مراسل الأهرام يتحدث عن أرمينيا

عندما هبطت بنا الطائرة مطار “زافرنوتس” الدولى ومعناة” لقاء الملائكة” كانت الساعة تقترب من الخامسة فجرا، حيث بدت لنا العاصمة الأرمينية “يريفان” هادئة باسمة، وقد اعتدنا أن المدن فى هذه اللحظات الأولى من الصباح تميل إلى الهدوء والاستكانة.

ولكن عندما انتصف النهار، بدت لنا المدينة الجميلة -التى تحوى بين جانبيها شعبا من أصحاب الحضارت العريقة- تزداد تألقا وجمالا وزخما وحيوية، وبدا السكان فى حالة من الهمة والنشاط وكأن المدينة وسكانها يستعدون لعرس كبير، وقد كان ذلك حقيقة بالفعل، وقد بدا من وراء ذلك أن العاصمة تستعد لاحتفالات كبرى بمناسبة اختيارها عاصمة عالمية للكتاب للعام 2012 من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ” اليونسكو” .

فقد شهدت جميع الميادين حفلات فنية فى المساء، كان أبرزها حفل للفنان الإيطالى “أندريه بوتشيلي” حضره رئيس الجمهورية “سيرج سركيسيان”، أمام دار الأوبرا، التى أقامت بدورها في اليوم التالى عرضا متميزا لأوبرا “سبارتكوس” محرر العبيد، كما انتشرت المعارض والمكتبات فى الشوارع والمتاحف والميادين، وكان أبرزها المكتبات وحلقات النقاش فى مركز “كافيسجيان” للفنون نسبة لمؤسسه “جيرارد كافسيجيان” مؤسس “يريفان” الحديثة، الذى جمع كل مقتنياته الفنية الفريدة ووضعها فى هذا المركز ليكون مركزا للفنون ولنشر الثقافة الأرمينية.

وتعد أرمينيا الحديثة إحدى الدول الناهضة فى منطقة جنوب القوقاز، وكانت إحدى الجمهوريات السوفيتية وحصلت على استقلالها فى سبتمبر 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفييتى، وتقدر مساحتها بنحو 29743 كيلو مترا مربعا، ويصل عدد سكانها نحو 4 ملايين نسمة، بينما يوجد أضعافهم فى دول المهجر، وأرمينيا دولة حبيسة يحدها من الشمال والجنوب جورجيا وإيران ومن الشرق والغرب آذربيجان وإيران، وأرمينيا عضوا فى 40 منظمة دولية، ولها علاقات دبلوماسية مع معظم دول العالم، وتحظى بعلاقات إستراتيجية مع روسيا، لكن علاقاتها الرسمية متوقفة مع جارتيها المهمتين آذربيجان- منفذها إلى بحر قزوين، وتركيا منفذها إلى البحر الأسود، الأولى بسبب النزاع حول إقليم “ناكورنوكاراباخ”- الواقع فعليا تحت السيادة الأرمينية- حيث تسلم أرمينيا بأحقية سكانه وأغلبيتهم من الأرمن فى تقرير مصيرهم، بينما ترى آذربيجان أحقيتها فى الإقليم، أما العلاقات التركية الأرمينية، ففى حالة جمود نظرا لاختلاف رؤية كل منهم لقضية “المذابح الأرمينية”، وقد أوضح لنا السفير الأرمينى بالقاهرة “أرمين ملكونيان” أن الحكومات الأرمينية تسعى منذ عشرين عاما لتطبيع العلاقات مع تركيا وإقامة علاقات طبيعية من منظور عقلانى وموضوعى رغم وجود معارضة لذلك فى الداخل والخارج، وهذا ما أكده السيد” أرمين كيفوركيان” نائب رئيس الوزراء فى أرمينيا، وزير الحكم المحلى ورئيس الجانب الأرمينى فى اللجنة العليا المصرية الأرمينية المشتركة، فى لقائه الوفد المصرى الزائر ليريفان، حيث أعرب عن دهشته من عدم وجود حدود مفتوحة بين دولتى جوار فى العالم المتحضر، مؤكدا رغبة بلاده فى استئناف الحوار مع تركيا أملا فى التوصل لمصالحة تاريخية تحقق المصالح المشتركة للشعبين، لكنه أكد لنا أن تركيا تضع شروطا مسبقة وتربط تقدم الحوار مع الجانب الأرمينى بحدوث تقدم مع آذربيجان حول تسوية قضية “ناجورنو كاراباخ” وهذا غير مقبول على حد قوله.

ويتمتع العرب برصيد تاريخى إيجابي لدى الأرمن، حيث أشاد السيد “أريج هوفهنيسيان” رئيس إدارة الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأرمينية بدور كل من العراق وسوريا ولبنان ومصر، وكذلك الشريف حسين والى مكة بالترحيب بالأرمن الفارين من الإجراءات القسرية والترحيل الجماعى الذى مارسته حكومة تركيا الفتاه ضدهم بداية من 24 أبريل 1915، وهو الحدث المسجل فى العقل الجمعى الأرميني بـ”المذابح الأرمينية”، والذي أسفر عن آلاف الضحايا، الذين تعتبرهم تركيا الحديثة مجرد ضحايا حرب أهلية طالت الطرفين.

ومازال الكثير من الأرمن يقدرون للعرب هذه الاستضافة، بل هم ينتمون للدول التى نشأوا فيها ويعتبرونها وطنا ثانيا لهم، وقد ذكر الأستاذ “يارفنت مينسيان” أستاذ اللغة العربية بكلية الدراسات الشرقية بجامعة ياريفان” والذى نشأ وتربى فى أحضان العراق أنه عندما عاد لأرمينيا كتب رسالة لأصدقائه فى العراق قال فيها” إن التراب الذى التهمته وأنا طفل أحبو مازال طعمه فى فمى”.

وفى لقائنا برجال السلك الدبلوماسي فى أرمينيا، اتضح لنا أنهم يقدرون دور مصر الحيوى فى المنطقة، ويعولون عليها باعتبارها تقدم نموذجا رائدا للتسامح والاعتدال، حيث شدد السيد “هراتشيا بولاديان”، رئيس قسم الدول العربية بإدارة الشرق الاوسط بوزارة الخارجية، على أهمية الدور المصري فى إحداث التوازن الإستراتيجى بين القوى الإقليمية المتصارعة على الإقليم، مؤكدا أن غياب الدور المصري يؤدى إلى الفوضى في الإقليم والأقاليم المجاورة، معربا عن تقديره لموقف مصر المتوازن من قضايا جنوب القوقاز، والشيء اللافت للنظر أن معظم السياسيين في “يريفان” أعربوا عن تقديرهم لثورة 25 يناير في مصر، وتأييدهم لما يقرره الشعب المصرى معربين عن أملهم فى أن تتجاوز مصر هذه المرحلة فى اتجاه الديمقراطية والاستقرار والسلام.

وتتسم العلاقات المصرية الأرمينية بالتاريخية والوثيقة على حد وصف القنصل المصرى فى أرمينيا “طارق المليجى” – وهو دبلوماسي شاب خريج العلوم السياسية بالقاهرة – حيث أشار إلى وجود مابين 6 إلى 8 آلاف مصرى أرمينى الأصل، موضحا أن الصندوق المصرى للتعاون الفنى مع دول الكومنولث – وهو صندوق خاص تابع لوزارة الخارجية – يلعب دورا مهما في تدعيم العلاقات الثنائية بين مصر وأرمينيا على المستوى الشعبى والرسمي، حيث يقوم الصندوق بتقديم مساعدات فى شكل دورات تدريبية أو مساعدات فنية لأرمينيا التى تعد من أكثر الدولة استفادة من هذا الصندوق، حيث حصلت على 2200 منحة، وقد لمسنا في أثناء زيارتنا لجامعة يريفان الحكومية مدى التقدير والامتنان الذي تكنه أرمينيا لمصر على ما تقدمه من مساعدات.

ولذا يطالب الدكتور خيرى حامد أبوشاهين ممثل الصندوق المصري للتعاون مع دول الكومنولث والأستاذ بقسم اللغة العربية فى كلية الدراسات الشرقية بجامعة يريفان، ضرورة استمرار دور الصندوق فى دعم الثقافة واللغة العربية، فهى كما يقال القوة الناعمة لأى دولة، مؤكدا حرصه على عقد ندوات لطلبة الكلية بالوفود المصرية الزائرة للجامعة، حتى ينهل الطلاب من اللغة العربية على لسان أهلها، وقد قامت بعض الطالبات بإلقاء بعض قصائد الشعر بالعربية الفصحى لإيلياء أبو ماضى، ونزار قبانى، بلكنة أرمينية لطيفة حازت إعجاب الحضور.

كما علمت “الأهرام” أن هناك اتصالات تجرى بين وزارتى الثقافة في مصر وأرمينيا لإقامة فاعليات ثقافية مشتركة ستعقد بمناسبة مرور 20 عاما على العلاقات المصرية الأرمينية، وقد التقينا أثناء الزيارة بالفنان الأرمينى الشاب “فيرج قاسيونى”، هو ومخرج ورسام كاريكاتير وصاحب ومدير فكرة مهرجان أرمينيا للرسوم المحركة، ومهرجان الليالي العربية، وعلمنا أنه بصدد إخراج فيلم تسجيلي عن فنان الكاريكاتير “صاروخان” المصرى الأرمينى الأصل، وجار التنسيق مع وزارة الثقافة لتتبنى إنتاج هذا الفيلم.

 

رسالة يريفان: أبو بكر الدسوقي

جريدة الأهرام

Share This