كتاب “يريفان” لجيلبير سينويه جولة في الذاكرة الأرمنية


من دون شك، يتبوأ الكاتب الفرنسي جيلبير سينويه (المولود في القاهرة العام 1947)، مكانة مميزة في المشهد الروائي، وبخاصة في خانة الرواية التاريخية، إذ عرف عبر سلسلة من الأعمال، أن يجدد هذا النوع، وأن يخرجه من «كلاسيكيته» التي طغت لفترة طويلة، والتي بدت كأنها أسست قاعدة ما يرسم من خلالها الروائيون مناخاتهم. بيد أنه عرف كيف يبتعد عن ذلك ليقدم رؤية خاصة به، جعلت منه واحدا من أبرز الذين يتعاطون هذا النوع.

ربما من الطبيعي أن تشكل مصر (التي غادرها وهو في التاسعة عشرة من عمره) المناخ الأول لرواياته وجزءا أساسيا من اهتماماته، وبخاصة التاريخ المصري القديم، الفرعوني، إذ قدم عددا من السير الروائية مثل «ابنة النيل» و«الفرعون الأخير» و«المصرية» و«أخناتون، الإله اللعين» التي صدرت بترجمة عربية عن «منشورات الجمل»، التي قدمت له أيضا الأعمال التالية: «ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان»، «اللوح الأزرق»، «أنا يسوع»، وتصدر له حاليا رواية «يريفان» (ترجمة عبد السلام المودني).

إذاً، بعد هذه الجولة المتنوعة في شعاب التاريخ وشخصياته، يصل سينويه إلى القضية الأرمنية «ليحقق» إذا جاز القول في الأسباب العميقة كما في الأسباب السياسية للمجازر التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن في بداية القرن العشرين. كذلك يحاول أن يعود إلى الأصول الحقيقية لهذه «الإبادة»، مرتكزا في ذلك على بعض التقارير الرسمية للمسؤولين الأتراك في تلك الحقبة، ليوقع كتابا تاريخيا روائيا، عن قضية لم يتطرق لها الأدب كثيرا، والتي تبقى مجهولة عند القسم الأكبر من القارئ «الغربي» بالطبع.

من مدينة «إرزوروم» التي عرفت الترحيل والقتل وعمليات الإبادة، تنطلق رواية «يريفان»، التي تصور عائلة توماسيان التي تعرف تقلبات شتى بسبب الأحداث، ومعها نتعرف بدورنا على هذه التحولات التي أصابت تلك المدينة الهادئة، التي يتحول سكانها إلى مدافعين عنها وإلى مناضلين للدفاع عن وجودهم، هذا الوجود الذي يستمر عبر الأجيال القادمة وما حملته من جروح متعددة قادتهم إلى أنواع متعددة من الجحيم: الجسدي والنفسي والأخلاقي، بسبب القتل والذل، وما تعرضوا له أيضا من اغتصاب ومنفى، إلى آخر هذه الحكاية التي قادتهم إلى المنافي المتعددة.

وبين ذلك كله، ثمة أرمينيا ما تعيش في التقاليد وفي أنواع المأكولات وبهاراتها وروائحها وعاداتها وتقاليدها التي لا تنسى، وفي وجوه من توارثوها كي يبقوها حية من جيل إلى آخر. سيرة الأجيال هذه، قد تكون النقطة التي يبحث عنها سينويه في روايته هذه، إذ إن الرواية، المكتوبة أصلا لقارئ غربي، عامرة بالأحداث التاريخية، بمعنى أن الذي لا يعرف ما حدث والذي لا يفقه شيئا عن الميراث الثقافي والتاريخي للأرمن، سيجد الكثير من المعلومات التي تقوده إلى معرفة تلك الثقافة وتنوعاتها عبر هذه الرحلة العميقة والمكثفة التي يقوم بها كاتب، عرف عنه أسلوبه اللطيف والمقبول من شريحة واسعة من القراء.

اسلوب، غالبا ما يبحث عن جمالية ما ترتكز على موسيقى شرقية (يذكر أن سينويه بدأ حياته كعازف ومؤلف موسيقي وكاتب كلمات أغانٍ، قبل أن يهجر ذلك ويتفرغ للكتابة).
«يريفان»، سيرة المنافي والرعب والجراح، لكنها أيضا سيرة الأمل والحب العميق، الذي يحرّك دواخل الجميع، بالرغم من الدموع التي ذرفت والتي أغرقت مدنا كاملة. من هنا، يأتي الكتاب بمثابة شهادة عميقة، لا يمكن أن تتركنا لامبالين حيالها.

اسكندر حبش

السفير

Share This