آرا أزاد: تتحول اللوحة مع الطوابع والأختام والإشارات إلى حدث فني

ابتكر «اللوحة المهاجرة» وأرسل أكثر من 140 لوحة بالبريد إلى العالم

آرا أزاد برسوميان فنان تشكيلي لبناني، يوزع حياته العملية بين لبنان والولايات المتحدة. وهو صاحب تجربة فريدة تندرج تحت عنوان «اللوحة المهاجرة»، بدأها منذ 17 عاماً. الفكرة قد تكون موائمة لطبيعة حياته كمهاجر هو الآخر، لكنها ملتبسة وتحتاج إلى شرح وتوضيح، أردنا لهذا الحوار معه أن يكون محطة لفهم تجربته تلك، وإن كانت تجربته الفنية لا تقتصر على تحويل اللوحة إلى حدث بريدي، فهو رسام وملون ونحات عرض أعماله في عدد من الدول. وكان آخر معارضه في بيروت أقيم من سنتين في غاليري جانين ربيز.

في البداية، من يتطلع إلى الوجوه التي ترسمها يلفته الحزن العميق الذي يلفها. هل هو الحزن الآتي من أعماق التاريخ الأرمني أم الحزن الذي تحمله من تأزم الوضع في لبنان؟

أنا من جيل شهد حرب بلاده في وقت مبكر جداً، فتحولت إلى كوابيس في طفولته، وإلى واقع ملموس في مطلع شبابه. ومع ذلك، فإن تاريخ لبنان لا يقتصر على الحرب الأهلية التي حدثت عام 1975، ومثله تاريخ الأرمن لا يقتصر على مجازر أوائل القرن الماضي فقط. أعتقد أني شهدت أبشع الحروب في بيروت، مسقط رأسي، أرجعتني بالذاكرة إلى ما سمعت عن الإبادة الجماعية للأرمن، أو تلك التي قرأتها في عيون جدتي عندما كانت تتحدث كيف فقدتْ والدتها. مع ذلك، ليس لدي مزاج واحد في فني. أنا مهتم بكل ما يتناول التعبير والانطباع المتعلقين بالحالات الإنسانية.

أنت ترسم وتصور بالألوان (PAINTING) وتنحت، لكن الخط هو الحاضر الأساسي، هو الأقوى، ويبدو كأنه هوسك الفني. كيف متّنتَ علاقتك بالرسم؟

أعيش شغفي. أنا لا أتطلع إلى اللوحة كصورة، فالصورة عموماً هي الموضوع، لكن الخط هو أثر الفنان في اللوحة، وتوالي الخطوط يكوّن اللوحة. أرى أن الخط يختصر التعبير والحركات، ولا أريد أن استخدم كلمة «إحساس»، لانها «ممنوعة» في الفن المعاصر. يريدون للفن أن يكون بلا إحساس. واحتجاجاً على ذلك حجبت في أكثر لوحاتي العين اليسرى في الوجه، لأنها تتصل بنصف الدماغ الأيمن، الذي له علاقة بالإحساس والشعور.

الوجه فتن الفنانين

ما سر تعلقك برسم الوجوه؟ تختصر الإنسان برسم وجهه. ألا ترى أن الجسد يمكن أن يحمل تعبيرية عالية أيضاً؟

بالطبع جسد الإنسان مؤثر جداً، هو معبّر وجميل. زهو يمثل الجسد كله ويعكس نِسَبَه أيضاً. هذا الجزء من الجسد فتن الفنانين على مر التاريخ.

اللوحة المهاجرة واحدة من إنجازاتك المعروفة. هل لتنقّلك بين بيروت وبوسطن وكاليفورنيا في الولايات المتحدة علاقة بهجرة اللوحة أيضاً؟ كيف ولدت الفكرة؟

طبعاً هجرتي لها علاقة ما بهجرة اللوحة. فلوحاتي وأنا واحد. لكن! الشيء الأكثر أهمية هو أن تلك اللوحة تخلق سلسلة بشرية، أي أن اللوحة في تنقلها عبر البريد تنتقل من يد إلى أخرى إلى أن تصل إلى العنوان المقرر.

منذ منتصف التسعينيات وأنا أرسل لوحاتي… عندما أرسلت اللوحة الأولى كانت الحرب البوسنية في ذروتها. اليوم نسمي الحروب «ربيعاً». لا تقف الحرب حائلاً دون إرسالي اللوحات عبر البريد. وصلت إلى أقصى الغرب، إلى الصين، ثم إلى أميركا الجنوبية وأفريقيا وأوروبا، وكذلك إلى دولة الكويت والمملكة العربية السعودية والبحرين. هذه اللوحات خلقت سلسلة علاقات تتسم بالثقة، فالكل يدارون اللوحة لأنها تحمل فناً.

كم واحدة من لوحاتك هاجرتْ، وهل تنوي متابعة الفكرة بشكل أوسع، ثم هل تدعو غيرك من الفنانين لإتباعها؟

لديّ في مجموعتي الخاصة نحو 35 لوحة عادت إليّ بعد هجرتها، بينها اللوحة الأولى. أما ما أرسلته بالبريد فبلغ حتى الآن أكثر من 140 لوحة، توزعت على مختلف أنحاء العالم.

لا أعرف ما يمكن أن يحدث في المستقبل، إلا أنني بالتأكيد أعتزم الاستمرار في التجربة. أريد أن أثبت هذه الفكرة، فكرة اللوحة المهاجرة، حتى آخر حياتي. أرى أن العمل في تنفيذ الفكرة من شأنه أن يكرس فكرة جديدة في الفن. أنا ابتكرت هذه الفكرة في العالم، لكنني أشركت فنانين آخرين معي.

قبل إنشائي استوديو في بيروت، كانت مهمتي، بصفتي مندوباً لمدرسة متحف الفنون الجميلة في بوسطن لسنوات عديدة، تحديد المواهب الاستثنائية. وهذا أعطاني فرصة لتبادل الأعمال الفنية مع طلاب موهوبين. إذ عبر البريد تلقيت عدداً من اللوحات، لكن كانوا يضعون العنوان على الجزء الخلفي للوحات، أو على الطبقة الورقية الواقية التي تلف بها اللوحة. كنت مسروراً بالتجربة. ولا أزال أحتفظ ببعض الأعمال أو بالصور والكتالوغات التي ضمتها. أقدر المعارض التي تعطي فرصة لإبراز تلك اللوحات، وتسمح بمشاركتها لأعمال فنية أخرى.

ما الصعوبات التي واجهتك في مراكز البريد؟

أحاول إرسال لوحات من العديد من مراكز البريد في الولايات المتحدة، لكن حتى الآن أرسلت 90 في المئة من الأعمال من بريد ولاية ماساتشوستس. ومن كاليفورنيا، حيث أعيش فترة من السنة، أرسلت من ثلاثة مكاتب للبريد، وفي كل مرة كانت تواجهني مشكلات، وأدخل في شرح طويل مع مدراء المراكز، بغية إقناعهم بالفكرة. كل اللوحات التي أرسلتها وصلت تقريباً باستثناء واحدة، اضطررت من أجلها إلى أن أذهب إلى قرية تدعى «لو كانيه» في فرنسا، لحل المشكلة، فوجدت أنها أدرجت على أنها عمل فني مسروق.

هل تعتقد أن الفكرة يمكن أن تيسّر وصول اللوحة الأصلية، أم أن وراء هذه الإجراءات ما يضاف إلى الأصل، أي الأختام والطوابع والكتابات التي تضاف إلى اللوحة فتجعلها مختلفة؟

هي لوحة تتطور، من خلال رحلتها، فتضاف إليها الطوابع والإشارات، لتصبح جزءاً منها. أي تتحول مع وصولها إلى وجهتها من لوحة عادية إلى حدث فني. أنا من يطلب من موظفي البريد أن يضعوا الأختام والطوابع على وجه اللوحة لا على قفاها، لتتابع الأمور نفسها في مراكز أخرى تصل إليها اللوحة وترسل منها مجدداً. وهكذا تتحول اللوحة من أداء فني إلى حدث فني عندما تصل إلى وجهتها. تصبح اللوحة أشبه بوجوه الناس تحمل آثار المكان والزمان. لوحات كثيرة أرسلتها بالبريد إلى غاليريات، وبيعت كلوحات مهاجرة، أو إلى أشخاص فدفعوا ثمنها، أو إلى عناوين أستردها منها أنا شخصياً أو عن طريق أصدقاء.

هي مغامرة، في كل الحالات، هل تستمر فيها أم أنك يمكن أن تتوقف إذا واجهتك صعاب كثيرة؟
يمكن أن أخسر لوحات، لكن المهم ألا أخسر كوني فناناً. في 11 أيلول 2001، كان من الضروري أن أرسل لوحة إلى قائد أوركسترا اتفقت معه على أن نتبادل لحناً بلوحة. وعندما حدث الانفجار الكبير، ذهبت في اليوم التالي إلى البريد لأرسل اللوحة. تفاجأ بي موظف البريد، وسألني لماذا تصر على ذلك اليوم، لماذا لا تنتظر؟ أجبته: كي أثبت أنني حتى في ظروف صعبة كهذه لا أتخلى عن مهمتي كفنان. خصوصاً أنني قطعت عهداً مع قائد الأوركسترا لا أريد أن أخلف به. ثم إنني أعتبر مهمتي رسالة إنسانية يجب ألا تتوقف مهما كانت الظروف.

أجرى الحوار: أحمد بزون

السفير

Share This