عن تجنيد المسيحيين العرب في القدس ومن بينهم الفلسطينيين الأرمن

أثار أحد الكهنة المسيحيين الأرثوذكس – في الدّاخل الفلسطيني – موجةً من الغضب والاستياء في أوساط المسيحيين الفلسطينيين والعرب، بعد أن شارك في اجتماعٍ لتشجيع الشّبان المسيحيين الفلسطينيين على التّجنّد في جيش الاحتلال الإسرائيلي، مما استدعى فرض (الحرمان) عليه من الكنيسة،كما ثارت ضده أقطاب وطنية وفكرية ومؤسساتية فلسطينية مثل مؤسسة “كايروس فلسطين” برئاسة رفعت قسّيس، والتي تنشط في تنشيط وتحفيز وإبراز الدّور الوطني الطّليعي للفلسطينيين المسيحيين، و في دعم التواصل مع مسيحيي العالم لتشجيعهم على التّضامن بشكل فعلي مع المعاناة الفلسطينية.

قبل سنوات حاولت دولة الاحتلال تجنيد الفلسطينيين الأرمن في القدس في جيشها، وجوبه الطّلب برفض وثورة عارمة من الأفراد والعائلات والنّخب الثّقافية والسّياسيّة والاجتماعية والدّينيّة، ويعتبر الدكتور ألبرت أغارزيان من الأقطاب الفلسطينيّة الفاعلة في الدّفاع عن عروبة القدس، ومن أشدّ الرّافضين لمحاولة (أسرلة) القدس والمقدسيين على اختلاف أديانهم، وهو من الشّخصيّات القادرة على خلق تواصل جيّد مع كافّة مكوّنات الشّعب الفلسطيني.

هذه المواقف المميّزة من الفلسطينيين المسيحيين ليست طارئة ولا دخيلة، بل هي مواقف أصيلة وقفوها في العديد من المراحل التاريخية، بعد أن قرروا أن يكونوا شركاء أصلاء في معركة بناء الحضارة والدّولة العربيّة الإسلاميّة، فشاركوا في هذه المعركة عبر مئات السّنين بكل جوانبها، الفكّريّة والعلميّة والسّياسيّة والعسكريّة والدّينيّة، وكانت لهم إسهامات ملفتة على كل الأصعدة.

أمّا في باب التّجنيد للجيش العربي الإسلامي، فكانوا من المبادرين للمشاركة في الفتوحات منذ عهد الخليفة عمر بن الخطّاب، وساهموا في معارك الدولة الحاسمة زمن الخليفة عثمان بن عفان (معركة ذات الصّواري) وهي أوّل معركة بحريّة انتصر فيها الجيش العربي الإسلامي، ولا ننسى المواقف البطوليّة التي خاضها المسيحيون الفلسطينيون والعرب زمن صلاح الدّين الأيّوبي في محاربة الغزاة الفرنجة لأرض فلسطين، وكيف كان لهم دورٌ فاعلٌ في هذه الحرب، ويبرز هنا دور المقاتل العربي المسيحي عيسى العوّام، الّذي مثّل حينها ما يعرف اليوم بقائد فرقة (الضّفادع البشرية) التي تختص بالاستطلاع والاستخبارات والمهام الخاصة في أرض العدو، وكان وجنوده في طليعة المقاتلين في جيش تحرير القدس، وقد سمّيت بلدة (العيساوية) المقدسيّة بهذا الاسم تكريماً لهذا البطل المميّز، وهذا يعكس تقدير القادة المسلمين لدور قائد مسيحي عربي.

مواقف المسيحيين العرب كانت تبادليّة بين دولة ومواطنيها، فمن يقدّم مثل هذه البطولات والتّضحيات وهذه الإسهامات الفكرية والحضارية لدولته ومجتمعه وحضارته يكون على يقينٍ تامٍ أنّه يعيش في دولةٍ لا تظلمه ولا تميّز ضده حتّى في أحلك عقد الصّراع مع الغرب المسيحي، وهذا يدلّل أيضاً على أنّ السّاسة المسلمين لم يفقدوا بوصلتهم في صراعهم مع الغرب ليقوموا باضطهاد العرب المسيحيين، الّذين كانوا جزءاً من هذا الصراع، وحسموا أمرهم بجانب أهلهم ودولتهم وحضارتهم، ولم ينخدعوا من كون المستعمرين يعتنقون المسيحيّة.

لا يمكن أن ننسى المناضل المطران كابوتشي الّذي شارك في المقاومة الفلسطينيّة وعاش حياة الأسر مع أبنائه وإخوانه، وأصرّ على الاستمرار في النّضال وشارك في قافلة سفن الحرّيّة لقطاع غزّة المحاصر رغم كبر سنّه، والمطران عطا الله حنّا الّذي تجده في كل ميادين الصّراع مع الاحتلال، والأب مانويل مسلم، ذلك الأب الّذي يفيض مشاعر إنسانيّة تجاه إخوانه الفلسطينيين، ولا يمكن أن ننسى مواقفه الوطنيّة البطوليّة التي وقفها في أحلك فترات الصّراع مع الاحتلال، وكان بحق رجل مواقف لا تهزّه الخطوب، ويعتبر هو الآخر من الشّخصيات الوطنيّة المبادرة للتّضامن مع المساجد التي تتعرّض للحرق من قِبَلِ المستوطنين، وله دور مهم في تفعيل العلاقات الفلسطينيّة الدّاخليّة تحت مظلّة وطنيّة جامعة، وهناك الكثير من المناضلين من إخواننا المسيحيين الّذين كان لهم دور وبصمة واضحة في معركة التّحرّر من الاحتلال مثل النّائب حسام الطّويل الّذي وافته المنيّة قبل أيّام وغيره ممّن لا يتّسع المقام لذكرهم جميعاً.

إنّ المحاولات الحاليّة لتجنيد الفلسطينيين المسيحيين في جيش الاحتلال، ما هي إلا تجديد لمحاولات تفتيت الفلسطينيين والعرب إلى أديان وقوميّات وفرق جغرافيّة واجتماعيّة، بين دروز وشركس ومسلمين ومسيحيين وأرمن وبدو …. إلخ، وهي محاولات باءت بالفشل عموماً، وتستمر محاولات القوى المعادية للعرب والمسلمين في ترسيخ هذه التّصنيفات في العالم العربي والإسلامي – وليس فقط في فلسطين- ولا شكّ أنّ بعض القوى والأفراد – الّذين ينتسبون للعرب- يحاولون دائماً القيام بأفعالٍ موازيةٍ لتثبيت وترسيخ الشّقاق بين المكونات الثّقافيّة والحضارية، فتنوّعنا عنوان ثرائنا الحضاري ولا يمكن أن يكون هذا العامل إشكالياً، فالأمراض تنتشر في المجتمعات الفاشيّة والعنصريّة التي تبحث عن ما يسمّى بالنّقاء العرقي أو الطّائفي أو المذهبي أو السّياسي، تقتل غيرها في البداية، ثم تقتتل فيما بينها فيما بعد.

بقلم الكاتب: صلاح حميدة

شبكة فلسطين للحوار

Share This