يوهانـس ليبسـوس صديـق الأرمن
(الذكرى 83 لوفاته)

OhanesLepsius

ما هو سر العلاقة التي تربط يوهانس ليبسوس بالأرمن ولماذا سمي صديق الأرمن؟ البداية كانت في شخصية الأب كارل ريتشارد ليبسوس 1810 – 1889 المستشرق المتخصص بالدراسات المصرية.

ولد يوهانس ليبسوس في 15 كانون الأول عام 1858 في برلين. درس الفلسفة واللاهوت في القدس في كنيسة إنجيلية ألمانية ، خدم الكنيسة بصفته كاهناً. تعرف هناك على ماركريد تسيللير، وتزوج منها وانتقل الى ألمانيا ليعيش في قرية فريزدورف في منطقة هارتس. أنشأ هناك مشغلاً لحياكة السجاد حيث عملن أكثر من 40 أرملة وصبية. كان حينها يهتم دائماً بالشرق وشعوبه وخاصة بالأرمن.

وفي عام 1896 ترأس الإرسالية “الألمانية – الشرقية” وتوجه الى تركيا لمساعدة الأرمن الذين يتعرضون للإبادة الجماعية، وأثناء ذلك درس وضع الأرمن السيء وبنى هناك مستشفيات ومدارس، وعند عودته الى ألمانيا وفي التقرير الذي قدمه للإرسالية قام ليبسوس بنشر مقالته الصارخة: “الحقيقة في أرمينيا”، حيث كان لها صدى كبيراً في الأوساط الألمانية.

يحتوي أرشيف الإرسالية في برلين على الكثير من الوثائق التي تثبت بأن ليبسوس قام بأعمال مساعدة الأرمن وذلك في تخصيص مساعدات مادية وتأمين كميات كبيرة من ملابس وأدوية ومواد غذائية للأرمن المنكوبين من المجازر.

بعدها انتقل الى برلين مع زوجته المريضة ماركريت وأولاده الستة، حيث استلم منصب سكرتير “مؤسسة إعانة الأرمن”.

ليبسوس معروف بحبه للإنسانية وأعماله الأدبية واللاهوتية والسياسية. لقد كافح وناضل من أجل شعب له حضارة وثقافة واسعة. ناضل ضد أول إبادة حدثت في أوائل القرن العشرين. إن حياة ليبسوس المحب للإنسان والدكتور في الفلسفة واللاهوت، مرتبطة بالأرمن وتاريخهم الحديث، فقد ترك لهم ثروة هائلة من الأرشيف.

كتابه: “أرمينيا وأوروبا”

لخص ليبسوس نتيجة سفره الى الإمبراطورية العثمانية وتعرفه على وضع الأرمن السيء والمحزن في كتابه “أرمينيا وأوروبا” الذي نشره عام 1896 حيث ضم سلسلة مقالاته “الحقيقة في أرمينيا” التي تم نشرها في الصحافة الألمانية.

إن كتابه “أرمينيا وأوروبا” بمصادره الموثوقة يبين سياسة تركيا في إبادة الأرمن والذنوب التي اقترفتها في نهاية القرن التاسع عشر. وان المعطيات الأكيدة والوثائق الرسمية التي أتت في الكتاب حول إبادة الأرمن أثارت الجميع في أوروبا. وترجم الكتاب الى الانكليزية والفرنسية والروسية وطبع عدة مرات.

لقد فسر ليبسوس على أساس الوثائق الرسمية تلك كيفية حدوث المجازر في جميع الولايات الأرمنية في تركيا وكذلك في ولايات درابيزون وحلب وأضنة وأنقرة.

حيث قدم في نهايته ملحقاً بقائمة بعدد الأرمن المضطهدين والخسائر المادية بتفاصيلها. يعتبر هذا كتاب، بحقائقه التي لا تقبل الجدال، اتهاماً لأوروبا وللحكومات المذنبة في حق الشعوب المضطهدة كالأرمن.

وبهدف مساعدة الأيتام والأرامل نقل مشغل السجاد الى كيليكيا وأورفا، حيث وجد لهم عملاً في ذلك المشغل.

الجمعية الألمانية – الأرمنية

لا يمكن للإبادة الجماعية التي حدثت للأرمن في فترة الدولة العثمانية أن تغيب عن أنظار العالم والإنسانية. بدأ المفكرون من بلدان مختلفة بالدفاع عن الأرامل والأيتام الأرمن، فتشكلت جمعيتان في ألمانيا لمساعدة السكان الأرمن. الأولى بمبادرة من ايرنيست لوهمان والثانية كانت برئاسة ليبسوس.

كانت أعمال الدفاع عن الأرمن تهدف الى خلق جمعية ألمانية – أرمنية تهتم بأمور عديدة لمساعدة الأرمن.

وفي عام 1913 في برلين عقدت مشاورات وتم إقرار نداء لخلق الجمعية الألمانية – الارمنية تضم ممثلين من مستويات مختلفة، وقع عليه ليبسوس وبروفيسور ماركفارت و د. رورباخ والشاعر الأرمني أفيديك ايساهاكيان وغيرهم… وجاء في النص أن الجمعية لها طابع ثقافي بحت.

تتلخص أهداف الجمعية الألمانية – الأرمنية في نشر تقييم عادل عن الشعب الأرمني في ألمانيا وعن الشعب الالماني في أرمينيا، والسعي لتطوير ثقافة الشعب الأرمني في العالم وتطوير العلاقات الثقافية الألمانية – الأرمنية. وكذلك تزويد الصحافة والاعلام الالماني بمعلومات صحيحة عن وضع أرمينيا، وترجمة أعمال أدبية أرمنية الى اللغة الألمانية والعكس ونشاطات ثقافية أخرى.

انتخب ليبسوس رئيساً لهذه الجمعية. وفي 9 تشرين الاول، عام 1915 ألقى ليبسوس خطاباً في جلسة الجمعية ومن ثم أرسل أعضاء الجمعية الرسالة تلك الى الحكومة الألمانية يرجون فيها إيقاف التهجير والمجازر الجماعية المرتكبة بحق الأرمن، لكن الرد الدبلوماسي لم يعرقل إبادة الأرمن.

وهكذا بقيت طلبات الجمعية المتكررة الى الحكومة الألمانية لإيقاف الإبادة الارمنية دون رد.

من أعمال الجمعية الهامة أيضاً أنها تقدمت بطلب الى سكرتير وزارة الخارجية الألمانية لنشر مواد ووثائق رسمية حول المسألة الأرمنية حيث يبرر ليبسوس انه وبذلك تكون ألمانيا قد خففت من ذنبها تجاه المجازر الارمنية. وبذلك يقوم ليبسوس بدراسة الوثائق وعلى أساسها يصدر الكتاب المعروف “ألمانيا وأرمينيا 1914-1918” الذي طبع أول مرة في عام 1919 في بودستام. وهو يضم 500 وثيقة منها وثائق رسمية دبلوماسية وشهادات لرجال دين وعسكريين وقناصل ألمان عايشوا الأحداث.

تكمن قيمة الكتاب في أنه يقدم حقائق تاريخية تأتي لتصحح جهود محرفي التاريخ. في هذا الكتاب يقسم ليبسوس تاريخ الإبادة الى أربع مراحل ويحلل خطط تركيا الفتاة في تهجير وإبادة الأرمن.

وخلال سرده للوثائق الألمانية الدبلوماسية يتطرق ليبسوس الى عمليات الدفاع عن النفس في أرمينيا الغربية في منطقة فان.

ويذكر في الكتاب أيضاً عن مجازر أرزروم وتهجير الأرمن منها وذلك بإبراز وثائق قنصل ألمانيا وتقاريره. ويتحدث بإسهاب كذلك عن مجازر أورفة وتهجير الأرمن.

في هذا الكتاب يشير ليبسوس الى أن جمال باشا كان المخطط والمنظم المحتال للمجازر الأرمنية ويبين سياسته في قتل الأرمن وإبادتهم.

من بين الوثائق الدبلوماسية الهامة وثائق روسلر القنصل في حلب الذي كان له دوراً هاماً والذي كتب في مذكرة انه يرغب بنقل حقيقة الوضع كما هو وليس كما تقدمه بعض الصحافة الألمانية المتأثرة بالسلطات التركية التي حرفت الحقائق التاريخية.

ليبسوس والمجازر الأرمنية

خلال فترة الإبادة في شهر تموز 1915، أنجز ليبسوس خطوة شجاعة وجريئة، حين ذهب من ألمانيا الى تركيا وبذل جهوداً جبارة ليلتقي بأنور باشا في استنبول.

إن الحوار الذي دار بين ليبسوس المحب للإنسانية والمحب للأرمن مع المجرم الكبير و الكاره للأرمن دام طويلاً، وهو مصور بشكل جيد في رواية “الأيام الأربعون لجبل موسى” التي كتبها الروائي النمساوي “فرانس فيرفل” بعد معايشته لأحداث المنطقة.

في بداية الحوار يقدم ليبسوس نفسه للباشا كرئيس للإرسالية وأن الحكومة الألمانية مهتمةَ بهذا اللقاء لأنه سوف يقدم تقريراً عن القضية الأرمنية عند عودته. ويبدأ الجدال، فيقول ليبسوس: هل يعقل بأن تنفي بتوقيع واحد شعباً مؤلفاً من مفكرين ومزارعين وعمال ومدنيين الى صحراء حيث يقتلون ويموتون من الجوع والعطش والمرض أو يصابون بالجنون . ويبرر أنور باشا أنه بذلك يحرر أمته من العدو الداخلي (و يعني بذلك الأرمن القاطنين في أرمينيا الغربية).

وبهدف إيقاف تهجير الأرمن وإبادتهم، يخفف ليبسوس من حدة لهجته، يرجوه ويقترح لتقديم خدماته في التنسيق وتنظيم القوافل الأرمنية المهجرة، حتى أنه يقترح أن يساهم مادياً أيضاً. لكن القاتل يرفض ويطلب بحقارة بأن يأتيه بالأموال التي جمعها إليه شخصياً.

وبعد عدة أشهر يظهر ليبسوس مرة أخرى في استنبول وكانت حينها قد بدأت المعركة البطولية في جبل موسى. يلتقي هناك برجال الدين الأرمن منهم البطريرك زافين ويقول له: عظيم، لو وجدت ثلاثة جبال موسى لكانت الأمور اختلفت. يا ليتني كنت على قمة جبل موسى.

وخلال بقائه في المنطقة يلتقي برجال الدين الأرمن ليعرض عليهم مساعدته، وعندما كان يقال له بأنه صديق الأرمن كان يجيب بافتخار: أنا أكثر من أن أكون صديقاً للأرمن فقد وهبت حياتي للشعب الأرمني.

تشكل أعماله الكتابية رصيداً ثميناً في تاريخ الأرمن فقد أصدر في عام 1916 كتابه الجريء بعنوان: تقرير عن أوضاع الشعب الأرمني في تركيا. وأعادت الجمعية طباعته عام 1919 بعنوان: يوم ممات الشعب الأرمني. وقد ساعد الكتاب في تكوين فكرة وصورة صحيحة عن سيل الدماء الذي يحدث في أرمينيا الغربية.

وفي عام 1918 قام بجمع مجموعة وثائق بعنوان “المسألة الأرمنية”، حيث بين كل الجوانب الأساسية للمسألة الأرمنية و منحى الحلول.

محاكمة برلين

في 2-3 حزيران 1921 في محكمة برلين تمت محاكمة الطالب الأرمني سوغومون تيهليريان المتهم بقتل طلعت باشا. أثناء المحاكمة يقف ليبسوس ليدافع عن كرامة الأرمن ويلقي الدكتور والكاتب البروتستانتي ذو 62 عاماً خطابه المشهور.

فقد ذكر في خطابه أن لجنة تركيا الفتاة هي وراء تهجير الأرمن وخاصة طلعت باشا وزير الداخلية وأنور باشا وزير الحربية. فحسب معطيات ليبسوس فقد تم تهجير 1.400.000 أرمني من أصل 1.850.000.

وفسر ليبسوس أن كل شيء حدث وفق الأمر والحكم الذي أصدره طلعت باشا بتهجير الأرمن. لان التهجير يعني النفي. وان 90% من المهجرين قتلوا على الطريق، عدا النساء التي بيعت والباقي مات من الجوع والعطش. اما الذين وصلوا الى الصحراء فقد ذبحوا.

كان لخطابه أهمية كبيرة في تقديم طلعت كمجرم وتبرئة تهليريان. ولهذا السبب سميت المحاكمة في الصحافة الألمانية آنذاك على أنها محاكمة طلعت باشا، حيث تحولت محاكمة الطالب الأرمني الى قضية ضد منظمي الإبادة الجماعية الأرمنية.

لقد اهتم ليبسوس بالقضية الأرمنية أكثر من 30 سنة وظل يدافع عن الشعب الأرمني دون أن يكون له مصالح اخرى.

وفي عام 1925 دخل مشفى في ايطاليا في مدينة ميران، حيث توفي في عام 1926 ودفن هناك. لكن بطلب من متحف ومعهد الإبادة في يريفان تم نقل حفنة من رفاته لتسكن بجانب ضريح شهداء المجازر والإبادة في يريفان.

الجدير ذكره أنه وبمناسبة مرور 140 عاماً على ميلاد المفكر الألماني ليبسوس أقيمت العديد من النشاطات الثقافية في أرمينيا وأنحاء العالم. كما نشر معهد ومتحف الإبادة الأرمنية في يريفان العديد من الكتب مهداة لصديق الأرمن يوهانس ليبسوس. فقد أصدر المؤرخ الأرمني ستيبان ستيبانيان كتابين: “ليبسوس وأرمينيا” و “يوهانس ليبسوس والشعب الأرمني”، حيث جمع فيهما مقالات عديدة كتبت عن المفكر وأعماله الإنسانية.

كما أنتجت المؤسسة الثقافية الألمانية العام الماضي فيلماً وثائقياً بعنوان (الرماد والعنقاء) مهداة لحياة وأعمال ليبسوس، من إخراج ميرلين سولاخان. ويصور الفيلم مجريات الأحداث خلال السوقيات التي تمت على الصحراء السورية، ويتطرق الى حياة الأرمن في تركيا في الوقت الحالي. حيث يرمز الرماد الى ضحايا الإبادة والعنقاء الى أحفاد الأرمن الأيتام الذين يشكاون بطولة الفيلم. وقد شارك الفيلم في مهرجان (المشمش الذهبي في أرمينيا).

كان ليبسوس يوقظ ضمير الإنسانية ضد الحكومة التركية. وجاءت أحاديثه الشفهية والكتابية لتساهم بشكل فعال في خلق رأي عام عادل حول الوضع السيء والصعب الذي عانى منه الأرمن في أرمينيا الغربية. وقد لعب دوراً ايجابياً في تقديم وضعهم بصورته الحقيقية الى الرأي العام.

سيبقى ليبسوس المدافع عن القضية الأرمنية وصديق الأرمن، هو وجميع أصدقاء الأرمن خالدين في ذاكرة الشعب الأرمني جيل بعد جيل.

د. نورا أريسـيان

Share This