركية على صوت القصف وصفير صفارات الانذار وتكبيرات تشييع القتلى وانفجار الصواريخ ..وانفجار الأزمات ونهوض غضب الأقليات التركية والمذهبية.

فهل لايزال المجانين يصدقون أن تركيا ستؤخذ للحرب من أذنها .. لتحارب سورية؟؟..

صدقوني لو سقطت السماء على الأرض لرفعتها هموم أردوغان وحيرته وأحزانه هذه الأيام ..لأنه لو غامر بالحرب لأسقطنا السماء على الأرض في استانبول..وهذا مايوجع أردوغان ..

Share This