العلاقات الموسيقية بين العرب والأرمن منذ أقدم العصور


    د. غاريك كاسباريان

في العام 1986 أنجز البروفسور سليم سعد أطروحة بعنوان “من تاريخ العلاقات الموسيقية بين العرب والأرمن منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا” في موسكو في المعهد الإتحادي العالي للمعارف الفنية، لنيل  دكتوراه في الفنون الموسيقية.

وتبين أن لا شيء مفاجئا وهذا أمر عادي، فإن موسكو تبدو مركزاً علمياً كبيراً حيث تنجز سنوياً كثرة من الأبحاث المثيلة لهذا في ميادين علمية عديدة وبخاصة في ميدان الفنون والموسيقى، إلا أن ذلك لم يكن تماماً من النوع العادي للأحداث العلمية، بل مما هو فوق العادة، وذلك لأن العلاقات الموسيقية بين العرب والأرمن تحولت إلى موضوع علمي للبحث والدراسة الخاصة به وسجل بداية تاريخية للعلم في هذه العلاقات، للمرة الأولى في تاريخ الحضارتين، وما تتطلبه هذه الأطروحة من التحضير العلمي الخاص والمعرفة كما في هذا الميدان كذلك في ميادين الفلسفة وعلوم الجمال.

لعلاقات وتطورها

العلاقات العربية والأرمنية الوثيقة والحثيثة عبر التاريخ بأقدم عصوره، هذا ما أكده العلاماء والمؤرخون. وهذا ما يتبرر بالتشابه الحاصل بين العرب والأرمن في معظم ميادين الحياة البشرية.

تحددت في الأطروحة المراحل الخاصة لتطور العلاقات بين العرب والأرمن في ميدان الفن الموسيقي على الشكل التالي:

1 – المرحلة الأولى الأكثر قدماً في حضارات بلاد ما بين النهرين، السومرية. 2 –  الأشورية. 3 –  البابلية. 4 – ألأشورية البابلية. 5 – ألفارسية الأخمينية. 6 – الحضارة اليونانية الشرقية (ألهلينية). 7 – الحضارة الرومانية. 8 – حضارة الفرس الساسانيين.

مراحل القرون الوسطى:

1 – ألخلافة الإسلامية العربية. 2 – مرحلة الإنحدار العربي الأرمني في العهد العثماني (بعد سقوط بغداد في العام 1258).  3 – العصر الحديث (منذ القرن التاسع عشر بعد بدء إنحلال وضعف الدولة العثمانية قبل سقوطها في بداية القرن العشرين). 4 – مرحلة تفعيل العلاقات الأرمنية العربية في الموسيقى (منتصف القرن 19 والقرن العشرين حتى يومنا).

التأثير والتأثر

تبدأ العلاقات الثقافية الأرمنية العربية بالتأثر المتبادل تحت تأثير الحضارة الأشورية – البابلية، وعبر هذا تحققت الإحتكاكات الثقافية الأولى. وعلى سبيل المثال فإن العلماء اللغويين أكدوا مفاعيل مشتركة بين اللغتين السومرية والأرمنية، عدا ذلك تحقق أن الكثير من الطقوس الدينية الأرمنية القديمة ظهرت بفضل الإحتكاك الأرمني بحضارات بلاد ما بين النهرين.

وبشكل خاص نورد من هذه القصص الطقوسية والخرافات الأدبية قصة ملكة أشور سميراميس وملك أرمينيا آرا الجميل حيث في العام 1769 ق.م. إجتاحت سميراميس ملكة أشور معظم بلدان الشرق، وبوصولها إلى سهل جبال آرارات أعجبت بملك أرمينيا آرا الجميل فعرضت عليه الزواج عليها مقابل حسن المعاملة مع الأرمن وبلادهم، فرفض الملك الجميل آرا، فقامت سميراميس بإحتلال أرمينيا وأسرت آرا وعقدت معه الزواج وأنجبت منه طفلاً ولياً للعهد أسمته “فان”، الذي حملت اسمه مدينة “فان” الواقعة حالياً تحت السيطرة التركية. بالإضافة إلى ذلك تجدر الإشارة بشكل مميز إلى أن كاتب الأطروحة، وعلى ضوء دراسته للمراجع العربية وفّق باسنادات تاريخية لهذه القصة الحقيقية لسميراميس وآرا الجميل، وهذا ما لم يوجد في أي من المراجع الأرمنية قبل هذه الأطروحة. وهذا الأمر يبدو مهماً لأنه يحدد تاريخ نشوء هذه القصة في منتصف القرن الثامن عشر قبل الميلاد (1769 ق.م.).

تأثرت اللغة العربية وثقافتها بالحضارة السومرية، وذلك منذ منتصف الألفية الثالثة ق. م.، وقد أثرت الحضارة الأشورية البابلية على تطور الحضارتين الأرمنية والعربية حتى مرحلة سقوطها حوالي سنة 585 ق. م.. كما تشكل العلاقات الأرمنية العربية الموسيقية القسم الأهم في العلاقات الثقافية العامة بين الحضارتين. وتدل الأحداث التاريخية الكثيرة على أن تأثير الحضارة الموسيقية السومرية – البابلية بدا كبيراً على هاتين الثقافتين، لذلك فأن الثقافة الموسيقية السومرية وجدت على مستوى عال جداً ومتطوراً، ليس فقط لثقافات عصرها بل لكل الثقافات الموسيقية الواصلة إلينا اليوم.

وفي العام 301 ميلادياً، تكثفت حالات التأثر والتأثير بين أرمينبا وسوريا حيث عاش الكثير من العرب السوريين، وعلى هذا الأساس استمرت العلاقات العربية الأرمنية الموسيقية والتداخل الثقافي بين الشعبين. وذكر الكاتب في أطروحته الكثير من الوقائع المهمة التي تشهد على التطور الصاخب للعلوم والفنون لدى الشعبين. كما يرجع الكاتب بمراجعه إلى فلاسفة القرون الوسطى ومن بينهم كبار علماء العرب والأرمن مثل أبوالفرج الأصفهاني، إبن عبد ربه، المسعودي، إبن خلدون، ياقوت الياقوتي، دافيد آنهاخت، آنانيا شيراكاتسي، كريكور ماجيستروس، هوفانيس يرزينكاتسي وغيرهم. ويمكن إدراج أمثلة لأعمال علمية قيمة تجعل الفكر سائحاً لأهل القرون الوسطى من العلماء الذي يدهشوننا بإنجازاتهم.

التقارب والتبادل بين الشعبين

إن العلاقات الموسيقية العميقة السالفة الذكر بين العرب والأرمن  تبدو المثال الواضح للتقارب والتبادل الكثيف بين الشعبين. ومن أهم الأمثلة للتبادل العربي الأرمني العلمي هي زيارة الرحالة “أبودلف” والعالم “قسطا بن لوقا البعلبكي”  اللذان قاما بكتابة أعمال علمية عن الموسيقى. ففي القرن العاشر م. دعي إلى جنوبي أرمينا علماء وفلاسفة عرب في مجموعة واحدة ترأسها “قسطا بن لوقا البعلبكي”، وكما تشهد المراجع، فإن هذه المجموعة قامت بأعمال علمية في أرمينيا، وكانت أعمال قسطا بن لوقا معروفة لدى الأرمن وهو الذي أتقن علوم الطب والفلسفة والهندسة المعمارية والموسيقى، وفي آن قام بترجمة أعمال علمية عالمية إلى اللغة العربية، وقد ألف كتاباً عن الموسيقى وبفضل نشاطه تبادل الأرمن والعرب الأعمال الموسيقية، سيما منها النظريات الموسيقية، واهم عنصر من عناصر التفاعل الثقافي الأرمني العربي هو ترجمة الأعمال من الأرمنية إلى العربية وبالعكس، وفي هذه الأحوال كانت اللغتان السورية (ألأرامية) واليونانية هما الوسيط بينهما. ومن أكثر الأعمال قيمة في العلم، يقول الكاتب، هو الكتاب الثاني للأديب والرحالة العربي في القرن العاشر م. أبودولف الذي وصف فيه الترتيل الكنسي المسيحي عند الأرمن وكان معجباً به.

في التطور اللاحق للموسيقى العربية حصلت نتائج ملحوظة في مصر، حيث بدأت مناحي أوروبية تظهر في الموسيقى العربية، وقد انعكست نشاطات حركات التحرر في البلدان العربية على تطور الثقافة الموسيقية. في العام 1871 أفتتح مسرح الأوبرا في مصر وهو الأول في القارة الإفريقية، حيث عرضت الأعمال الأوبرالية بمجموعات أوروبية مما لعب دوراً هاماً في تطوير الثقافة الموسيقية العربية.

مخطوطات وتدوينات

أما بالنسبة للعلاقات العربية الأرمنية في القرنين التاسع عشر والعشرين فقد قدم الكاتب مواد لم يتطرق لها أحد قبله، وهي من أنواع المخطوطات والتدوينات الموسيقية التي تحفظ في بعض المتاحف ومنازل مبدعيها، وتشهد هذه المواد على المستوى العالي الذي أدركته العلاقات المتبادلة بين العرب والأرمن في ميدان الثقافة الموسيقية، وهكذا نشط الإهتمام لدى الشعبين بموسيقى بعضهما البعض ومنافع التبادل الثقافي الموسيقي. وفي هذا الصدد لعبت القسطنطينية الدور الأول والأكبر، حيث في القرن التاسع عشر قام المؤلف الموسيقي ديكران تشوخادجيان بكتابة أوبرا عربية الموضوع وأرمنية اللغة سميت “أوبرا زاميريه” وكانت الموسيقى العربية جزءاً من النصوص الموسيقية لهذه الأوبرا. وكذلك جذبت الموسيقى العربية كثرة من المؤلفين الموسيقيين الأرمن مثل ماكار ياكماليان وغورغين آليمشاه وقد أورد الكاتب أمثلة من هذه النصوص في ملحق اطروحته. ومن أكبر ناشري الموسيقى العربية الموسيقار الأرمني سركيس غليدجيان وهوعازف عود من المستوى الإحترافي الأول ومن أقوى المعلمين في الأداء العربي لهذه الموسيقى. وقد وضع كتاباً مجموعاً يحتوي على حوالي 700 عملاً موسيقياً من الموسيقى العربية الكلاسيكية مدونة بالنوتة الموسيقية العالمية. وكذلك الموسيقي طاطيوس أفندي من مشاهير العالم العربي أعتبر واحداً من أهم ملحني الموسيقى العربية.

موسيقيون لبنانيون

وقد أورد الكاتب الدكتور سليم سعد في أطروحته أسماء معروفة لموسيقيين لبنانيين ومنهم المؤلف الموسيقي بارسيغ كناتشيان، الذي وزع ونفذ الكثير من الأغنيات العراقية واللبنانية والسورية ونشرها في كل رحلاته الفنية مع فرقته السيمفونية والغنائية “ألكورس” الذي كان يقوده بنفسه في معظم البلدان في أوروبا وأميركا وأفريقيا وآسيا. ويمكن بجدارة ذكر المؤلف الموسيقي الأرمني بوغوص جالاليان، وقائد الأوركسترا السيمفونية اللبنانية سورميليان وغيره.

وقد توجه الكثير من المؤلفين الموسيقيين الأرمن إلى الموسيقى العربية وقد لعب في ذلك دوراً كبيراً، كما أشار الكاتب، الموسيقار الكبير آرام خاتشاتوريان الذي أحدث برحلاته الفنية عبر العالم العربي حافزاً كبيراً لتطوير العلاقات الموسيقية بين العرب والأرمن. ويشهد على ذلك بشكل خاص برنامج الأوركسترا السيمفونية الفلسطينية الذي احتوى في الأربعينيات موسيقى لآرام خاتشاتوريان وغيره من المؤلفين الأرمن. وقد كتب آرام خاتشاتوريان أغنية بعنوان “لكم يا أصدقاءنا العرب” لمناسبة إحتفالات إفتتاح السد العالي في مدينة أسوان المصرية.

***

لقد وفق الباحث الشاب ليس فقط بإدراك موضوعية البحث بل بوضعه في أطروحته حالات علمية حقيقية منظمة تتعلق بالأمور والشؤون الفلسفية والتاريخية والجمالية وكافة إشكالياتها. وتبدو هذه الأطروحة بحثاً عميقا وشاملاً من الناحية العلمية. وهي من دون شك تتميز باهمية معرفية عالية وبواقعية لضرورات تطوير العلاقات الموسيقية في المستقبل بين العرب والأرمن. وعلى قاعدة هكذا أبحاث يمكن مع الزمن طرح موضوع حول طرق تطوير العلاقات الموسيقية بين شعوب الشرق وتقاليدها. ومن ناحيتي فإني أؤكد أن هذا الوقت قد حان، خاصة وأن هذه الأطروحة أنجزت منذ 26 سنة أي في العام 1986.

*غاريك غاسباريان: دكتور في علم النفس، متخصص بعلم نفس الإبداع الموسيقي وخصائص اللغة الموسيقية، عازف محترف على الكمان وباحث في العلوم العامة والفنون.

*النص مقتطف من دراسة مطولة

    http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=9516

Share This