دير سيدة بزمار 270 سنة من بينيديكتوس الـ14 الى بينيديكتوس الـ16

يرتفع 930 مترا عن سطح البحر ويبعد 30 كيلومترا عن بيروت. احتضن شعبا كان من أول الشعوب التي اعتنقت الديانة المسيحية، وهو الشعب الارمني، على يد القديس غريغوريوس المنور العام 301. إنه دير سيدة بزمار، في كسروان، والمقر الصيفي لبطريركية الارمن الكاثوليك التاريخية، التي أسسها المثلث الرحمات ابراهام بطرس الاول أرزيغيان في العام 1740، على الرغم من كل ما تكبده من صنوف التنكيل والتعذيب في سجون الامبراطورية العثمانية وفي المنفى.

استقطب هذا الدير منذ تأسيسه الشباب الارمني المتآلف مع اللغة العربية أكثر مما استهواهم قطبا الجماعة الآخران: الرهبنة الارمنية المختيارية في فيينا والمعهد الارمني في روما. واليوم يستعد هذا الدير العريق والتاريخي لاستقبال خليفة بطرس على الارض، الحبر الاعظم البابا بينيديكتوس السادس عشر اليوم السبت.

وتصادف هذه الزيارة مناسبتين مهمتين يحتفل بهما الدير، هما ذكرى مرور 270 سنة على تأسيس الكرسي البطريركي وتثبيته على يد البابا بينيديكتوس الرابع عشر، وذكرى مرور 500 عام على ظهور أول كتاب صلاة مطبوع باللغة الارمنية بعنوان “أورباتا كيرك”، أي كتاب الجمعة، على يد الراهب هاغوب ميغابارد، الذي خلد ذكراه من خلال منحوتة برونزية تمثله بارتفاع 1,70 متر تصوره يجثو على ركبته، حاملا بين يديه الكتاب، وسيقوم قداسة البابا بازاحة الستارة عنه اليوم السبت.

وعن أهمية زيارة البابا للبنان عموما وللدير خصوصا، يقول النائب البطريركي العام للأرمن الكاثوليك المطران جان تيروز: “ان قداسة البابا، بصفته أبا للجميع، سيزور كل أبنائه، ونصيب الطائفة الارمنية الكاثوليكية هو مشاركة قداسة الحبر الاعظم في طعام الغداء الذي سيقام على شرفه، بدعوة من الامانة العامة لمجلس البطاركة والاساقفة في لبنان، والذي سيشارك فيه كل البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان في اكليريكية دير بزمار”.

واضاف: “هذه الزيارة تشجعنا كثيرا وتشدنا الى المحافظة على أرضنا والتمسك بوجودنا في هذا البلد، وفي منطقة الشرق ايضا، ولقد اختير لبنان لتوقيع الارشاد الرسولي لانه البلد الاكثر أمانا، وفيه أكبر نسبة من الوجود المسيحي مقارنة مع بقية الدول العربية”. ورأى “أن قداسة الحبر الاعظم على خطى مار بطرس وبولس، يتفقد أبناء كنيسته ويحل بينهم، ليكون على اطلاع أكبر على وضعهم وواقعهم. وما هذه الزيارة الا علامة أبوية، للتأكيد أننا لسنا وحدنا، وان أبانا موجود دائما، كذلك فان الكنيسة جمعاء الى جانبنا، وهما يرفعان الصلاة لكي تتحول عذابات مسيحيي الشرق والعالم ثمرة انتشار البشارة بالانجيل، البشارة بالسلام والمحبة والوحدة”.

وتابع تيروز: “حمل قداسته شعار “سلامي أعطيكم” ليمنحنا سلام الرب يسوع. هو الذي يذكر لبنان والشرق دائما في صلواته، سواء في التبشير الملائكي كل يوم أربعاء او في قداديس الاحد. ونحن المؤمنين، علينا أن نفهم جيدا معنى هذه الزيارة، علمانيين او كهنة، ويمكننا تفعيلها اذا أردنا لما هو الخير والحب والسلام. في المقابل، هل يمكن تجاهل الامر والاستسلام للضعف والحقد والكراهية؟ ان أهمية هذه الزيارة روحية بامتياز، لانها تؤكد للمسيحيين أبناء لبنان انهم جميعا أبناء الكنيسة الجامعة وأبناء هذه العائلة الكبيرة في بلد هو مهد المسيح”.

وتمنى في ختام حديثه أن يزور البابا كنيسة سيدة الخلاص عند مدخل الدير، “لأنها أساس هذا الدير. من خلال نعمها الحاصلة بواسطة سيدة بزمار، أو سيدة الصاعقة، كما سماها أبناء البلدة يوم ضربت الصاعقة الكنيسة العام 1802، وسقطت على العرش البطريركي حيث كانت صورة العذراء، من دون الحاق الضرر بالعرش، ولا كسر زجاج لوحة العذراء التي أحضرها معه البطريرك ابراهام بطرس الاول أرزيتا من روما، وهي للعذراء مريم سيدة الآلام.
ونحت البلاطة القديمة لكنيسة الدير، والتي بناها البطريرك ميشال بطرس الثالث في العام 1771، والمزينة جدرانها بلوحات المدرسة الايطالية للقرن الثامن عشر، يرقد رفات بطاركة أجلاء ورؤساء معهد مبشرين، وتقع هذه الكنيسة التي تحمل اسم سيدة الانتقال في وسط الدير، وقربها كابيلا سيدة بزمار العجائبية.

ونظرا الى ما يغتني به هذا الدير من مخطوطات وأدوات استخدمها الكهنة والرهبان، تحول قسم منه متحفا كبيرا، تآلفت فيه أدوات كثيرة تعود الى حقب تاريخية متنوعة، من بينها أوان كنسية، مجموعة للعملات القديمة، ومخطوطات أرمنية عربية، سريانية وغيرها، بعضها نادر وفريد ووحيد يشمل القرون الثلاثة الاخيرة للتاريخ الارمني، وله علاقة بالشرق ولبنان.
ومن مظاهر غنى هذا الدير العريق، مكتبته التي تضم أكثر من 1700 مخطوطة و90 الف كتاب باللغات الارمنية واللاتينية اليونانية. ويضم الدير متحف الطوباوي الشهيد البطريرك اغناطيوس مالويان الذي فضل الاستشهاد على التنكر لدينه المسيحي.
الطوباوي البطريرك أغناطيوس مالويان

ولد شكرالله ملكون مالويان في بيت مسيحي في بلدة مادين شمالي تركيا في العام 1869، من سلاطين اسطنبول، وتدرج في التنشئة المسيحية في دير سيدة بزمار البطريركي وعرف باسم اغناطيوس مالويان.
توفي والده قبل ان يرسم كاهنا، ورحلت والدته فريدة من ماردين وقتلت بعد مرور شهر على استشهاده، ولم يعرف مصير شقيقته الوحيدة حتى اليوم. وأما اخوته الستة فمنهم من استشهد ومنهم من تمكن من النفاذ من قبضة السلطة العثمانية.

في الرابعة عشرة من عمره، العام 1883، ارسله المطران ملكون نازاريان الى دير سيدة بزمار في لبنان، الذي أصبح المقر الرئيسي للرهبنة الارمنية الكاثوليكية العام 1749 ومقرا للبطريركية، وقد جعل شكرالله من السيدة العذراء شفيعة الدير، أما سماوية له، هو الذي أصابته الامراض في سن مبكرة، مما اضطره الى ترك بزمار لاسباب صحية في العام 1888، والعودة الى موطنه. وبعد تعافيه قصد بزمار مجددا ليتابع دراسة اللاهوت والفلسفة. وسيم كاهنا في الدير يوم عيد الرب من العام 1896، أي في السادس من شهر آب، وصار اسمه اغناطيوس، وفي العام 1911 دعي مالويان الى السينودس الارمني الكاثوليكي المنعقد في روما، حيث سيم أسقفا بوضع يد البطريرك بولس بطرس الثالث عشر طرظيان، واستقبلت بزمار الاسقف الشاب استقبالا حارا. وفي 1912 وصل المطران مالويان الى كرسيه في ماردين، وعمل على تحسين مستوى مدرسة الطائفة على الصعيدين العلمي والديني، وبث في تلامذتها روح المثابرة على الدروس والتفاني، وكانت ابرشيته من احدى اهم الابرشيات الارمنية الكاثوليكية في الشرق، وفاق عدد التابعين لها الـ 22 ألفاً.

سهر مالويان على حسن قيام كهنته بأعباء رسالته السامية فحضهم على التأمل الصباحي وممارسة بعض الاماتات تكفيراً عن نقائصهم وضعفهم في الشهادة للمسيح. وفي شهر حزيران 1915، ألقت السلطات العثمانية القبض على البطريرك مالويان وعدد كبير من مسيحيي مدينة ماردين، بتهمة اخفاء الاسلحة في الكنيسة. وبعد التنكيل والتعذيب، رفض مالويان التنكر لدينه، فقتل في 11 حزيران 1915، ومعه 417 كاهناً، بعدما أعطى الغفران للمجموعة التي رافقته، وقدّس خبزاً ووزعه عليهم، وكان في السادسة والاربعين من عمره في العام الرابع لولايته الاسقفية.

تاريخ في دير

يشكل دير بزمار ممر عقد لافت تتوزع على جانبه ست غرف من جهة، وخزائن في الجدران من جهة اخرى، كان مهد المركز البطريركي، وبوشر بناءؤه في العام 1749 في عهد البطريرك يعقوب بطرس الثاني الذي عينه البطريرك ارزيغيان خلفاً له، وخصّه للسيدة العذراء التي اصبحت شفيعة الدير. ووفقاً لرغبة البطريرك ارزيغيان، شيدت كنيسة في العام 1771، كذلك اسست اكليريكيته على يد البطريرك غريغوريوس بطرس السادس (1812 – 1840) الذي انتهز فرصة حرية الدين المعطاة للارمن الكاثوليك وشرع في بناء الكنائس والمدارس في رعايا البطريركية. واستمرت اعمال البناء في دير بزمار واتسعت، ليضاف اليه جناح جديد.

وتكمن قيمة مخطوطات الدير بأنها ترقى الى السنة 1500، وأغلبها مزدان برسوم رائعة وكتابة ثمينة تحتوي على مجلدات شرقية وغربية ووثائق تاريخية تحكي تاريخ الشرق الاوسط ولبنان في بعض من جوانبه.
وثمة علاقة تاريخية تربط بين هذا الدير والبطريركية المارونية، تجسدت في اكثر من محطة، وبخاصة يوم طلب كهنة الدير من البطريركية ممثلة بالبطريرك الياس الحويك انقاذ 400 يتيم من كيليكيا يجوبون البحر على مركب، ولم يجدوا من يفتح لهم ذراعيه. ومنذ تأسيس البطريركية توطدت العلاقة وروابط المودة والتعاطف بين الموارنة والارمن، وتجلت هذه الثقة ايضاً بحضور المطران ارزيغيان جلسات السينودس اللبناني المنعقد السنة 1736 والمشاركة في توقيع اعماله.
ويشار الى ان اول متصرف في لبنان كان من طائفة الارمن الكاثوليك، وكذلك الاخير، وهما قره بيت ارتني داوود باشا (1861 – 1868) واوهانيس قيومجيان باشا (1912 – 1915)، وكانا يؤمان دير بزمار دائماً لاستشارة آبائه.
ومعلوم ان ابراهام ارزيغيان هو من وضع حجر الزاوية لتجديد كرسي بطريركية الارمن الكاثوليك، وبسبب تعلقه بالكثلكة، تعرض للاستبعاد حتى في كنيسته، فطردته السلطات العثمانية وحكم عليه بالاشغال الشاقة ونفي الى جزيرة ارواد. وبعد حصوله على اذن البابا بينيديكتوس الرابع عشر في العام 1742، قلده الحبر الاعظم الباليوم، وانصرف منذ ذلك الحين بكل قواه الى تدعيم ركائز بطريركيته في لبنان، بعدما اقفلت جميع مرافئ الامبراطورية في وجهه بسبب اعتراف روما الرسمي بانتخابه بطريركاً.

واكد المونسنيور باتريك موراديان، النائب البطريركي لجمعية كهنة دير بزمار ورئيس الدير، “أن زيارة قداسة البابا أنصفت من جميع المسيحيين، وكان لكل كنيسة نصيبها منها، فنظرة الأب، ونحن في دير بزمار
اعتبرنا ان الغداء على شرف قداسته ستكون بركته كبيرة، وبخاصة انه يتزامن مع مناسبتين مهمتين للدير هما 270 سنة على تأسيسه ومرور 500 عام على ظهور اول كتاب باللغة الارمنية مطبوع، هو كتاب الجمعة 1512 للراهب هاغوب ميغابارت”.
وامل موراديان “ان تكون الزيارة بداية لتغيير ضمن البيت الواحد، بدءاً بالكنيسة الكاثوليكية، وصولاً الى سائر الكنائس”، مؤكداً ضرورة ايجاد خطوات عملية على الارض بعد الانتهاء من الزيارة، وتفعيلها على كل الصعد لتساهم في تثبيت المسيحيين في ارضهم”.

شدد على ضرورة وضع الاصبع على الجرح “لايجاد الدواء الناجع، وهو وحدة يسوع المسيح، ومعه نبدأ بترتيب امور بيتنا الداخلي”، مؤكداً “ان البابا يعلم جيداً بأوضاع الكنيسة ويصلي من اجلها دائماً”.
وختم: “على الرغم من كل شيء، علينا العودة الى ربنا لان كينستنا قوية وابواب الجحيم لن تقوى عليها”.

النهار

Share This