العثمانيون الجدد في الحكم: حصاد عقد في السلطة (1)

تركيا الحائرة بين الشرق والغرب

في الثالث من آذار عام 1924 قام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة الإسلامية ، طاوياً بذلك مرحلة عثمانية – إسلامية استمرت حوالي ال 600 عام، متوجّها نحو الغرب، وبدأ ببناء تركيا على أسس قومية فارضّاً العلّمنة بقوة كخيار للمواءمة بين المكوّنات الدينية والمذهبية للمجتمع التركي، ومتبنّياً اللعبة الديمقراطية كناظم للحياة السياسية التركية. وكانت العلّمنة والديمقراطية من شروط الغرب ليقبل الأتراك كحلفاء لهم. و خلال الحرب الباردة تبنّت تركيا سياسة تجمع الولاء للغرب من جهة، وتحافظ على الحد الأدنى من الديمقراطية والحد الأعلى من العلمانية، التي وصلت إلى حد معاداة الإسلام. وهذا السياسة كانت إحدى أسباب منع الغرب للإسلام السياسي من الوصول إلى الحكم في أنقرة في أكثر من مناسبة. فقد سُمِح للجيش التركي بتنفيذ انقلابه الأول ضد عدنان مندريس، الذي أعدم لاحقاً، مروراً بتصفية توغوروت أوزال ” حيث أثبتت إعادة تشريح جثته التي تمت في شهر تشرين الأول 2012 أن أوزال قد قضى نحبه مسموماً “، إلى اغتيال أربكان سياسياً بعد أن حلّت المحكمة الدستورية حزبه إثر انقلاب عسكري قام به الجيش وحكمّت عليه بالسجن.

ما فعله أتاتورك من استبدال الطربوش بالقبعة واستخدام الحرف العربي بالغربي في الكتابة كي يضع تركيا ضمن القارة الأوربية لم يكن كافياً بالنسبة للغرب، فتركيا من وجهة نظر أوروبا لا تملك من المؤهلات إلا الموقع الاستراتيجي والقوة العسكرية، الأمران اللذان يؤهلانها لتكون بموقع الحليف غير كامل الحقوق.

وقُبيل تصفية توغورت أوزال عام 1993، تحدث عن سعي أنقرة إلى إعادة تأسيس العالم التركي الممتد من بحر إيجة إلى مقاطعة تركمنستان الشرقية في الصين من أجل ملء الفراغ الناشئ عن انحلال الاتحاد السوفيتي، حيث أن الجمهوريات التي تأسست في آسيا الوسطى تنتمي جميعها إلى الفضاء اللغوي والثقافي التركي، ماعدا طاجكستان التي تنتمي إلى الفضاء الفارسي. هذا المشروع أُعيد صياغته مع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في أنقرة حيث طرح منظّروا الحزب ثلاث نظريات تحكم التّوجه الجديد للسياسة التركية وتؤسس للهوية التركية الجديدة. وكانت النظرية الأولى هي نظرية التحوّل الحضاري التي أعادت صياغة رؤية أوزال للفضاء التركي وتحويله إلى فضاء إسلامي ممتد من حدود الصين حتى المغرب. أما النظرية الثانية فكانت نظرية العمق الاستراتيجي التي وضعها أحمد داود أوغلو بناءً على موقع تركيا الاستراتيجي، حيث يعتبر أن قيمة الدولة في العلاقات الدولية تتحدد بشكل رئيسي في موقعها الجيوستراتيجي، ومن عمقها التاريخي. وعليه فإن تركيا ذات هوية مركبة من شرق أوسطية وبلقانية وآسيوية، عليها أن تنتهج سياسة خارجية تهدف إلى إرساء دعائم السلام في هذه الأقاليم الثلاث، لأن بواسطة هذا السلام يتحقق الأمن القومي التركي. وقد تفرّع من هذه النظرية مبدئيين صاغا السياسة الخارجية التركية، وهما مبدأ القوس المشدود والسهم المندفع ومبدأ صفر مشكلات(1). أما النظرية الثالث فهي نظرية العثمانيين الجدد. فما هي هذه النظرية وما هي أهدافها ؟

نظرية العثمانيون الجدد

تحدد هذه النظرية سبب تراجع النفوذ التركي على مسرح السياسة الدولية يعود إلى سياسة ” القطيعة ” التي عملت على فصل ماضي تركيا العثماني وعمقها الاستراتيجي عن حاضر الجمهورية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك ومحيطها الإقليمي. هذه القطيعة عمّقت سوء الفهم بين تطبيق العلمانية وممارسة شعائر الإسلام، فهذه السياسة غلّبت الأمن على الحرية، وأحدثت أزمة هوية في أوساط النخب التركية، وخاصة بعد أن تبين فشل العسكر في فرض هوية جديدة بالقوة على المجتمع من أعلى هرم السلطة التي أمسكوا بها ” حسب وجهة نظر حزب العدالة والتنمية “.

والعثمانية الجديدة، من وجهة نظرهم، لا تعني إعادة إحياء السياسات التوسعية للدولة العثمانية، إنما تهدف إلى تحقيق ثلاث متطلبات ضرورية للتتمكن تركيا من التفاعل مع محيطها الأقليمي بتناغم، ولتمضي بقوة في ميادين السياسة الدولية. هذه المتطلبات هي: أولاً، يجب على تركيا أن تتصالح مع ذاتها الحضارية وتعتز بماضيها ” العثماني ” متعدد الثقافات والأعراق. وأن تعمل على توسيع الحريات في الداخل، وتسعى لحفظ الأمن في الخارج. ثانياً، استعادة حس العظمة والكبرياء العثماني والثقة بالنفس لتوظيفها في السياسة الخارجية. ثالثاً، العمل الدائم على الانفتاح على الغرب، مع إقامة علاقات مع الشرق وخصوصاً البلدان الإسلامية. وباختصار، تعتمد هذه السياسة على القوة الناعمة في السياسة الخارجية … علمانية صحيحة في الداخل ودبلوماسية نشيطة في الخارج، وخاصة في المجال الحيوي التركي.

بغض النظر عما كان يريده أتاتورك، فمن المؤكد أنه كان يحمل مشروعاً واضحاً أراد من خلاله إخراج الأتراك خصوصاً والمسلمين عموماً من تخلفهم، هذه السياسية ربما كانت صائبة أو خاطئة ولكنها بوقتها كانت حركة ثورية وإصلاحية. أما العثمانيون الجدد فكانت منطلقاتهم النظرية غامضة ضبابية تخفي أجندات سرية من وجهة نظر خصومهم القوميين الأتاتوركيين ويستشهدون بذلك بنجم الدين أربكان الذي وصف الاتحاد الأوروبي بخرقة بالية يجب تمزيقها والعودة إلى خيار الدول الإسلامية الذي بشّر به أوزال وأسّس له العثمانيون الجدد.

مبدأ ” القوس المشدود والسهم المندفع “

حدّد وزير خارجية تركيا السيد أحمد داوود أوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي … موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” معالم نظريته التي ترسم الاستراتيجية السياسية للجمهورية التركية على الشكل التالي: كلما اشتد القوس إلى الوراء، كلما اندفع السهم في الاتجاه المعاكس الذي يرتد إليه وتر القوس. حيث تهدف هذه الاستراتيجية إلى تحقيق هدفين، الأول يمثل الدور الريادي الذي بدأت تركيا تلعبه على امتداد العالم الإسلامي والنموذج الذي يقدم الوجه الحضاري للإسلام المعتدل في مقابل نماذج أخرى للإسلام في المنطقة في مقابل التشدد الوهابي و الطالباني. أما الثاني فهو السهم الذي سيندفع بقوة نحو الغرب ومن موقع القوة. الغرب الذي لم يقبل بانضمام دولة علمانية بهوية إسلامية كما تعّرف تركيا نفسها، سيقبلها مرغماً بعد أن تكون قد رسّخت أقدامها في الشرق كقوة إقليمية.

مبدأ صفر مشكلات

في 20 أيار 2010 كتب السيد أحمد داوود أوغلو مقاله الأشهر ”سياسة صفر مشكلات” محدداً السياسة الخارجية لبلاده على النحو التالي، يجب أن تتمتع أنقرة بعلاقات جيدة مع جميع الدول المحيطة بها ولا سيما في دوائرها الإقليمية الأربع الأساسية، الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وجنوب أوروبا. وبظهور تركيا بمظهر الحريص على القضايا العربية ووقوفها بوجه الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة ودفاعها عن القضية الفلسطينية وخصوصاً انسحاب رئيس وزراء تركيا السيد رجب طيب أردوغان من مؤتمر دافوس غاضباً بعد مشادة حادة مع الرئيس الإسرائيلي بيريز ، قد أكسبها شعبية هائلة في الشارع العربي والإسلامي. وفي الوقت نفسه حافظ الأتراك على التعاون العسكري والاقتصادي والأمني مع الجانب الإسرائيلي، فكانت أنقرة العاصمة الوحيدة التي تمتعت بعلاقات مميزة مع جميع الأطراف المتناقضة في المنطقة.

جاك جوزيف أوسي

خارج السرب

Share This