تركيا .. طموح يحاصره التّاريخ !

بقلم: صلاح حميدة

أنشأ الأتراك العثمانيون إمبراطوريّةً عالميّةً أرّقت كل القوى الكبرى في العالم، ولولا تآمر القوى العظمى عليها وعوامل الضّعف الذّاتي لاستمرت في الوجود حتّى اليوم، ولكنّها إرادة الله وصيرورة التّاريخ. هذا التّاريخ والتّوسّع الكبير لهذه الدّولة العظيمة جلب لها الكثير من المحبّين والكثير من الكارهين، فإمبراطوريّة بهذا الحجم وبهذه الفسيفساء الدّينيّة والعرقيّة والطّائفيّة وهذا الاتساع الجغرافي لا يمكن لها أن تجتاز كل تلك السّنوات بلا رواسب وذكريات لدى تلك اللوحة البشريّة المتنوّعة.

تمّ تحجيم الأتراك بعد هزيمتهم في الحرب العالميّة الأولى وتقسيم دولتهم بين أعدائهم، وحوصرت تركيا الحديثة بحدودها الحاليّة وسط محاولات لتغريبها عن تاريخها وجذورها، واستمرّ الحال بالأتراك بأن أضناهم التّعب بالوقوف على أعتاب الأوروبّيين، ولم يكن بمقدورهم ولا برغبة بعضهم العودة إلى جذورهم القديمة وممارسة دورهم الإمبراطوري الرّسالي القديم، فأصبحت الحالة التّركية عبارة عن هجين غريب، ودولة ينخرها الفساد والصّراع السّياسي والمافيا والمنظّمات السّرّيّة والانقلابات العسكريّة، دولة مشلولة لا قيمة لها في الإقليم والعالم، تقوم بأدوار توكل لها ولا تستطيع أن تمارس دوراً يتناسب مع تاريخها وجغرافيّتها وديموغرافيّتها، دولة تتربّص بها أحقاد شعوب محيطة بها من تحت رماد التّاريخ.
بوصول حزب العدالة والتّنميّة للسّلطة قامت سياسات تركيا على (تصفير المشاكل مع المحيط) وقامت خارجيّتها بعمل مضنٍ في سبيل تحقيق هذه الهدف، وتمّ لها ما أرادت بنسب عالية جدّاً، واخترقت أغلب الأسوار و عالجت الكثير من الأحقاد، فقامت بأدوار جيّدة فيما يخصّ بعض القضايا العربيّة، وتقاربت مع الكثير من الأنظمة ومع الشّعوب، وتبنّت خطاباً إعلاميّاً متعاطفاً ومؤيّداً للمظلوميّة الفلسطينيّة ممّا حطّم رواسب تاريخيّة عن المظالم الّتي لحقت بالعرب في نهايات الحقبة العثمانيّة من قِبَل ( الطّورانيين) الأتراك، ولكن الأزمة السّوريّة الأخيرة حالت بين تركيا وبين الجسر الجغرافي السّوري للعالم العربي، وأصبح البحر سبيلها الوحيد للتّواصل تجاريّاً مع العرب، وعاد الخطاب السّوري وبعض القومي القديم عن الأتراك ومطامعهم في أرض العرب وطموحهم لإقامة إمبراطوريّة جديدة تتوسّع على حساب العرب.

وبالنّسبة لقضيّة الأرمن سعى الأتراك لإنهاء المشكلة معهم بوسائل كثيرة، وكادت تتحقّق المصالحة بشكل نهائي بين الجانبين، ولكن ذكرت مصادر عديدة أنّ الأرمن خارج أرمينيا أفشلوا هذا الاتفاق وعادت الأمور إلى نقطة الصّفر في هذا الملف، وكادت تنفجر الأمور مجدّداً عندما هدّد أردوغان بتهجير مئة ألف مهاجر أرمني غير شرعي يعملون في تركيا بلا أذونات قانونيّة، ولكنّه تراجع عن ذلك بعد انتقادات شديدة له، وبقيت العلاقة بين أرمينيا وتركيا أسيرة التّاريخ، وأسيرة المتاجرة بها من أعداء وخصوم تركيا في العالم، مع أنّ من مصلحة الأتراك والأرمن أن تحلّ هذه المسألة بشكل نهائي، ولكن عقد التّاريخ هزمت براغماتيّة السّياسيين ومصلحة الشّعوب.

فيما يخصّ العلاقة مع البلغار واليونانيين والقبارصة، فقد بادر الأتراك لتصفية تراكمات التّاريخ الإمبراطوري القديم، وبدأ عمل مشترك قائم على المصالح المشتركة بينهم، وقاموا بدور جيّد فيما يخصّ توحيد قبرص، و من خلال استعدادهم لإعانة اليونان في أزمتها الاقتصاديّة الحالية، وتوقيع مشاريع مشتركة مع البلغار، ولكن كل تلك المحاولات اصطدمت في النّهاية بتراكمات الأحقاد التّاريخيّة وأعادت العلاقات بين تلك الأطراف إلى مربّعها الأوّل، مع بعض التّعاون في قضايا اقتصاديّة محدودة، ودخلت تلك الأطراف في مشاريع إسرائيليّة لمناكفة الأتراك وتعطيل نفوذهم وتوَسُّعِهِم إقليميّاً.

أمّا العلاقة مع أكراد تركيا فقد حقّقت إنجازات كبيرة في عهد أردوجان، و امتدّ تحسين العلاقة إلى أكراد العراق وسوريا، وأصبحت تركيا حليفهم ضدّ الأنظمة الإستبداديّة في بغداد ودمشق، ولكن حزب العمّال الكردستاني لا يزال يفضّل ممارسة العنف المسلّح ضدّ الدّولة بالرغم من كل مبادراتها لحل المشكلة الكرديّة في إطار الدّولة الواحدة، وظل الحزب أسير تراكمات تاريخية لم يكن العثمانيون الجدد والقدامى جزءاً منها.

بالنّسبة للعلاقة مع إيران فقد كانت محكومةً بمعاهدة تجميد عداء بين دولتين تختلفان مذهبياً، وفضّل العثمانيّون القدماء والجدد عدم خوض صراع طائفي مع هذه الدّولة، وتحسّنت العلاقة بشكل كبير بين تركيا وإيران في السّنوات الأخيرة، ولكن الطّموحات الإمبراطوريّة لإيران اصطدمت بالطّموحات التّركيّة النّاعمة في العراق وسوريا تحديداً، وباتت العلاقة متوتّرة بينهما بسبب مفصليّة سوريا في استراتيجيّتهما، فسوريا بالنّسبة لإيران حلقة جوهريّة في مشروعها، وهي لتركيا تحمل نفس الصّفة، إن لم يكن أكثر من ذلك، والمعركة في سوريا بالنّسبة لهما معركة حياة أو موت، بالإضافة إلى توتّر علاقاتهما على خلفيّة رادار الدّرع الصّاروخيّة الّذي نصب في تركيا مؤخّراً.

في العلاقة مع روسيا، كانت الإمبراطويّتان الرّوسيّة والعثمانيّة قد خاضتا حروباً طاحنة في شرق أوروبّا، وانتهى الصّراع بهزيمة تركيا وتقوقعها في حدودها الحاليّة بعد الحرب العالميّة الأولى، وبقيت العلاقات متوتّرة خلال الحرب الباردة لانضمام تركيا لحلف الأطلسي، وفي عهد العدالة والتّنمية تحسّنت العلاقات لدرجة كبيرة جدّاً بين الطّرفين، ووقّعا على اتفاقيّات كثيرة للتّعاون بينهما، ولكن تشابه رغبات الدّولتين لاستعادة مجدهما الإمبراطوري القديم، يصطدم في كون تركيا جزء من الدّرع الصّاروخي لحلف الأطلسي، والأخطر يكمن في اصطدام هذا الطّموح في الحلقة السّوريّة، وقد يكون إسقاط الطّائرة التّركيّة رسالة روسيّة للأتراك بأنّ سوريا منطقة نفوذ روسيّة محظور على الأتراك محاولة اقتحامها، فسوريا تمثل للطّرفين منطقة نفوذ (حياة أو موت) فهي معبر الطّرفين الوحيد في المنطقة، ويعتمد هذا على انتصار الثّورة أو هزيمتها فيها، ولذلك نرى أنّ الطّرفين وضعا كافّة بيضهما في السّلّة السّوريّة، وسيترتّب على ذلك مصير نفوذهما في المنطقة مستقبلاً، وعاد التّاريخ بالطّرفين إلى حالة من الصّراع النّاعم وعبر أطراف أخرى هذه المرَّة.

يشكّل العامل الاقتصادي جزءاً رئيسيّا في معادلة توسيع النّفوذ التّركيّة، ولكن تركيا الجديدة لا تكتفي بالاقتصاد وتصفير المشاكل، فقد أيقن الأتراك أنّ لعب دور إمبراطوري في المنطقة لا يمكن أن يتمّ عبر سياسة تصفير المشاكل فقط، مع أنّ تلك السّياسة فتحت الكثير من الأبواب في البداية، ولكن انطلاق قطار الرّبيع العربي وضع الأتراك على المِحَك، وأصبحوا أمام خيارات صعبة، واختاروا في النّهاية الجانب المعادي للنّظام، لأنّهم أيقنوا أنّ تصفير المشاكل مع الشّعوب هو السّبيل لبناء علاقات إستراتيجيّة على المدى البعيد، بل هم على يقين وإيمان كامل بانّ سوريا الشّعب هي مدخلهم الوحيد نحو الانطلاق للعالم، لأنّ الأطراف الأخرى المحيطة بتركيا مستعصية والإشكالات معها لا يبدو أنّها ستتعاطى بإيجابيّة مع طموحات تركيا الجديدة، كما أنّ المياه لا تكفي للتّوسّع الإمبراطوري بثوبه الجديد، فدولة تحاصرها جغرافيا التّاريخ لا يمكن أن تتقدّم قيد أنملة في العالم بلا قبول شعبي من محيطها، ويعتقد الأتراك أنّ هذا القبول يتحقّق الآن من خلال الدّعم الكبير لنخب المعارضة المدنيّة والعسكريّة لتغيير النّظام الحاكم في سوريا، ويعتقدون أنّ هذا الموقف سيمحو ما علق في الذّاكرة التّاريخيّة السّوريّة من شوائب.

 

صوت الوطن

Share This