سوق الأرمن في بيروت

أسواق بيروت.. حكاية الإبداع في المكان
صورٌ لا تنسى.. نشأة السوق المختلط

لم تحدثنا الأخبار، في مختلف الحواضر والأمصار، أن سوقا قد اشتمل على ما اشتمل عليه سوق بيروت، وتنوع كما تنوع، فضم جميع ما احتاج إليه الناس، في معاشهم، من مأكل وملبس وصناعة وترويض ورفاهية، فمن أراد قضاء حاجة مهما صغرت أو كبرت، لا بد له من أن يقصد السوق الذي تطورت تسميته فأصبح مدينة.

فالسوق هو البذرة الأولى للمدينة، عنوان للتمدن والتحضر، فمن أراد الخضار أو الفاكهة أو اللحوم والأسماك أو الأجبان أو الخبز والدقيق، أو الحلويات، أو الأقمشة وخياطتها، أو الأحذية وتصليحها، أو شراء الذهب والحلي ووسائل التجميل، أو العطارة وشراء البهارات والتوابل، أو زيارة المطاعم، وتذوق أشهى المشاوي وألذ المأكولات، وأن يبتاع اللحم والسمك والدجاج، والتسكع بين الأسواق المختلفة الضيقة، المتصلة والمتواصلة، فيدلف من سوق إلى سوق، وكأنه يتنزه في حديقة حَوَتْ من كل ما لذ وطاب، ويجلس على مقهى يستمتع بفنجان قهوة، أو نفس «أركيلة»، ويأخذ صورة شمسية للذكرى، في ساحة البرج، والإرتواء بالعصائر والمشروبات الغازية، ومبيت ليلته في نزل، إن تأخر به الوقت أو طلب المزيد من الإستمتاع، في الملاهي الليلية المنتشرة في الساحة، من مسارح ودور سينما، أو قضاء حاجة مالية في أحد المصارف المنتشرة، أو زيارة البريد ومصلحة المياه، أو ركوب وسيلة للنقل إلى أي مكان في لبنان سهله وجبله وشماله وجنوبه، أو يجول «بالترامواي» بأرجاء المدينة، ويعود إلى السوق من حيث انطلق، بنزهة ممتعة، أو شراء الكتب من مكتبات أو دور للنشر تجمعت في ركن المدينة، وأسست لريادتها الثقافية، ومطابع الصحف الكبرى وإداراتها، ومطابع الكتب ودور النشر فيها، كل هذا وأنت تدلف من شارع إلى شارع منبهرا، أن بين الشارع والشارع عالم جديد، يختلف عما قبله.

وسوق بيروت في روعته هو مجمع أسواق، تتخصص فيها العروضات وتتنوع، فما تكاد تنزل على درج «الرجال الأربعين» أو ما كان يسمى أيضا «درج خان البيض»، حيث في زاوية عند أسفله، تتكدس سلال البيض، ومطحنة البهارات عن يسارك، ودكان ألعاب الأطفال عن يمينك، حتى تواجهك ساحة السمك، وسوق الدجاج، فإن أردت التفرع منها يسارا فأنت في سوق اللحامين يليه سوق الوقية، حيث الأقمشة الشعبية ثم تنفذ إلى شارع المعرض من آخره، وإن أردت يمينا، فأنت في سوق أبي النصر، حيث تباع الخرضوات، وكل ما تحتاجه من عدة وأدوات كهربائية، ثم تنفذ منه إلى ساحة البرج، وإذا أردت أن تتابع إلى الأمام، فأنت في سوق الأرمن، حيث تصنع الأحذية وتصلَح.

هذا السوق، كان فريد في عصره، وفي مكانه، وكأنه بناء مجسم، يحوي كل شيء، يتحدث المؤرخ عبد اللطيف فاخوري في «منزول بيروت» عن تاريخ تأسيس الأسواق، حين كانت زواريب، فيقول «من تأمل سوق الخضر الذي يكاد لا يبلغ عرضه أربعة أذرع، وأنه هو السوق المطروق، أكثر من سواه» لكن هذا السوق ما لبث أن توسع واستطال، فبدأ متوازيا مع بداية شارع المعرض، ودرج الرجال الأربعين، وبينهما، نزولا ليقطعه الطريق إلى باب ادريس، ويتابع لما وراء الريفولي حيث يصبح سوق المعلمين، بعد أن ترك إسم «سوق النورية» في الجهة العليا، حيث كانت النسوة من بعض البدو الرحل يأتون بحشائش الخضار، كالهندبة والخبازة والزعتر الأخضر، فيبسطونها في هذا المكان الذي حمل إسمهن.

ثم تطورت التسمية لتصبح «سوق الحسبة» وهو الإسم الذي كرّس السوق رسميا كسوق للخضار، له نظامه وتقاليده، الموروثة عن الأسواق المسماة بهذا الإسم منذ عهود الإسلام الأولى، والتي بقيت متداولة في العديد من البلدان العربية حتى يومنا هذا، و«الحسبة» كما ورد في «لسان العرب» حسب الشيء أي قدره، والحسب هو الإكتفاء والكفاية، وحسبك هذا أي هذا يكفيك، والحسبان، التقدير الصحيح للشيء، وفي قوله تعالى «الشمس والقمر بحسبان» (الرحمن).

وهذا ما يشير إلى التنظيم الدقيق للأسواق في ذلك الوقت، وباقي الأنواع وهذا السوق الذي كانت «السحاحير والفرش والسلاسل والأطباق والكراسي مكردسة تلالا تلالا على الجانبين أمام الحوانيت، وصاحب الحانوت وأولاده وحماره وخاروفه» أصبح منظما مرتبا بطاولات تصف عليها الخضار والفاكهة، وتعرض بما يجذب الزبائن ويسر النظر، وأصبح للبائعين نقابتهم، بعد أن تطورت تسمية شيخ السوق إلى رئيس النقابة، ثم ليلعب هذا السوق الدور البارز في الحياة السياسية مع سوق اللحامين، فكان حين تحتدم الخلافات بين أركان الحكم، يدعو صاحب النفوذ فيهم إلى إغلاق سوق الخضار واللحامين فتضرب البلد، وقد تسقط وزارة أو رئيس جمهورية، أو يتحقق مطلب كان معلقا منذ زمن، تلك إحدى ميزات السوق، يوم لم تنشأ بعد نقابات فاعلة، ويوم انتهى نظام «شيخ الكار» أو «شيخ السوق» أو «المحتسب» وبدأت جماعات السوق تتلمس أطر تنظيمها، فنشأت نقابة لبائعي الخضار، ونقابة للقصابين، كان الهدف من إنشائهما هدفا سياسيا، حيث كان السوقان من لون واحد، ولم تكن باقي الأسواق كذلك.

 
محمد صالح أبو الحمايل

اللواء

Share This