العودة إلى السياق التاريخي.. أولاً

مدير التحرير بسام هاشم

 

لم تكن الحدود واضحة تماماً بين ارتكابات قادة “تركيا الطغاة” وجرائم نظام السلطنة في أواخر عهده، فقد كانت المجازر وعمليات الترحيل قد بدأت مع بدء أفول الدولة العثمانية التي حاولت الضرب على العصب المذهبي والطائفي، وسعت إلى استغلال “الرابطة الإسلامية” لتطبيق مشروع التطهير الديني الذي كان الأرمن المسيحيون والأقليات المسلمة أبرز ضحاياه، لتتوسع العملية فيما بعد، وبالتدريج، إلى مستوى الإبادة مع صعود نخبة الاتحاد والترقي وتولي جهازها السياسي في “حركة تركيا الفتاة” مقاليد الحكم في الأستانة، على أمل تحديث الإمبراطورية وإعادة بنائها هذه المرة على أساس سياسة التتريك الشاملة والقسرية.

ورغم أن شعوب السلطنة، والأرمن والعرب في المقدمة، شكـّلت للوهلة الأولى قوة رافعة وأساسية في المحاولة الأخيرة لإنقاذ السلطنة المتهالكة، وقدّمت من خلال نخبها كلّ الدعم في سبيل تحقيق هذا الهدف، وبما يحقق لها بعضاً من تطلعاتها التحررية، إلا أن ما تكشـّف لاحقاً هو أن العثمانيين والاتحاديين لم يكونا إلا وجهين لعملة واحدة في انتهاج أساليب الملاحقة والإعدامات السياسية والتضييق على الحريات وممارسة الشوفينية القومية.

الحدود الفضفاضة والمتداخلة، والتي تنتهي أخيراً إلى التملـّص من المسؤولية، وإرساء حالة من الإنكار التاريخي، نعثر عليها اليوم لدى حزب العدالة والتنمية التركي في نسخته الأردوغانية.

يمارس أردوغان التلاعب بالحقائق ذاته، وينتهج السياسة المزدوجة ذاتها في مشروعه لإعادة بناء عثمانية جديدة لنطلاقاً من رحم جمهورية علمانية سيطر عليها العسكريون طوال عقود.

إنه يريد قيادة طورانية فاشـيّة جديدة بالاتكاء على صناعة وقيادة إسلام أطلسي، يدّعي الحداثة ويبدي استعداداً لا حدود له في إطار طموحه للانصهار بالاتحاد الأوربي، ولا يتردد في سبيل ذلك في رعاية مجموعات أصولية تكفيرية تمارس القتل والذبح والحرق والتهجير، بات يرى فيها أداة مناسبة للزعامة الإقليمية وتوطئة لتعزيز دوره الشرق الأوسطي. يطمح أردوغان لاستعادة تجربة البوسنة والهرسك في البلقان بالأدوات ذاتها، وبالتحالف ذاته، ولكن هذه المرة في الشرق الأوسط وضد بلد عربي إسلامي.

هنا تختلط المطامح الشخصية بنموذج محدد من الإسلام التركي، وهنا تختلط الحدود مرة أخرى بين ما ينبغي أن يكون إسلاماً محرّراً وانعتاقياً، وبين إسلام يروج للعلاقة مع إسرائيل الحاخامات مثلاً، أو مع المسيحية الصهيونية والمنظرين لها في أوساط المحافظين الجدد الأمريكيين، أو مع كنيسة أوربية تبشيرية تعترف لتركيا بزعامة الحداثة الإسلامية مقابل إدماج التفكريين في العملية السياسية الشرق أوسطية في إطار عملية أوسع لصناعة عدو جديد هو القومية العربية.

تلك هي العناوين العامة لـ”ضفاف” في عددها الجديد، وللمصادفة ربما ياتي ملف الإبادة الأرمنية استكمالاً لملف جواسيس الشرق في العدد السابق، والذي رصد صراع القوى الاستعمارية على الشرق الأوسط بداية القرن العشرين. إنهما ملفان متكاملان تقودهما فكرة واحدة مفادها أن اللعبة التي بدأت قبل قرن لاتزال تتواصل بمفاعيلها، وأن فهم واستيعاب متغيرات وتحوّلات ومؤمرات اليوم يتطلبان العودة إلى السياق التاريخي أولاً.

 

كلمة العدد – ضفاف – شهرية تعنى بترجمة المعرفة المعاصرة – (العدد 1-2/ 2012) – دار البعث

Share This