السينما الأرمنية على درب التبانة.. كتاب يوثق لروائع أفلام الحقبة السوفييتية

يعيدنا السينمائي الأرمني روبرت ماتوسيان في كتابه الشيق “السينما الأرمنية على درب التبانة” الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة إلى ذكريات متفرقة من خلال الإطلالة على سيرة حياة أمضاها رئيساً لتحرير مجلة “فيلم” التي أسسها وترأس تحريرها بين عامي 1969-1991 متنقلاً بين النقد السينمائي كتابة وصحافة وبين إخراج وكتابة أفلام وثائقية حيث يعبر بنا الكاتب إلى ما يشبه شهادة عصر على المرحلة الذهبية لصعود نجوم السينما الأرمنية عبر حوارات وذكريات ولقاءات جمعته بصناع هذه السينما وعمالقتها في الفترة السوفييتية.

ويأخذنا الكتاب الذي نقله إلى العربية المخرج السوري طارق مصطفى إلى زمن سينمائي بحت فمن أحداث فيلم “لون الرمان“ لعملاق السينما الأرمنية السوفييتية سيرجي باراجانوف ينطلق بنا ماتوسيان إلى كواليس رائعة عن الشاعر الأرمني الغنائي “سايات نوفا” متنقلاً من قصة منع الفيلم واعتقال بارجانوف شخصيا في أوكرانيا عام 1973 وتشكيل لجنة للدفاع عنه من قبل كل من فيديريكو فيلليني وأنطونيوني وبيرغمان وغودار لينتهي بدور كبير للكاتب الفرنسي “لوي أراغون” الذي كان وقتها مبعوثاً للحزب الشيوعي الفرنسي حيث هدد أراغون وقتها بريجينف السكرتير الرئيسي للحزب الشيوعي السوفييتي بانسحاب حزبه من الانتخابات إذا لم يتم إطلاق سراح باراجانوف ليتم إطلاق سراح صاحب “سايات نوفا” في 31 كانون الأول من عام 1978.

أحداث شيقة يسردها ماتوسيان متابعاً سيرة العديد من أقانيم السينما الأرمنية ليتحدث عن عشرة أيام جمعته بالمخرج الفرنسي الأرمني “آنري فيرنوي” فيما يفرد فصولاً كاملة للحديث عن كل من فنان الشعب الممثل غورغين جانبيكيان والممثل خورين آبراهاميان ليصل بنا الموءلف إلى لقاءاته مع الكاتب الأرمني الكبير وليم سارويان سارداً للقارئ حكاية تعرفه على صاحب “قلبي في الجبال” القصة التي ستصبح فيلماً بالعنوان ذاته من إخراج غيفورغيان إلا أن سارويان وبعد مشاهدته لقصته على الشاشة الكبيرة سيصاب بخيبة أمل من رداءة الفيلم الذي قال عنه فور مشاهدته له.. لقد كتبت كوميديا حولتموها إلى دراما جادة.. أنا كتبت عن بلد يعيش فيه مجموعة من البسطاء يمتلكون تجاهها وفاء وعرفاناً بالجميل طفولي وغريزي.

ولا يهدف الكتاب الذي صدر مؤخرا عن مجموعة منشورات الفن السابع للمؤسسة العامة للسينما للقيام بتحليل سينمائي نظري أو علمي أو حتى عملي بل هو بمثابة شاهد عصر على القفزات النوعية التي عاشتها السينما الأرمنية عبر لقاءات وحوارات أجراها ماتوسيان خلال عمله في الصحافة السينمائية حيث قال المؤلف معبراً عن ذلك منذ صفحات الكتاب الأولى.. إن الهدف من كل ما يرد من آراء وتقييمات في هذا الكتاب هو محاولة لروءية السينما بعيون السينمائيين أنفسهم.

ويضمن ماتوسيان كتابه قصصاً حققها من روح الطبيعة الأرمنية على نحو ” الصندوق.. العين.. حكايتي.. الحصان.. سارقو التفاح.. النذر” لينتهي بسيناريو لفيلم “على درب التبانة.. موسكو 2001″ الحكاية السينمائية التي يدمج فيها الكاتب بين قصة الطوفان وبين رحلة في طائرة تنقل الشباب الأرمني من عاصمة بلاده ريفان إلى موسكو مع مطلع الالفية الثالثة للبحث عن فرص للحياة والعمل.. دامجاً بين زمنين الأول تصطدم فيه سفينة نوح بجبل آرارات العظيم والثاني تتصاعد فيه أنغام آلة الدودوك ناسجةً ما يشبه طقساً وداعياً جماعياً لحضارة بأكملها وقعت في براثن اقتصاد السوق ولعنة الدولار الأمريكي.

وعبر فسحة موجودة على متن طائرة متجهة إلى العاصمة الروسية يضع المؤلف لوحة “نوح ينزل من جبل آرارات” للفنان الأرمني هوفانيس آيفازوفسكي فيما يبدو جبل آرارات من نوافذ الطائرة والثلج يعود إلى قمته العصية قد ابيض من العجز أمام الفقد منذ خمسة آلاف سنة إذ إن الكاتب يصور للقارئ بداية القرن الواحد والعشرين فها هم الأرمن يغادرون جبلهم الأشم عائلات وأطفال بحثاً عن خبزهم ولقمة عيشهم ولا أحد يعرف ما المقابل الذي ستقدمه الحياة لهم.

مشهدية عالية ينسجها مؤلف الكتاب قائلاً.. “أية قوة تلك يملكها الدولار حتى سيطر على العالم برمته؟ نحن هدمنا عالمنا بأيدينا.. وقلنا للآخرين.. تعالوا احكمونا وسيطروا علينا فأتوا وفعلوا ذلك دون أن يخسروا طلقةً واحدة”.

كما يضمن ماتوسيان كتابه بخاتمة مؤثرة تحت عنوان.. “ولم يتحمل قلب الجندي “حيث يسرد عبرها ذكريات أبيه المقاتل في صفوف الجيش السوفييتي ضد القوات النازية تاركاً الخيال عن “سبيتاك” مسقط رأسه والمدينة التي ستشهد زلزالاً مدمراً عام 1988 دون أن تمحي سنوات طويلة من ذلك الحب للأرض ومراتع الصبا فيقول المؤلف.. “قلب الجندي الذي خاض الحرب الكبرى ونجا من الزلزال المرعب لم يعد يحتمل مغازلة سنوات التخمير المعقد والمبهم الذي واجهته بعد ذلك نعم لم يتحمل قلب الجندي”.

سامر اسماعيل

SANA

Share This