القابلات أكثر العناوين مبيعاً في “نيويورك تايمس” و”يو أس توداي”

كريس بوهدجايليان لـ”النهار”: “من واجبي الأخلاقي أن أتحوّل ناشطاً”

لم يعدّ ثمة حاجة الى التعريف بكريس بوهدجايليان في أوساط القراء في أميركا الشمالية. صارت عناوينه مرادفة للانتشار بفضل لغة جراحية تسكرُ بالتفاصيل وتخدم نبرة لا يستسلم فيها الإلهام إزاء الذكرى.

ألقى بوهدجايليان معظم حكاياته الخمس عشرة في بيئة نيو انغلاند، لتفتتن بناس الهوامش وتنشغل بالهمّ الإجتماعي، الى حين صارت تجربة “فتيات قصر الرمل” فصلاً في أدب الناجين. كانت الرواية مناسبة للتفتيش في إرث أرمني نبذه، ليعيد اعتناقه الى حد التماهي. انها زيارة الكاتب الأميركي الثانية للبنان في غضون عام وفي بيروت تحدّث إلى “النهار” عن تجربة أدبية تشبه الشهادة أحياناً.

– تتم الإشارة إليك في معظم الأحيان كأحد المؤلّفين الأكثر إنتشارا بفضل روايتك “القابلات” التي تقدّمت قائمة الكتب الأكثر مبيعا في صحيفة “نيويورك تايمس” وأدرجت ضمن خيارات “نادي أوبرا وينفري للكتب”. هل يجعلك تبويب “أكثر الكتّاب مبيعا” أقل أو أكثر فهما من جانب القراء؟

– من شأنه أن يجعل حجز طاولة في أحد المطاعم أكثر سهولة بلا ريب (يضحك). في الواقع يختار معظم القراء في الولايات المتحدة الأميركية كتبهم وفق المراجعات النقدية المنشورة في الصحف والمجلات والمدوّنات أو وفق ما يتداوله الناس شفويا ويكون مرتبطاً إلى حد كبير بواقع أن يكون الكتاب المعني الأكثر مبيعا. غير ان هذه أرقام فحسب. كلما ارتفع عدد الناس الذين قرأوا كتابي ارتفع عدد الناس الذين يتحدثون عنه. لكني اهتم خصوصا بالتواصل مع القراء وانجاز قصة تعني الناس. كل شيء ما عدا ذلك تفصيل تزييني يجمّل النتيجة النهائية فحسب.

– تتمحور روايتك “فتيات قصر الرمل” على المجزرة الأرمنية وتستند الى تجربة جدّيك الناجيين منها. يقول الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو إن “كتابة الشعر بعد اوشفيتز عمل همجي” كإشارة الى تعذّر كتابة القصيدة في أعقاب حدث مزعزع الى هذا الحدّ. هل توافقه الرأي في ما يعني المجزرة الأرمنية؟ هل صارت كتابة روايات عنها عملاً همجياً أيضاً؟   

– بنيتُ “فتيات قصر الرمل” على خلفية المجزرة الأرمنية بينما كنت أفكر في قرائي المنتشرين في أميركا الشمالية. ثمة اختلاف بين المجزرة الأرمنية والمحرقة، ذلك أن الجميع يدرك ماهية المحرقة في حين ثمة جهل شبه تام في أميركا الشمالية للمجزرة الأرمنية. انها كما تعاينها الراوية لورا بيتروزيان في “فتيات قصر الرمل” “المذبحة التي تكاد لا تَعرِفُ شيئاً عنها”. كان ضروريا بالنسبة إليَّ ان امنح صوتا لـ 1.5 مليون أرمني ماتوا بين عامي 1915 و1923. كان مهما أن يصير لهذه الحكاية معنى بالنسبة الى مئات الملايين من سكان اميركا الشمالية لم يسمعوا بالمجزرة ولا يسعهم تحديد مكان دولة أرمينيا على الخريطة. أتت تجربة انجاز الرواية بهذا المعنى كنقيض للهمجية. كانت منيرة واحتفالية. تحدّثتُ عن الرواية في مختلف أنحاء اميركا الشمالية حيث لاقاني قراء يشكرونني لأني أخبرتهم حكاية غفلوا عنها. أخبرني آخرون ان الرواية دفعت بهم عفويا الى البحث عبر الانترنت عن تفاصيل اضافية تتعلق بالمجزرة الأرمنية. ثمة صلة مباشرة بين المجزرة الأرمنية والمحرقة والمجازر الكمبودية والصربية. كان احد الدوافع الأساسية لإخبار الحكاية رغبتي في أن أصير احد المساهمين البسيطين في وقف هذه الحلقة من الاقترافات. أردت أن اغدو صوتا صغيرا يحاول تذكير الناس بأن آخر مراحل ارتكاب مجزرة محددة تتمثل بالنكران او النسيان. في حالات عدة تؤدي هذه البذور تحديدا الى المجزرة التالية.

– في “فتيات قصر الرمل” تسأل الراوية لورا “كيف يمكن أن يموت مليون ونصف مليون شخص من دون أن يدري أحد؟” ليجيء الجواب “تقتلهم في وسط اللامكان”. هل تعدّ روايتك تصريحا سياسيا وهي صدرت في الولايات المتحدة حيث لم يجرِ الاعتراف رسميا بالمجزرة الأرمنية، والى أي حدّ يصعب جعل التاريخ رواية؟ 
– أقرّ أولا بأني كروائي وقارئ أهوى التخييل التاريخي. أنجزت الرواية كروائي وكقاص، لم يمرّ في ذهني اني في آب 2012 سأتحدث في “كابيتول هيل” (المجلس التشريعي لحكومة الولايات المتحدة الأميركية) عن أهمية الاعتراف بالمجزرة الأرمنية. إن عدم اعتراف حكومة بلادي بالمجزرة الأرمنية من بين الأسباب التي تمنع الناس من وعي حصولها. عندما نعلّم التلاميذ في مدارسنا أمورا عن المحرقة اليهودية والمجازر في كمبوديا وصربيا، لا يتم ذكر المجزرة الأرمنية. لم أدرك أن للرواية امتدادات سياسية سوى عندما أنهيتها وألتقيت ناشري “راندوم هاوس”. كان في وسعي أن أتنصّل من المسألة وأؤكد له ان كتابي حكاية فحسب وأني لا أريد الارتباط بالمسائل السياسية لأني قاص ولست رجلا سياسيا أو ناشطا سياسيا. غير اني ادركت ان الموضوع مهم بالنسبة إليَّ وصار ذا مغزى أعمق عندما قدمت الى لبنان للمرة الأولى في أيار 2012. قصدت انطلياس ودخلت باحة كاثوليكوسية الأرمن الارثوذكس لبيت كيليكيا حيث نصب شهداء الأرمن لأرى جماجم أجدادي وعظامهم، فتبدّى لي الالتزام بديهيا. تنبهّت الى أن هذه الرواية فرصة وان من واجبي الاخلاقي أن اتحول من روائي الى ناشط. لن تحمل كتبي اللاحقة جانبا نضاليا، لكن ذلك لا يعني ان لا أحتفل بدور هذه الرواية النضالي.
– لنتحدث عن روايتك “الوثاق المزدوج” التي تتضمن صورا التقطها رجل انتهى به الأمر ليصير متشردا وألهمتك لتسأل عما يجعل رجلا صاحب موهبة مذهلة يصل الى هذه الحال. الى أي حد تساعدك الوثائق البصريّة على استخراج الجانب العاطفي لموضوع محدد تتناوله؟

– يسعدني أنك ذكرتِ “الوثاق المزدوج” ذلك أني اكتشفت للتو أمرا يتعلق بي. لا تتضمن كتبي عنصرا نضاليا حكما وانما تشمل على نحو ما، اهتماما اجتماعيا في حالات عدة. في اعقاب اصدار “الوثاق المزدوج” في 2007 أمضيت قسطا طويلا من الزمن أتحدّث عن مسألة التشرد في أميركا الشمالية مذكّرا الناس بأن المتشردين صرفوا حيوات ضاجة وحيوية قبل ان يتداعى كل شيء. أما الصور الرائعة في الرواية فتعود الى الستينات والسبعينات من القرن المنصرم وتمثّل نجوم برودواي والتلفزيون وموسيقيي جاز عدة وهي بعدسة بوب كامبل. في عقده السادس صار كامبل متشردا في ولاية فيرمونت. تأثرت عفويّا بحكايته. كيف يمكن رجلا تسنّى له أن يصوّر تشاك بيري والطفلة ميرا سورفينو الى جانب والدها الممثل بول سورفينو، أن يغدو من قاطني أحد ملاجئ المتشردين في فيرمونت؟ كيف يحدث هذا؟ ذكّرني ذلك بالخيط الرفيع الذي يفصل بين ما نملك وما لا نملك. تنطلق معظم رواياتي مما يشبه الصور التي أفضت الى “الوثاق المزدوج”. في “هياكل عظميّة في الوليمة”، كان ثمة دفتر يوميات، أما في “فتيات قصر الرمل” فانطلقت من صورة لوالدي وهو في الخامسة بينما يقف جدّاي الناجيان من المجزرة الأرمنية خلفه. اشعر إنه وفي حالات كثيرة، ثمة غرض، أكان صورة أم دفتر يوميات أم قصاصة صحافية، يلعب دور البرهان ويشكل مصدر وحي لنصي.

– رواية “القابلات” حكاية مأسوية تتناول قابلة تحاكم بتهمة القتل. ولكي تصف على نحو دقيق مسار الإنجاب في المنازل أجريت مقابلات مع نحو 65 شخصا. في أي لحظة شعرت أن المسار البحثي انتهى ليبدأ زمن اعادة ابتكار الوقائع؟

– يمكن الكاتب أن يبالغ كثيرا في البحث قبل بدء الكتابة. يسهل ان يخرّب نصه بسبب رغبته في اظهار ما تعلمه، وفي بعض كتبي لم أدرك متى كان عليَّ أن أتوقف. عندما أنهيت البحث المتعلق بـ “القابلات” كنت ملمّا بعملية الإنجاب في المنازل، لو وضعت كل شيء بين دفتي كتاب كان القراء ليسأموا طبعا. أحيانا يتخطّى البحث المقتضب حدوده. خلال انجاز “القابلات” تعقّد البحث عند محاولتي فهم احتمالات وفاة سيدة اثناء الإنجاب وقياس كمية الدم المتدفقة الى تجويف البطن، وإذا كانت الكمية في الحكاية التي أقصّها تبرهن ان الأم توفيت بنتيجة عملية قيصرية فاشلة أو لسبب مختلف. أمضيت يومين منهكين في رفقة المحقق الطبي في ولاية فيرمونت لهذه الغاية. حين أعود الى هذا النص أتساءل ما إذا كان عليَّ أن اترك اجزاء من هذه الابحاث على مكتبي خارج الرواية. غير اني كنت مفتونا بكل ما وجدته.

– أنت أميركي لأب أرمني وأم أسوجية، هل في وسع الهويات أن تكون قاتلة إذا احتفظنا بعنوان بحث الكاتب أمين معلوف حيث يكتب “هويتي هي التي تجعلني لا أشبه أحدا آخر”؟

– (سكوت). في ذاك اليوم وأنا في مكتبة “هاماسكايين” فتحتُ مجموعة بحثية من تأليف المؤرخ الاميركي ريتشارد هوفانيسيان حيث يتحدث عن الكاتبين مايكل أرلين الأب ومايكل أرلين الابن. صعقني التشابه بينهما من جهة وبيني وبين والدي من جهة أخرى. كان والدي مثل مايكل أرلين الأب، رافضا لهويته الأرمنية على نحو بعيد، واتخذ في طفولته القرار أن لا يكون أرمنيا وانما أميركيا صميما. لم أدرك سوى في الرابعة عشرة انه يتحدث الأرمنية والتركية بطلاقة، وانه أمعن في اعادة توجيه هذا الجزء من هويته. لطالما ادركت ان نصفي أرمني لكنه لم يكن جزءا من هويتي أو من صورتي الذاتية يوما. في الجينات أنا نصف أسوجي أيضا وربما عمدت من دون داع، الى تبديل وجهة حمّضي النووي الريبي الأسوجيي. لكني في هذه اللحظة متحمس ومفتون وفخور ومتأثر بإرثي الأرمني على نحو لم أكن لأظنه  ممكنا في مراهقتي أو في سني الراشدة.

رلى راشد

النهار

Share This