حقيقة يوم الشهيد الاشوري

للكاتب د بطرس تشابا 

آب عيد الشهيد الآشوري نتيجــة لقضيــة لـم تـحقق.
منذ سقوط الإمبراطورية الآشورية 539 عام ق.م و حتى يومنا هذا, يحفل التاريخ الآشوري بالمآسي المروعة و المذابح المفجعة و التضحيات الجسيمة.
و التاريخ الآشوري زاخر بأسماء شهداء أبرار ضحّوا بذاتهم من أجل أمتهم و معتقداتهم ومن أجل مبادئ و إيمان و حرية شعبهم و استقلاله .
لقد كتب المئات من الأجانب “غير الآشوري ” عن مذبحة سيميل 1933، إلا أنّ معظم الكتابات كانت تدور في إطار التعاطف المفرط و المبطــّن بنزعة دينية تبشيرية أو كانت ضمن حدود المصادر الرسمية العراقية و البريطانية التي تناولت وجهة نظر الحكومتين دون إعطاء الحدث أبعاده الوطنية و القومية، أما الآشوريين فغالبهم من الذين تـَناولوا الموضوع لم يتعد تـَـناولهم حدود سرد الحوادث و المأساة التي حلت بهم .
إن البحث في عوامل و ظروف حوادث سيميل و المذابح التي رافقتها و التي لم تكن أقل شأنا ً يـُـلزمنا البحث و مراجعة تاريخ مسيرة الآشوريين و دول المنطقة و القوى الاستعمارية و خاصة في العقود الثلاث التي سبقت الأحداث المأساوية.

الآشوريين قبل عام 1919 م:
كنتيجة للصراع بين القوى الاستعمارية ( بريطانيا,روسيا ) من جهة و بين حكومات دول المنطقة ( إيران , تركيا ) من جهة أخرى و تضاد مصالح كل منهم كان على الآشوريين اتخاذ قرارات حاسمة و مفرزة لمستقبل قضيتهم في المناطق التاريخية التي يقطنوها , و ما كان إعلان بيان ” وحدة و اتحاد آشور الحرة ” في 28/حزيران/1917 م إلا تعبيرا ً عن فقدان الثقة بالقوى التي لم تقدّم سوى الوعود و التي نجمت عنها فواجع كان لها الدور الأكبر في تعزيز مصالح القوى الاستعمارية من جهة و شل الحركة القومية الآشورية من جهة أخرى .
لم تشأ الأوساط الانكليزية المتنفذة تحقيق حق تقرير المصير للآشوريين و خصوصا ً تأسيس دولة آشورية مستقلة و قد تلخصت نواياها بالنسبة للآشوريين في إرسالهم إلى ما بين النهرين و التزامهم بحماية الأملاك النفطية الانكليزية، أما السلطات الإيرانية و التي كانت بيدقا ً بيد الانكليز اهتمت بإيعاز من أسيادهم و بأدوات خدمهم في اغتيال البطريرك العنيد و النابع من عدم رغبته في تسليم سلاح الآشوريين و إخراجهم ” وفق المخطط الانكليزي في إيران ” إلى العراق بالإضافة إلى أنه رحــّب بثورة أكتوبر الاشتراكية و تخــُّوف الانكليز من العلاقات الروسية – الآشورية و تسلم الروس مفاتيح الثروة في أذربيجان إيران و شمال العراق .
في الجبهة الأخرى كان الأتراك يضاعفون ضغوطاتهم السياسية و العسكرية لاحتلال مدينة أورميّة و التي كانت مفتاح احتلال أذربيجان السوفيتية و عبورهم إلى ما وراء القفقاس , حيث استطاعت القوات الآشورية ردعهم و على مــّر سنين طويلة . و لكن في حزيران 1918 م أصبح الوضع بالنسبة للآشوريين خطيرا ً على مجمل الجهات و ذلك بسبب الحصار الكامل من قبل الجيوش التركية و رفض القوى الانكليزية تقديم المساعدة على اعتبار الآشوريين حليفهم في الحرب بحجة عدم قدرتهم على اختراق الحصار , فبدأت في نهاية آب من العام نفسه عملية النزوح الكبيرة نحو الجنوب باتجاه ” ساينكالا ” حيث كان من المتفق الالتقاء بالانكليز هناك حسب وعد مفوضهم السامي و تلقــّـي المساعدة منهم , لكــّن نتيجة لذلك النزوح و ما سببه من نقص في عدد القوات العسكرية الآشورية و تغيـّـر دورها من المـُـدافع و المتحصـّـن إلى مرافقة الجموع النازحة الغير منظـّم أدى إلى انهيار عملية تنظيم الدفاع و كانت النتيجة سلسة من المجازر و المذابح الجماعية على مسار و طرق السكان النازحين و على السكان الذين كانوا لا يزالون متمركزين في أماكنهم المحاصرة من قبل الجيوش التركية و الفارسية , ففي أورميــّة أبيد أكثر من 14 ألف إنسان آشوري و بالقرب من” ساينكالا ” أكثر من عشرة آلاف , وعندما لم يجد الآشوريين الانكليز بمساعداتهم الموعودة في ” ساينكالا ” تابعوا نزوحهم نحو الجنوب إلى مدينة ” همدان ” حيث كان الانكليز فعلا ً متمركزين , فاستشهد الآلاف في الطرق من الحر و الجوع و تصيدهم من قبل القوى الكردية و الفارسية و التركية , و بعد مسيرة 900 كلم في الطرقات الجبلية الوعرة و حسب الإحصاءات و صل” همدان ” 205آلاف إنسان آشوري من أصل 253 آلف خرجوا من أورمية معا ً .
في 30 تشرين الأوّل1918 م وقع ممثلي كل من انكلترا و تركيا اتفاقية صلح فيما بين دولتيهم و التي أفرزت نزوح جديد للآشوريين المرهقين إلى منطقة ما بين النهرين و التي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية ضمن دولة العراق و تحت الانتداب البريطاني بالإضافة لذلك تشكلت الدولة السورية و وضعت تحت الانتداب الفرنسي و بهذا الشكل يتضح أن مجمل المواطن التاريخية لإقامة الآشوريين أصبحت داخلة في تشكيلات حكومية مختلفة ” تركيا – إيران – عراق – سوريا ”

الآشوريون حتى عام 1932 م :
بعد أن فقد الآشوريين في الحرب الكونية الأولى أكثر من نصف قوامهم على حين أملوا من حلفائهم المساعدة في تمكينهم من العودة إلى مواطنهم السابقة , لقد كان هدفهم تأسيس حكم ذاتي تحت الحماية الانكليزية التي لم تشأ و لا بأي شكل من الأشكال إعادة الآشوريين إلى تركيا , فقد قرر الانكليز بفترة طويلة قبل انتهاء الحرب نقل الآشوريين إلى العراق حيث نووا استغلالهم كقوة عسكرية لحماية الصناعات النفطية , و في الوقت ذاته لم تشأ انكلترا إضعاف آمال الآشوريين في تحقيق مسألة تقرير المصير لهم , و قد سهل ذلك مهام القيادة الانكليزية في سنوات الحرب في تشكيل القطعات و الكتائب العسكرية الآشورية , بحجة تأسيس الحكومة الآشورية في البداية مؤكدين ذلك بأن الحكومتين التركية و الإيرانية لا تسمحا بتأسيس ذلك في الأماكن الأصلية و يبقى المكان الوحيد الذي يمكن لآشوريي ” هكاري ” البقاء فيه هو شمال العراق و على سبيل المثال ولاية الموصل ” نينوى سابقا ً ” حيث يعتبر الآشوريين من الطائفة الكلدانية السكان الأصليين لها على مدى قرون طويلة . و لقد كان للزعماء الآشوريين الدور الكبير في تأسيس الكتائب الآشورية إذ كان لهم كما للملوك و الكهنة مصلحة مادية في توسيع الكتائب العسكرية حيث كانوا يتقاضون وفق الاتفاق مع القيادة الانكليزية حصة نقدية من مرتب كل ضابط و مجند آشوري , و لقد سبب استخدام الكتائب الآشورية ضد الأكراد قلقا ً واضحا ً لدى الآشوريين البسطاء و لإسكاتهم أعلمت السلطات الانكليزية في العراق الآشوريين على أنه في تشرين الثاني 1918 م تم توقيع اتفاقية بين انكلترا و فرنسا تنصّ على حق تقرير المصير للشعوب المقيمة في تركيا العثمانية سابقا ً بما في ذلك الآشوريين , إلا أن الوفد الآشوري منع من حضور الكونفرانس في باريس من قبل السلطات الانكليزية و اكتفوا بحضور سورما خانم إلى مجلس اللوردات البريطاني و ما كانت المطاليب التي جلبتها سورما خانم إلى الكونفرانس إلا مطاليب متواضعة فلم تذكر فيها شيئا ً عن تأسيس دولة آشور .
و في 10 آب 1919 تم توقيع اتفاقية سيفر السلمية مع السلطات التركية و وفق المادة 62 من هذه الاتفاقية تم التنويه فقط عن ضرورة الأخذ بالحسبان ” الضمانات الكاملة لحماية الآشوريين في العراق و تركيا ” و لكن لم تكن تلك العبارة ذات مغزى إلزامي بتاتا ً . و على مدى أربعة سنوات من الكفاح و المعارك الضارية التي واجهها الآشوريين لحمايته ولاية الموصل , لم تساعد تلك المعارك و لا بأي شكل من الأشكال الآشوريين في حل قضيتهم و لذلك تقدم الآشوريين بمذكرة إلى عصبة الأمم و لقد ضمــّت المسألة الآشورية إلى جدول أعمال مؤتمر لوزان الذي عـُـقد لاستبدال مقررات سيفر الذي فشل تحت ضغط النضال الوطني التحرري التركي . حيث بحث المؤتمر مسألة الموصل و مصير الآشوريين , و لقد كانت مسألة الموصل من أهم و أخطر المسائل إذ دار الصراع من أجل الموصل على طوال المؤتمر , إلا أن مسألة الموصل لم تحل و عاد موضوعها للتداول في 19 حزيران 1924 م في مؤتمر القسطنطينية حيث طالب الممثل الانكليزي” بيرسي كوكس” في هذا المؤتمر توسيع الحدود الشمالية للعراق على حساب منطقة “هكاري” موطن الآشوريين , و لكنُّ الممثل التركي ردا ً على ذلك اتهم الآشوريين بخيانة الوطن في سنوات الحرب العالمية و مما يستدعي الدهشة أن ممثلي عصبة الأمم دعموا موقف الأتراك في هذا المؤتمر إذ ذكر أن الآشوريين غير جديرين بالتسامح و كذلك بالوطن مما اضطر الممثل الانكليزي تعديل مطالبهُ مقترحا ً حدودا ً أخرى للعراق أما الآشوريين فقد تم الاقتراح على توطينهم بشكل كتل جماهيرية بغض النظر عمّا إذا كانت المواطن الجديدة تقع في نطاق موطنهم التاريخي أم لا . و من أجل الحل النهائي لمشكلة الموصل توجهت عصبة الأمم في 23 أيلول 1925 م إلى محكمة لاهاي الدولية و تم اتخاذ القرار الذي ينصّ بأن تمر الحدود بين تركيا و العراق بخط بروكسل المعين مسبقا ً و أن تمدد الحكومة البريطانية الانتداب على العراق لمدة 25 سنة أخرى و بقيت ولاية الموصل جزءا ً لا يتجزأ من المملكة العراقية كما احتفظت تركيا مقابل ذلك بولاية ” هكاري ” موطن الآشوريين الأتراك الذين منعوهم من العودة إليها و أبقوهم في العراق حيث استاءت أوضاعهم بشكل لا يطاق . حيث أنـّـه في السنوات التي تلتها كانت التهديدات التركية ما تزال مستمرة , ومعارك الاستنزاف التي كانت القوات الآشورية تخوضها على طول الجبهة التركية أثقلت كاهلها إلى أن استطاعت القوات الآشورية إبعاد الأتراك نهائيا ً عن الأراضي العراقية و سيطرت على منطقة راواندوز بالكامل . و عندما توصلت البلاد إلى مرحلة لا بأس بها من الهدوء و الاستقرار توجه الآشوريين من جديد إلى السلطات الانكليزية و الحكومة العراقية بطلب حل مسألة التوطين الجماعي للآشوريين في شمال البلاد , لكن الانكليز حذروا السلطات العراقية من تجميع الآشوريين في مكان واحد كي لا يؤدي ذلك في المستقبل إلى تأسيس دولة مستقلة أو حكم ذاتي , لذلك أصروا على توطينهم بشكل جماعات صغيرة في مجمل الجزء الشمالي من العراق , و اقترح الانكليز على الحكومة العراقية تخفيف حدّة المسألة الآشورية بتحقيق مطالبهم الثانوية حيث وافقت الحكومة العراقية و على الفور على ذلك و خلاصة القول أن حــّل المسألة الآشورية في العراق أدى إلى الآتي :
لقد تم الإعلان عن أن الآشوريين سيقطنون أراضي شمال العراق التي يمكن العيش فيها و سيمتلك قطع الأرض أولئك الذين سيعملون فيها تبعا ً لتعليمات الحكومة . لكن الآشوريين لم يرضوا بذلك و واصلوا احتجاجهم إلى عصبة الأمم حيث قررت اللجنة الدائمة للرقابة الاستماع سنويا ً إلى تقارير الحكومة الانكليزية بشأن وضع الآشوريين في العراق و أعربت في 24 تشرين الأول في الدورة الثانية عشر لانعقادها عن عدم رضاها عن التقرير المقدم من قبل الحكومة العراقية و الجانب الانكليزي , و باصطدام الحكومة الانكليزية بصلابة موقف اللجنة الدائمة للرقابة التي شــُكلت من قبل عصبة الأمم , قررت التخلي عن الآشوريين جاعلة من مقترحاتها السابقة مقترحات غير فعلية و أن التوصيات المقدمة من لجنة الموصل و المتعلقة بالآشوريين هي موجهة للحكومة التركية و ليس إلى العراق .
لقد كان الآشوريين طوال تلك الفترة واثقين من أن مطالبهم بالاستيطان الجماعي ستحقق بواسطة دول الانتداب التي قدّموا لها خدمات كثيرة بيد أنهم خدعوا هنا أيضا ً و خابت أمالهم , إذ أن الحكومة الانكليزية و لأهداف تكتيكية قررت تغيير سيطرتها الاستعمارية على العراق و اقترحت في عام 1932 م منح العراق استقلاله . حيث بات من المعروف أن منطق التحول الاستعماري من الكولونيالي إلى الحديث يقضي بغزو العقول لا غزو الأراضي و ذلك عن طريق نصب حاكم أو نخبة حاكمة على سدة دولة مركزية لا تقر للأطراف دورا ً , ترتبط بمعاهدة ضامنة لمصالحه الاقتصادية و السياسية , و في تنازل بريطانيا عن نظام الانتداب عن العراق و منحه الاستقلال السياسي و قبوله عضوا ً في عصبة الأمم عام 1932 م و من خلال هذا المنطق في التحول الاستعماري نفهم سياسة بريطانيا في استغلال مأساة الآشوريين من أجل تحقيق مصالحها في العراق و من ثم طرحهم خارج هذا المنطق الجديد بعد أن أصبحوا من أدوات المنطق القديم .

الآشوريون 1933 م:
لقد وضع البريطانيون الآشوريين على السفود حتى صيف عام 1933 و أبان حصول العراق على استقلاله و بعد اختياره عضوا ً دائما ً في عصبة الأمم أكد الممثل العراقي على أن الآشوريين سيسكنون مجموعات كبيرة و ستتم دعوة مفتش أجنبي لتطبيق هذا القرار, لقد كانت خديعة أخرى , و نظرا ً للظروف القاسية التي مـرّ بها الشعب الآشوري في العقدين الأخيرين و ما رافقتها من ضغوطات بدأت أوضاع الآشوريين تتدهور رمما أدى إلى نتيجة لفقدان الوحدة الداخلية , فلقد قرر البطريرك مار عمانوئيل بطريرك الآشوريين الكلدان الانفصال عن مسيرة النضال الدموية و تأييد السلطات الانكليزية و العراقية فأجبرته الحكومة العراقية على السفر إلى جنيف و التكلم في مجلس عصبة الأمم و أمام اللجان اللازمة حيث بين أن حياة الآشوريين في العراق جيدة جدا ً , و ذلك خوفا ً من أن تقوم السلطات العراقية بتهديد الآشوريين إلا أنه بغض النظر عن تنازل مار عمانوئيل استمر الإرهاب ضد الآشوريين الكلدان و الذين حين فقدوا الأمل بمساعدتهم من قبل بطريركهم ناشدوا السيد” درابلير” المفوض البابوي في الموصل مساعدتهم إلا أن الأخير لم يأبه بأي شكل من الأشكال لوضع الآشوريين بل على العكس فقد قلـّـد أحد الوزراء العراقيين ” باجه جي ” و المتميز بقسوته وساما ً بابويا ً .
أما البطريرك مار إيشا شمعون المدافع الصغير عن مصالح شعبه فلقد دق إسفين بينه و بين قادته حيث وجد بين الآشوريين خونة مجـّـدوا السلطة الحاكمة و وافقوا على العمل لصالح السلطة وفي قبول خطة تقطين الآشوريين في منطقة دشتازي بعد وعدهم من قبل السلطات العراقية بمراكز حكومية مرموقة لهم و لأبنائهم و زعامة الآشوريين جميعا ً ” كما كان الاقتراح على الملك خوشابا ” , لقد كانت زعامة الآشوريين من أنصار الحكومة و المؤلفة من الملك خوشابا و مار سركيس و ماريوالاها و زيا شموئيل و ملك خيو و غيرهم في قوام المكتب المختص بتقطين الآشوريين المشكل من قبل السلطة العراقية و الانكليزية , لكن الأغلبية الساحقة من الآشوريين أعلنوا رفض الخطة و أنه لا يمكن أن يكون أي توطين لهم دون موافقة البطريرك مار شمعون المحتجز في بغداد و الذي يجب إطلاق سراحه أولا ً .
في تلك الأثناء نضجت في البلاد الكثير من القضايا السياسية الداخلية مثل القضية الكردية و قضية النزاعات الطائفية بين السنة و الشيعة و غيرها , إن مجمل هذه المسائل انتظرت الحل الموعود به من قبل حكومة رشيد علي الكيلاني الذي وصل إلى سدة الحكم في آذار 1933 م بيد أنها لم تفلح في تحقيق أية فقرة من الوعود التي قدمتها و برزت في البلاد موجة عدم الرضي إلى نظام حزب الإخاء الوطني الذي خيب آمال العراقيين و أحد الأسباب الرئيسية لهذا الاستنكار كان عدم رغبة الحزب في إعادة النظر في الاتفاق الانكلو- عراقي الجائر فقد أجبر التهجم على الحزب و زعمائه على أن يبحث عن هؤلاء و بالسرعة الكلية عن مخرج للوضع القائم و لم يكن العثور على هذا المخرج دون مساعدة الانكليز الذين صوبوا كل انتباه الشعب العراقي إلى ” ا لخطر ” الآشوري على العراق و استغل حزب الإخاء الوطني هذه الإمكانية كليا ً و بدأ تركيز مجلس الوزراء العراقي في جلسته المنعقدة في 20 حزيران 1933 على المسألة الآشورية و مصادر حصولهم على الأسلحة فمن 27 و حتى 30 حزيران نـُـشرت أكثر من عشرة مقالات ذات اتجاه حاد في عدائها للآشوريين , كما كانت خلاصة قول أعضاء البرلمان العراقي :
” إنه يجب علينا أن نبين للآشوريين كل شيء أو أنهم سيواجهون ما واجهه الأرمن في تركيا , فعلى مجلس الوزراء الوقوف ضد تقطين الآشوريين و كتائبهم , الآشوريين مجرمون و بعضهم يجب إبادته “.
و في تموز 1933 بلغت الحملة الرسمية المعادية للآشورية في العراق أوجها فمن 1 و حتى 14 تموز صدرت أكثر من 80 صحيفة بمقالات افتتاحية معادية للآشوريين كما أن البرامج الإذاعية احتقرت الآشوريين بشتى السبل و حاولت أقناع العراقيين بأن الحل الوحيد للمسألة الآشورية هو الإجراءات الحاسمة , و بمحاذاة ذلك أعطت الحكومة العراقية أمرا ً بالجاهزية الحربية ضد الآشوريين و اتصلت بالقبائل الكردية و العربية طالبن الانضمام إلى الجيش و هددّت كل من لا يشارك باتهامهم بالخيانة الوطنية , في خضام ذلك كان هدف الانكليز و السلطة العراقية تنظيم صدامات بين المجموعات الآشورية المتمرّسة و المحنـّـكة ففي 10 – 11 تموز أجرى كل من استافورد و تومسون المستشارين الانكليزيين بالاتفاق مع السلطة العراقية لقاء ً مع القادة الآشوريين في الموصل و حضر اللقاء خصوم مار شمعون أيضا ً و الذين حاولوا استفزاز أنصار البطريرك بمختلف الأساليب و قد حاول منظمو اللقاء توضيح سياسة السلطة العراقية بشأن تقطين الآشوريين و اقترحوا على الحاضرين قبول خطة دشتازي و من لن يقبل بذلك عليه مغادرة العراق , و استغلالا ً لهذا السماح الرسمي من السلطات العراقية و الانكليزية غادر الكثير من الآشوريين ديارهم متوجهين إلى الحدود العراقية – السورية بعد موافقة السلطات الفرنسية و بشغف على ذلك بهدف استغلالهم في تفريق الشعب و الاعتماد على الأقلية المسيحية في كبح جماح و ضرب حركة التحرر العربية في سوريا .
في تلك الأثناء كانت استعدادات الحكومة العراقية على أوجها لضرب الآشوريين حيث تم تمركز ثلثا القوات العراقية و الآلاف من الرعاة العرب و الأكراد المستذوقين طعم الحياة في ولاية الموصل , و في الوقت ذاته اتخذت الحكومة العراقية و بمساندة انكليزية قصوى , خطوات دبلوماسية لكسب الفرنسيين إلى جانبها حيث طـُـلب من الفرنسيين تجريد الآشوريين من السلاح و إعادتهم إلى العراق و ذلك خشية ً من أن تتحول سوريا إلى قاعدة للعمليات العدوانية على العراق , ومن الصعب فهم الموقف الفرنسي إلا أنه من الواضح أن الانكليز و الفرنسيين توصلوا إلى اتفاق على عدم السماح للآشوريين بدخول سوريا بل تجرد أسلحتهم و إعادتهم إلى العراق و تأجيل تهجيرهم إلى سوريا إلى بعد أن تـُـكسر قوتهم و معنوياتهم ليتم استغلالهم على الوجه الأمثل من قبل الفرنسيين في تشكيل قطعاتهم العسكرية .
خلال العودة من الحدود السورية إلى العراق إثر رفض الفرنسيين دخول الآشوريين للأراضي السورية و في الرابع من آب بدأت الإبادة الجماعية من قبل العراقيين دون رحمة و أعلنت الحكومة العراقية ” الجهاد ” ضد الآشوريين و وعدت بالمكافآت بالجنيهات الإسترلينية عن مقتل كل آشوري كما قدمت ممتلكات القتلى كليا ً لناهبيها .
و بعد المعارك الغير مشرفة و الخسائر الجسيمة التي منيت بها القوات العراقية على الحدود السورية العراقية انسحبت خائبة ً إلى القرى الآشورية و بدأوا بإبادة السكان المسالمين دون رحمة أو تمييز , و في سيميل كان أول من قتل هو كورئيل يونان من أنصار الحكومة و بغض النظر عن جنسيته العراقية و العلم العراقي الذي رفعه فوق داره المكتظة ب 80 شخصا ً من حاشيته و عن الخدمات القذرة التي كان يقدمها للسلطة العراقية .
لقد جرت المذابح على امتداد شمال العراق كله في العمادية و زاخو و دهوك و شيخان و ضواحي الموصل و أماكن أخرى كثيرة حيث انتشرت المذابح في كل الأراضي العراقية و عشية انتهاء العمليات الحربية المشرفة جدا ً ضد الآشوريين العزل و المسالمين عقد اجتماعا ً موسعا ً بين الانكليز و السلطات العراقية في 18 أيلول 1933 حضره قائد الكتائب الآشورية الجنرال ج – بيراون أحد المسؤلين عن المجازر الآشورية و تم تقرير أنه يجب أن لا يبقى الآشوريين في هذا البلد و من اجل توطين هؤلاء الآشوريين لم يبق لهم سوى سوريا .
لقد كان لانكلترا و دورها في تلك الأحداث المأساوية التي ألــّــَمت بالشعب الآشوري فوائد عادت إليها و إن كانت على حساب أرواح حلفائها , فبعد نشر الوثائق المتعلقة بالأحداث و الكلمات التي تفضح أسباب الصدام كشـَـف النقاب عن المسببين الحقيقيين للمأساة الآشورية و إن أحد الأسباب الرئيسة للمجازر كانت رغبة انكلترا في نزع الثقة بالعراق أمام الرأي العام العالمي و تبيان عدم مقدرته على التطور الذاتي و عدم موضوعية جميع المحاولات الرامية إلى الإطاحة بالاتفاق الانكلو – عراقي الذي أعطى دفعا ً كبيرا ً للأوساط الانكليزية الحاكمة , أما السبب الثاني فيتلخص في عدم اهتمام انكلترا بتأسيس حكما ً ذاتيا ً للآشوريين لئلا يصبح ذلك مثلا ً شنيعا ً تقتدي به شعوب أخرى فيما بعد ضمن المستعمرات الانكليزية , و السبب الثالث للمذابح هو نوايا انكلترا في اطلاع أكراد العراق بشكل ملموس على ما ينتظرهم فيما لو أرادوا الانفصال عن العراق , هذه إذا ً الأسباب التي جعلت الطبقات الحاكمة في انكلترا تفضـّـل تقديم الآشوريين ضحية لئلا يكون هناك سابقة ما .
أما على المستوى العراقي فقد أرست السلطات الحاكمة مبادئها و قيمها السياسية و العسكرية في أسلوب معالجة المشاكل الوطنية و في كيفية التعامل مع التطلعات المشروعة للتنوّع القومي و الديني في العراق و هي القيم و المبادئ نفسها التي طغت على منهج السياسة العراقية في تعاملها مع الأقليات عبر ستة عقود حكمت مسار تطور تاريخ العراق السياسي , فلقد نجحت في إيجاد الحلقة الأضعف و استغلتها خير استغلال و جعلها الهدف الأمثل لتحقيق أهداف النخبة الحاكمة في تأطير الاستقلال بصورة بطولية و وطنية تثير حماس و اندفاع الشعب نحو حكومة الدولة الفتية .
و المغزى المراد استخلاصه من الحدث لا يكمن في الأهمية التاريخية للمذابح باعتبارها نتاجا ً أو حاصل تحصيل الحركة الآشورية التي اعتبرت أوّل حركة سياسية اجتماعية نادت بأهدافها بعد أشهر قلائل من استقلال العراق و اكتسابه لعضوية عصبة الأمم فحسب , بل يكمن هذا المغزى أيضا ً في :
1- الاستعداد الحكومي و الشعبي , فكريا ً و سياسيا ً , و التخطيط المنّظم المسبق لارتكاب المذبحة و الهالة الدونكيشوتية التي أحيط بها مرتكبيها .
2- دراماتيكية الحدث نفسه و النتائج التي أعقبتها ليس على الآشوريين فحسب , بل على بقية المجموعات القومية الدينية . فالاستعداد المسبق للحدث تنبع نواياه من ترسبات تاريخية تمتد جذورها إلى عقود الحملات العثمانية التأديبية تجاه الآشوريين فمعظم أعضاء النخبة الحاكمة التي عالجت الحركة الآشورية بأسلوبه العسكري الفاشي كانوا من المؤسسة العسكرية العثمانية .
أما نتائج المذابح بالمنظور السياسي على الآشوريين, فقد كانت أكثر مأساوية من غيرهم من المجموعات القومية و الدينية الأخرى في العراق , لا لكونهم الغاية و الوسيلة في آن واحد لأهداف النخبة الحاكمة فحسب , بل لكون طبيعة
” الحلقة الأضعف ” على عدم قدرتها لتحمل الضربات القاصمة و الاجتياحات العسكرية العنيفة فأصيب الآشوريين من جراء ذلك بالتصدع الاجتماعي و السياسي و الديموغرافي .
لقد كان لتبعيات قرار المسؤولين الآشوريين عندما أعطوا الانكليز إمكانية استخدام الكتائب الآشورية في قمع انتفاضات الأكراد و العرب و في تطهير الشمال العراقي من الجيوش التركية , إعاقة قيام تحالف بين الآشوريين و الشعوب الأخرى في العراق و لقد كانت لسياسة ” فرق تسد ” الانكليزية أثرا ً واضحا ً ليس على وضع الآشوريين فحسب بل على أوضاع الأكراد و العرب أيضا ً , و هذا يدل على تدني مستوى الوعي الطبقي لدى الجماهير في العراق في تلك المرحلة .
لماذا السابع من آب يوم الشهيد الآشوري :
في عام 1968 في الاجتماع التأسيسي للاتحاد الآشوري العالمي في مدينة باريس و أبان تبلور الفكر القومي الآشوري و تأسس الحركات و التنظيمات الحزبية القومية :
1 – كان لا بدَّ من الرموز لإبراز الهوية القومية فالعـَـلم و الشعارات و النشيد الوطني و نصب الجندي المجهول و أبطال التاريخ القومي و الأعياد القومية و غيرها , كلها رموز قومية لكل أمة من الأمم اكتمل وعيها السياسي و القومي , فالسابع من آب يأتي ضمن هذا السياق القومي الآشوري و حاجة الأمة إلى هذا الرمز , رمز الحفاظ على الهوية من خلال التضحية و الفداء بالدماء الزكية الطاهرة لأبناء الأمّة
الآشورية .
2- السابع من آب و المذابح المأساوية تاريخ معاصر و قريب إلى إحداثنا القومية و السياسية المعاصرة و إلى المأساة الناجمة عن الممارسات العنصرية الشوفينية ضد الآشوريين في السنوات الأخيرة و حتى يومنا هذا , إضافة إلى أنَّ الكثير من أبطال الحركة القومية الآشورية عام 1933 كانوا و لا يزالون أحياء لوقت قريب , كما أن هنا شهود عيان لا يزال الكثير منهم يعاصرون أحداث أيامنا هذه .
3 – لأوّل مرة في التاريخ الآشوري تتخذ الحركة القومية عام 1933 نهجا ً اكثر تميزا ً و استقلالا ً شكلا ً و مضمونا ً عن نهج الكنيسة و الدين , لأنها كانت تسعى لتحقيق أهداف قومية تتعلق بحق الآشوريين في تقرير مصيرهم القومي .
4- بعد تشكل الأحزاب و المنظمات الآشورية فمن الطبيعي الاستناد إلى أحداث تاريخية تتـّـخذ منها دروس قومية لشحذ همم الآشوريين و تطوير وعيهم القومي بشكل ينسجم مع تطلعات الأمة الآشورية .
5- وفرة و تعدّد المصادر و الكتب و الوثائق عن الحركة القومية الآشورية عام 1933 و المذبحة التي رافقتها و باللغات التي يجيدها أبناء الشعب الآشوري كالآشورية و الانكليزية و العربية و الفارسية , و سهولة الرجوع إليها و اغتراف مضامينها التاريخية و السياسية و أبعادها القومية و الإنسانية و استلهام معانيها النبيلة في الاستشهاد في سبيل الحرية .
6- مأساوية مذبحة سيميل و دراماتيكية أحداثها الدموية و تأثيرها بشكل عميق على نفسية الفرد الآشوري و على الأجيال اللاحقة من جهة , و انعكاساتها السلبية في البنية الفكرية العراقية و الترسبات التي خلفت في عقلية رجال الحكم في العراق لسنوات طويلة في سياستهم تجاه الآشوريين في العراق من جهة ثانية , مما ترتب على ذلك تبعيات سياسية و قانونية سلبية على الآشوريين كموضوع الحصول على الجنسية العراقية على سبيل المثال لا الحصر , فكل هذه الممارسات خلفت بشكل غير مباشر أهمية خاصة لمأساة حركة عام 1933 و انعكست على نفسية المجتمع الآشوري لتفرز ردود فعل لها مغزاها القومي .
في الختام يجب التذكير بأن الآشوريين في العراق الذين قدمـّـوا 15 عاما ً 1918 – 1933 خدمات جليلة للوطن لم يحصلوا لا على حكم ذاتي و لا على توطين جماعي و بقيت المسألة الآشورية دون حل . و لكن المنطق التاريخي و السياسي يؤكد بأن الآشوريين و إن كانوا أقلية من حيث الحجم بالنسبة لبقية القوميات العراقية , إلا أنهم يشكلون أكثرية من حيث عمق تاريخهم و عراقة حضارتهم و يكــّـونون بخصائصهم القومية و الدينية المتميزة , جزءا ً أصيلاً من مكونات الشعب العراقي , و لا يتعدى حدود طموحهم أكثر مما هو إقرار الغير بهذه الحقيقة و قبولها قولا ً و ممارسة ً .

المصادر :
1 – الآشوريين و المسألة الآشورية في العصر الحديث _ ق.ب. ماتفيف
2 – الآشوريون في السياسة و التاريخ المعاصر – أبرم شبيرا
3 – الحليف الأصغر – ويكرام . ف
4 – الآشوريون و الحربان العالميتان – يعقوب الملك اسماعيل
5 – مشكلة الموصل – فاضل حسين
6 – خيانة بريطانيا للآشوريين – يوسف مالك
7 – مأساة الآشوريين – البطريرك مار إيشا شمعون

Share This