نعيم اليافي موسوعي تناول النهضة ومجازر الأرمن فكان رائداً

المعلم هو الوحيد القادر على التشبث بالذاكرة إيجاباً أو سلباً، فهو الذي يسهم في التكوين الفكري لواحدنا، نغادر مقاعد الدراسة متفقين معه أو مختلفين، لكننا نتذكره أبداً في تفصيلاته وتوجيهاته وعلمه، فهو أولاً ذاك الشخص الذي نحبه، وبعدها الأستاذ الذي قد يكون غنياً فيسعى إلى ملئنا بالعلم وموسوعيته، وأخيراً هو الإنسان الذي قد تستمر معه علاقتنا طويلاً طويلاً، فيمنحنا ما لم تسمح به سنوات الدراسة وساعاتها القليلة نسبياً. من هذه الطبقة المهمة في حياتنا الدراسية والثقافية الأستاذ الدكتور الراحل عنا منذ سنوات نعيم اليافي.

الصورة الأولى

تشكلت الصورة الأولى لنعيم اليافي من خلال مشاركاته العلمية في الندوات التلفزيونية، حين كان التلفزيون مهتماً بالشأن الثقافي، فكانت مشاركاته مميزة إلى جانب قريبه الموسوعي الجليل عبد الكريم اليافي، وكان نعيم متميزاً في اصطحابه لمصادره ومراجعه المعتمدة في الحوار، يضعها أمامه دون أن يمد يده إليها، فهي حاضرة في ذهنه ووجدانه وذاكرته، لكنه إذا احتاج إلى دليل نصي كان يقرأ منها، فيقدم الحجة، ويدحض الرأي المخالف. كما كان المواظبون على حضور المناقشات العلمية يشهدون على المشاركة الدائمة والفعّالة للدكتور اليافي، الذي كان بسبب موسوعيته قاسماً مشتركاً في أغلبية المناقشات العلمية في بداية إنشاء قسم الدراسات العليا بجامعة دمشق ثم بجامعة حلب، وبقية الجامعات السورية..
كانت مشاركة الدكتور اليافي مهمة للطالب والجمهور، وخاصة أن أغلبية الحضور من طلبة الدراسات العليا الذين يستفيدون من الملاحظات لتلافيها في رسائلهم وأطروحاتهم.. بعجالة يقف الدكتور نعيم عند الشكل والإخراج، ليدخل بعمق ونعومة وحدية وهدوء في المنهج والفكر والمحتوى، وأزعم أنه من القلة الذين كانوا يولون الغايات والفكر اهتمامهم.

قبل الجامعة عرفناه في ندواته ومشاركاته وكتاباته، وفي سنوات الجامعة بدأنا نحضر المناقشات العلمية، ونتأثر بالدكتور نعيم وآرائه وتوجيهاته، وكنا نتوق للجلوس بين يدي الأستاذ الأشيب الأنيق الذي يمشي بهدوء، تفوح منه رائحة العطر المميز، الذي يجمع بين سمتي الوقار والود بشكل نادر. ولكن الانتظار طال كثيراً حتى السنة الرابعة في الجامعة ليدرسنا الأدب العربي الحديث دون اكتفاء بحدود منهج أو كتاب مقرر.

الأستذة والهيئة النادرة

انتظرنا الدكتور نعيم أمام مكتبه في قسم اللغة العربية، وكنا نظن أنه لن يأتي بسبب سكنه في حلب، ومن النافذة رأيناه قادماً بهدوء لا مثيل له، يرقب ساعته الفاخرة الصفراء ويحمل حقيبة ينوء بها، وعلى يده الأخرى عدد من الكتب.. يدخل مكتبه، ونبقى نرقبه، يأتيه طلبة الدراسات العليا الذين يشرف عليهم.. يخرج الملفات الشفافة، يعطيهم الأوراق والملاحظات، ويستمهل بعضهم إلى ما بعد انتهاء محاضرة طلاب السنة الرابع، لأن الملاحظات بحاجة إلى نقاش أطول.. ثم يستخرج من حقيبته الكتب، ويوزعها على طلبته في الدراسات العليا، هذا كتاب يتعلق بموضوعك نُشر في الجزائر، وآخر في العراق، وثالث في المغرب، ورابع في القاهرة أو الاسكندرية، ويسأل طالبه إن كان قد اطلع عليه من قبل.. أحضر الدكتور نعيم الكتب من مكتبته الخاصة من حلب، ليعيرها للطالب حتى يتلافى نقصاً أو نقداً..!
أقف عند هذه النقطة لما لها من أهمية، فطلبته الذين كان يشرف عليهم أعرفهم بالاسم، وأغلب ما يتحدثون به في جلساتهم أو مناقشاتهم بعد أن صاروا دكاترة، أو في محاضراتهم مدين للدكتور نعيم، ومع ذلك لم أجد منهم من ينبري لدراسته، ودراسة طروحاته وإنصافه، وخاصة في مجال الشعر الحديث، وللدكتور اليافي دراسة غاية في الأهمية عنه، وفي مجال القصة والرواية. سنوات مرت على وفاة الدكتور الجليل، ولم أجد من هؤلاء الذين حمل لهم كتبه الخاصة، وزودهم بملاحظاته، وتبناهم بعجرهم وبجرهم من ينصف أستاذه علمياً أو إنسانياً، ولم يذكر أحدهم لأستاذه عناء حمل المصادر والمراجع النادرة له من مسافات بعيدة، ولم يتذكر أحدهم استضافة الدكتور اليافي له في مقر إقامته بدمشق في فندق أمية غالباً..! فهل أراد كثيرون من طلابه أن ينهوا مرحلتهم المرتبطة بالتلمذة بعد أن صاروا أساتذة؟ وهل أرادوا تقمص شخصية الأستاذ وتقليدها، وشتان ما بين الأصل والتقليد- بعيداً عن الذاكرة؟ وهل بقيت لدى بعضهم كتب للدكتور أرادوا التبرؤ من علاقتهم به حتى لا يعيدوها؟

إنه لا يريدها، والسيدة أم حسن الفاضلة لا تسعى لاستعادة ما تناثر، وهي كما الدكتور نعيم غاية في اللطف والكرم، وأذكر أن الدكتور نعيم هو الوحيد الذي تعلمت منه إكرام الطالب، فما من طالب سأله عن كتاب من كتبه، إلا وجاءه الجواب:

الأسبوع القادم تأخذه، وفعلاً يقدمه له مع عبارة إهداء، ولا يدله على مكان بيعه، هذا إذا كان متوفراً في الأسواق، ولو راجع طلابه رفوف مكتباتهم لوجدوا فيها عدداً من كتبه.. حتى الكتاب التذكاري التكريمي الذي صدر عام 2002 طبع بجهود خاصة، وبمشاركة من أصدقاء مقربين من الدكتور اليافي، وغاب أولئك الذين أسبغ عليهم الدكتور أفضاله غير المحدودة!!

الإعلام والطلبة

أسست جريدة (الأسبوع الأدبي) في اتحاد الكتاب العرب، وكان رئيس تحريرها الروائي عبد النبي حجازي، وأريد لهذه الجريدة أن تصبح منبراً ثقافياً وأدبياً يعالج الملفات الساخنة، ويقدم الأقلام الجديدة، واستطاعت هذه الجريدة في بداياتها أن تترك صدى طيباً، وشكلت متنفساً للأدباء الذين لا يجدون منبراً ينشرون فيه إبداعاتهم.
والدكتور نعيم اليافي حمل على نفسه عدداً من الملفات، وأراد ربط مجموعة من الطلبة وفي دفعات متعددة مع الصحافة الأدبية، وهو الوحيد الذي كان يسعى إلى تثوير الطلبة وتحميسهم للوصول إلى المنابر الإعلامية والثقافية، وبأسمائهم، بل كان يدفع من وقته وجهده لتجويد أعمالهم، وكان يخصص وقتاً طويلاً لذلك، وقد أتعبه الأمر، لأن خياراته كانت من دوائر ضيقة تقترب منه، وليس لديها ملكة الكتابة الإعلامية، ومع ذلك حرّك المياه الراكدة ودفع الطلاب للكتابة، وأنا منهم، وأذكر أنني رددت مرة على ملف أعدّه للطلبة زملائي، وكان ردّي متأثراً بالمازني وكتابته، ولأنني لم أكن موجوداً في دائرته، وحين نشر الرد الذي قدمته لرئيس التحرير عبد النبي حجازي، استقبلني أستاذي، وتحدث معي عن الزاوية دون أن تمنعه مكانته من امتداح نقدي اللاذع. ولكن الأمر لم ينته هنا، فقد أوغر صدره أحد أصدقائي المشاركين في الندوة، وكاد الدكتور ينهيني وينهي مستقبلي بسبب الوشاية، لكن وبتدخل أحد الأساتذة توقف عن المتابعة في تأديبي وأصبحت من ندمائه وجلسائه في دمشق وحلب، وصرت من زائري محطة بغداد في حلب حيث يسكن أستاذي نعيم اليافي.

المكتبة والدهشة الأولى

قصدت الدكتور اليافي أول مرة معتذراً عما سببته له من ألم بسبب الوشاية، وشاكراً سعة صدره، واستيعابه لطالبه، ولكم كانت دهشتي كبيرة حين أدخلني أكبر غرف بيته حيث تتربع مكتبته التي التهمتها فأخفت الجدران والأرض والمكتب، وكل زاوية من زواياها، وزين الرف بصورة تجمعه بالرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يرعى حفلات التخرج بنفسه، ومنذ ذلك اليوم تمكن عشق المكتبة في روحي، الذي كان قد بدأ منذ سنوات، وآليت على نفسي أن أقتدي بأستاذي مجرد اقتداء. وفي أثناء الدورة العسكرية في حلب كان بيت أستاذي مقصدي بشكل دائم لأتزود من علمه وتوجيهاته، ولم يكن يبخل بشيء مطلقاً. وحين عدت إلى دمشق عادت لقاءاتنا الدورية الأسبوعية حتى سافر هو إلى الكويت أستاذاً في جامعتها، وأنا إلى الإمارات محاضراً في جامعتها، وفي الوقت نفسه، وهناك كانت محنة أستاذنا في مكتبته التي كوّنها وطالها حريق ترك أثره في روحه وحياته، وزاد من همومه وأوجاعه فتراجعت صحته وما فترت همته، ولم تغادره ابتسامته الممزوجة بالألم، فعاد إلى سورية وعدت، وصرت أزور شهرياً، وأحياناً في فترة متقاربة إلى منزله في حلب وفي زيارتي الأخيرة لم أجده في البيت، فأخبرني جيرانه أنه يقيم في مشفى القديس لويس (فريشو) مع زوجته، فاستعنت بأستاذنا الراحل الدكتور عبد الكريم الأشتر للوصول إليه، وكان لقائي الأخير مع أستاذي الذي قَبِل أن يتناول من يدي لقمة من طعامه الذي يتناوله، عدت إلى دمشق وغادر نعيم اليافي نهائياً، ولم يعد موجوداً في محطة بغداد مع السيدة سهام مرعشي الفاضلة، وخلت منه غرفته في المشفى.

بصمت رحل نعيم اليافي تاركاً أكواماً من المؤلفات المهمة، وأخرى من الكتب التي لم تجد طريقها للنشر بعد، ولم تحظَ كتبه بعد رحيله بالعناية التي يستحقها، وكان الأولى بوزارة الثقافة السورية التي نشرت وأعادت الأعمال الإبداعية لمبدعينا أن تجمع الأعمال النقدية للدكتور اليافي، وهي ستشكل كنزاً معرفياً سورياً من المستوى الأعلى لغة ومضموناً وجدّة، وأظن أن الوقت لم يفت لتشكل وزيرة الثقافة لجنة إشراف لطبع هذه الأعمال النقدية، وكذلك الأعمال النقدية لنقاد أجلاء آخرين حفظاً لها من الضياع والسطو… ومن قرأ أعمال الدكتور اليافي عرف أنها تزخر بالجديد على الدوام، وليست إعادة أو تحشية حتى في نقده للكتب وقراءتها.
الغنى والموسوعية

يتميز الدكتور نعيم اليافي من غيره من الأساتذة بقراءاته ورحلاته وغنى معلوماته، وتواصله الإعلامي الجيد، وكتاباته في عدد من المنابر العامة والتخصصية، لذا تنوعت كتاباته بين الفكر والأدب واللغة والرواية والقصة والمقالة والشعر، وفي أحايين كثيرة دخل المناطق المحظورة من الفكر الديني والنهضوي مغامراً بكل شيء إكراماً للكشف ومعرفة المزيد، وهذا ما توحي به مؤلفات الدكتور اليافي (الشعر بين الفنون الجميلة، تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث، أوهاج الحداثة، الشعر العربي الحديث، أطياف الوجه الواحد، مجازر الأرمن، رحلة إلى الأعماق، مقدمة لدراسة الصورة الفنية، التطور الفني لشكل القصة القصيرة في الأدب الشامي الحديث، وضع المرأة، الشعر والتلقي، المغامرة النقدية، الحب من النظرة الثالثة، مرايا المتخالف، حركة الإصلاح الديني، مفهوم الجامعة…) ومؤلفات عديدة، فرسالة الجامعة دراسة في القصة القصيرة الشامية، وإنصافه لمشكلة إنصاف الأرمن الذين يعيش معهم، فكتب وكان رائداً ومغامراً على المستوى العربي عن مجازر الأرمن وكتب في الفكر والإصلاح والنهضة، وأخلص للشعر، والحديث منه أكثر من أي شيء آخر.

الرحيل المر

لم يكن رحيل الدكتور اليافي عادياً، فعلى المستوى العلمي كان صاعقاً بغياب صاحب الرؤى الشجاعة، والصادح بما يعتقد، وبمنتهى الرقة، ودون أن يعمل على جرح أحد، لكنه يتحدث بجزم ووثائق وقراءة متأنية، لذا لم يحظَ يوماً بالقبول ممن لا يقبل أي مختلف من طلابه والعامة. وعلى المستوى الشخصي لم يكن رحيله عادياً إذ لم ينل أي اهتمام يناسب قامته الأدبية والنقدية العالية، والعالية جداً، ولو كان اليافي في أي مكان آخر لناله اهتمام لا يقل عن الرواد كالعقاد والمازني، لكننا ودعناه وأهلنا التراب على ذكراه، وهو الذي كان مانحاً وكبيراً على الدوام.
تحية لك أستاذي اليافاوي الحمصي مولداً، الحلبي مسكناً وزواجاً، الشامي هوى وأثراً، السوري عشقاً، العربي انتماء وهوية. تحية لك أيها الواسع وغير العشائري في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إليك.

إسماعيل مروة

الوطن

Share This