في الذكرى الثالثة للرحيل: آرام ديكران، فنان توحدت في تفاصيله القومية، وتكسرت الحواجز

بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل الفنان الأرمني-الكردي آرام تيگران 8/8/2009

وتطلع الأسماء، كما –كمّآت القرية- الواحد تلو الآخر، قارات جديدة نكتشفها، لتتكون القائمة لدى كلّ منّا، كي نعرف في ما بعد بعضاً عن حيوات هؤلاء الفنانين الأعلام، ذوي القامات العالية، الظليلة ،وسواهم، كل على حده، ولنعرف أن الفنان خجادوريان فنّان عالمي، وهو من هؤلاء الذين أوصلوا الأغنية الكردية إلى مصافّ العالمية، إلى جانب لغات أخرى، عرف بها، ولنعلم أن سميّه: آرام ديكران ابن قامشلي، وأنّه أحبّ الغناء بالكردية، وأنّ هذا ليس محض مصادفة، بل نتيجة علاقة عريقة بين هذين الشعبين اللذين عاشا إلى جوار بعضهما بعضاً، في أمان، إلى أن خطط الأعداء للإيقاع بينهما، ضمن لعبة قذرة على أعتاب العام1915، راح ضحيتها خيرة أهلنا الأرمن- على أيدي الضيوف الثّقلاء- والذين كانت لغتهم الكردية، هي الأولى أو الثانية ، قبل أن تبدأ ألاعيب ابتلاع اللّغات والأمكنة والشعوب، ويكون ضحية ذلك :الكرد والأرمن، على حد سواء، في مخطط لمحو وجودهم أجمعين، وإن كان الكردي فارس الشرق، فتلك- لعمري- شهادة ” أبو فيان” وهو الأرمني تحدراً ورؤى.

ولكم كان آرام ديكران، سفير لحظاتنا الجميلة، ثالثنا، إزاء رسم الحبيبة في المخيّلة، حيثما خرج من إطار الصندوق الخشبي، يشبه صورته التي سنحصل عليها، تالياً، ينطق باسم مكنونات الخافق، نحمل صوته الواثق الهادر، بقايا وجد في الدم والرّوح، يجنّح الأحلام، وهو يرسم بصوته العذب عوالم رائعة، إلى جانب قلة من فنانين جد مائزين، ممن يغنّون بالكردية، كي تحفر أسماؤهم في صفحات الخلود.

وآرام، أرمنيّ الأرومة، كردي الرّوح، والمنى، والفنّ، والهوى، لا يزال يبني جسور التواصل بين شعبيه: الأرمن والكرد على حدّ سواء ، ولكم كنت أودّ حذف ما بينهما من واو عاطفة، ليكون لذلك أكبر دلالة على إخاء هذين الشعبين، اللذين ذررتهما – في آن واحد- مصالح الأمم، وما زالا يلعقان آلام خريطتهما المضيّعة، وهو ما يجب أن يحدو بالكرد والأرمن – على حد سواء- لأن يستفيدا معاً من رسالة ديكران، هذا الإرث المشترك العظيم، وهي رسالة الآباء والجدود، من الأرمن والكرد، خارج سدود المصالح، وفنون التذويب، الممنهجة، على أيدي مهرة الفرقة، شذّاذ الشرق العظيم، بحق كليهما، وهنا أشير إلى “الشخوص”السدنة، الأفّاكين، من تدنست أياديهم بالدم ، وأرواحهم بقيء الضغينة، وليس “الشعوب” ، لأن تخيّر ديكران للغناء بلغة روحه، اللّغة الكردية ، الأمّ، إلى جانب لغة قومه، الأم – لغة فرسان الجبال العالية الذين دوخوا الأرض ، وهنا نحن أمام أمّ بلغتين-ما يعني الكثير الذي يجب أن نتوقّف عنده، كي تظلّ رسالة فناننا الأرمني الكردي ديكران، مستمرةً، مادامت حنجرته الذهبيّة تصدح، ومادام صوته الملائكي يترنّم في الآفاق، وألحانه الفردوسية تهدر، على مدى الدهور، شاهداً على أواصر، ووشائج، العلاقات التاريخية المتينة بين ذين الشعبين، الطيبين، العريقين، في شرقهما الجريح، رغم كل مؤامرات الأشارى، ومزاعم سدنة ببّغاوات الفِرقة- أيّاً كانوا- مادامت مزاعمهم مردودة، ساقطة.
آرام ديكران، مازال صوتك يتردّد في مسمعي، وما زلت تعيدني طفلاً حالماً، في أيام مواسم الحصاد وأصوات أطيار القطا ودورة الاخضرار البّهي، في بيادرقريتي -تل أفندي- التي التقيت فيها بصوتك، لأول مرة -كي أشحن به الروح، أواجه بهذا الصوت المدهش الأخّاذ انكسارات الّلحظة، المقيتة، مادمت مديناً لك ولآخرين، برسم ملامح الرّوح، في تكوينها الرئيس ، وحبّ من حولي، والألم على أطلال جاري الأرمني الذي استجرته عواصم الآخرين، كجزء من مؤامرة عظمى، متقنة، محكمة، بل حرب كونية غير مسمّاة، ولا مجدولة، تماماً، كما أتألم وأنا أمام غرفة نأيت عنها مكرهاً، ولكم كانت العنوان الأجمل لملاعب طفولتي، وحديقة حلمي الأول، وموطن تهجئة أبجدية الحياة العظمى، والفائحة برائحة أبوي، وكتبي الأولى، ومحابري التي لا تزال مندلقةً، هناك.

ولعلي، وأنا أعلن الحداد الرّوحي على فناننا الكبير – آرام- أناشد كل ذوي الشأن، ليسعوا للعمل الجادّ على دفنه، في مهد حبّه الأول، وأغانيه الأولى، لتحضنه تراب قامشلوكته الجميلة- فردوس الله المؤجّل على الأرض- التي طالما تبكي أبناءها الغائبين الذين توزعتهم كلّ خرائط العالم، على حدّ سواء.

إني باسم ملايين محبي هذا الفنان العملاق، لأرجو ذلك فلا تراب يعرف قدر فناننا إلا تراب عنوانه الأول، فهل من سيسمع من المعنيين بالأمر، وهل من معني حقاً؟ كأن آرام يقول بوفاته للأمم الثلاث: اتحدوا، واعملوا معاً بتفان وصدق وإخلاص،حتى تعيدوا أمجاد الماضي العتيد، فأشقاؤكم الكورد محرومون من كل شيء، حتى من نعمة الاستقلال، فمن واجبكم أيها الأرمن واليونان الوقوف إلى جانبهم، في جميع المحافل الدولية .
لقد أخذ الموسيقى والغناء الكوردي الأصيل بكافة ألوانه، و أشكاله وغاياته، مساحة واسعة من فن آرام ديكران أكثر من غيره، واستعمل الرمز كثيراً، لأجل أن يستيقظ الكثير من السبات العميق ويذهب الغشاوة عن العيون، ويتخلص الكثير من الأفراد مماغرسه الجهلاء والحاقدون في العقول.

لقد غنّى آرام ديكران للكورد وكوردستان، من قلب ينبع منه الحب وأدخل البهجة والحبور في العقول والقلوب، وسرت كلماته وموسيقاه في النفس، كما تسري الروح في الجسد.

حقاً، صدق من قال: إن الموسيقى غذاء الروح، فلقد غنى آرام وغيره من الفنانين الكورد، من أمثال شفان برور، فاستفاق الكثير من السبات، وانطلق الأباة من الشجعان إلى ذرى جبال كوردستان الشامخة، يدكون صروح الغدر في أنقرة وطهران وبغداد، ويروون كوردستان بدمائهم الذكية، لصنع الاستقلال.

وقف قلب الراحل العظيم، ورحل عن دنيانا بجسده، لكنه بقي بروحه في ضمائرنا، يعيش و إلى الأبد بيننا، بموسيقاه، وكلماته العذبة الذي ستترنح في آذاننا، فطالما أحببنا “جمبشه” وصوته العذب…

آرام ديكران، ابن قامشلو الذي حمل سلاحه الجمبش، فبعث الحماس والدفء في النفوس، وعمل بها لتحرير أرمينيا، وكوردستان، والعالم، من الظلم والقهر والاستبداد، والاستعباد. غنى لقامشلو، المدينة الصغيرة الوادعة على نهر جغجغ الذي أسس قيها أول فرقة موسيقية أرمنية كوردية، وخرج عن الموسيقى الكلاسيكية، وجدد فيها وأبدع .
ثم هاجر قامشلو الصغيرة إلى يريفان الفردوس المفقود، ولكن أحلامه تلاشت، حيث الاحتلال السوفياتي الأحمر، فهاجر سراً إلى أوروبا الحرة، يحمل آلة الجمبش، ويغني للأرمن وأرمينيا وللكورد وكوردستان ولقامشلو التي كبرت رويداً رويداً بأبنائها إلى أن غدت من المدن الكبرى الصامدة.

لقد أعاد آرام بموسيقاه وغنائه جسور المحبة بين الأرمن والكورد ،فغنى لهايستان وآمد وآرارات وقنديل وأرمينيا وكوردستان، غنى للأنصار، والبشمركة على قمم الجبال، ودافع بكل حماس عن الكورد وكوردستان، غنى للمقاومة، وقادتها، وبخاصة للقائد عبدالله أوجلان في أسره في اميرلي ،غنى للحب والجمال والأرض والجبال والمياه والخضرة، والصداقة بين الشعوب، فكان بحق سفير الفن الكوردي الأصيل إلى العالم الحر، ينقل لهم معاناة الكورد اليومية، يغرس المحبة والألفة بين الأمم بأنامله الرقيقة، وهو يعزف على جمبشه البسيط ..
أتذكر أغانيه الجميلة التي طالما رددتها وأنا طفل، ورددتها في شبابي: أي دل أي دل دلولو – شف جوما إيدي خوتي لو – برجم برجم دي جوما – ألخ، وطالما غنيتها لأولادي وأحفادي هذا الفنان الكوردي الأصيل آرام ديكران، رحل عنا كما رحل غيره من الفنانين الكورد، من أمثال العمالقة آرام خجا دوريان ومحمد شيخو، وتحسين طه، وغيرهم ممن أطربوا النفوس وألهبوا العقول الحماس .

هؤلاء رحلوا بأجسادهم، لكنهم بقوا بيننا في وجداننا بموسيقاهم وألحانهم الرقيقة، والعذبة. اليوم عرس في السماء حيث تستقبل روح فناننا الأرمني الكوردي آرام ديكران من قبل الملائكة التي تحف بروحه، فتتحول جنازته إلى عرس، حينما يعبر روحه السموات، وتغني الملائكة الألحان الشدية باللغتين الأرمنية والكوردية، وتسمع في السموات العلى الملائكة، كي تستقبله قائلة: في السموات المسرة وعلى الأرض السلام.

دشن الفنان المطرب الموسيقار آرام ديكران مدرسة جديدة في الغناء الكردي جمعت بين الأصالة والحداثة ودمجت الموسيقى واللحن والغزل والجمال بالالتزام بقضايا الشعب والوطن وهو من عبر خير تعبير عبر صوته وآلته الموسيقية عن معاناة الأرمن والكرد ووحدة نضالهما ومصيرهما لم يتوقف أبدا عن ابداعه وعطائه رغم كل المعوقات واجتاز كل الحواجز القومية والدينية ليغني بالنهاية للانسان المعذب المحروم من الحرية وحق الحياة كرديا كان أم أرمنيا شركسيا أم شيشانيا ومن باب الوفاء للرجل فان كل فناني الغناء والطرب من الكرد الذين جاؤوا من بعده مدينون لمدرسته الحديثة وعليهم الحفاظ عليها وتطويرها واغنائها .
لقد وضع اللبنة الأولى في صرح هذه المدرسة الأصيلة – الحديثة والده عندما كان في القامشلي وأصبح التلميذ النجيب المبدع من بعده بل حمل أولاده ذلك الارث اللذين شاركوه في نشاطاته الفنية، واستمر العطاء بعد انتقاله الى – هايستان – أرض الآباء والأجداد في أرمينيا حيث فتحت أمامه آفاقا أكثر تلاؤما ليغرد كطائر حر عاشق للحياة الجديدة في راديو يريفان وليواصل ابداعه الفني في بيئته القومية وبعد ذلك في الدول الأوروبية دون أن يتخلى لحظة عن الغناء بالكردية حيث أتقنها اسوة بمواطنه الراحل المطرب العظيم – كربيت خاجو – الذي له فضل كبير على الغناء الكردي حيث قام بدور أساسي في دعم الأديب الراحل – جاسمي جليل – في افتتاح قسم كردي للمرة الأولى في راديو يريفان في كنف نظام ثورة أكتوبر وقدم نفسه كفنان كردي بعد تغيير اللكنة الأرمنية في اسمه عند تقديم الطلب للجهات الرسمية حيث لم يكن حينذاك في أرمينيا أي فنان كردي وهي شهادة موثقة سمعتها من الراحل العم – جاسم – لدى اللقاء به بمنزله بحضور أبنائه وبناته وآخرين .

آرام ديكران مدرسة فنية متجددة تركت بصماتها في الفن الكردي من موسيقى وغناء ولحن وخلفت أثرا لايمكن امحاؤه في كل بيت كردي اغنياته على كل شفة ولسان واسمه محفور في الوجدان الكردي في كل مكان وفي الوقت ذاته ظاهرة سياسية انبثقت من أعماق التاريخ لتزاوج الحاضر وتؤسس للمستقبل مستقبل شعوبنا في التحرر والتعايش السلمي والتآلف والعيش المشترك والتمازج الثقافي لقد كتب على هذا العبقري أن يحمل هموم المعذبين ويجسد مأساة الملايين من الأرمن والكرد فقد كانت طفولته ثمرة هروب عائلته المشردة من بطش الطغاة لينتهي بها المآل في القامشلي ليعود قي شبابه الى الوطن الأم ثم يغادره الى ديار الغربة الأوروبية وينتهي به المطاف في اليونان حيث توقف قلبه الكبير الحزين .

آرام ديكران يُعدُّ أحدَ أساطين الغناءِ الكردي والآرمني بحقّ، استطاع أن يدخل قلوب الملايين من عشاق الفنّ الكردي والأرمني، وتركتْ أغانيه بصماتِها الرُّوحية لدى النّاس، فتراهم يدندنون بألحانه وكلمات غنائه. حتى في المرحلة الجامعية كنّا نجتمع في مجالسنا الطلابية، نطالبُ زميلنا عبدالرحمن قاسم الذي كان يعزف على آلة (جمبش) على أن يعزف على غربتِه الأخيرة، آرام، آرام، آرام، بمعنى ابدأ العزف بأغاني آرام، ورغم تواضع عزفه كنّا ننتشي روحياً مع الموسيقى الآرامية. لحظاتٌ ممتعةٌ كنّا نسترقها من الحياة عند استماعنا إلى أغانيه من خلال أشرطة الكاسيت.

غنّى آرام لشعراء كثيرين من الكرد والأرمن، فنراه يغّني للرُّوح والغربةِ والجَمال، كما يغنّي للجبال والمقاومة والحقّ والحياة والحبّ. كانت موسيقاه تعبيراً عمّا لاقاه من أشكال العذاب والهجرة والاغتراب والظلم، حيث تنقَّل كثيراً، هرباً من جحيم الحياة، ومن ويلات الظّلم، حيثُ تعرّض شعبه الأرمني لإبادة جماعية على أيدي الطورانيين الترك (1915م) الذي استغلّوا الإسلام ومشاعرهم الدينية، وجهل الناس به ليضربوا الإسلام بالمسيحية، والكردي بالأرمني، بهدف إضعاف نفوذهم والاستحواذ على مصيرهم وبلادهم، فتَشَتَّتَ الأرمنُ، وأُزِيلَتْ خريطتهم من الحياة، ومعهم طارَ مصيرُ آرام ديكران كمصير أبيه في مهبّ الأحداث والبلدان. الرّحمة لروحك العذبة التي طالما سقتنا بوابل من الدفء والحلم والفرح.

-الفنان آرام ديكران من مواليد قامشلي 1934

-توقف قلب الفنان آرام ديكران في مساء يوم 6-8-2009 بعد ساعات من وصوله إلى أحد مشافي العاصمة اليونانية اثينا التي كان يقيم فيها، اثر جلطة دماغية، حيث أعلن عن موته سريرياً من قبل أطبائه.

http://shababkurd.wordpress.com

Share This