الدونمة؛ المرتدون

رغم أن مسلسل “إخوة التراب”، الذي يعاد عرض الجزء الأول منه حاليا ًيوضح في الحوارات التي تدور بين شخصياته، أن الخلافة العثمانية انتهت عملياً عام 1908 مع الانقلاب الذي قامت به جماعة الاتحاد والترقي الطورانية على السلطان عبد الحميد.

قبل أن يقوم مصطفى كمال بطرد الخليفة وإلغاء الخلافة رسمياً عام 1924، إلا أن الأسئلة التي أتلقاها تدلل على غياب هذه المعلومة عن فكر الكثير من الإخوة المشاهدين. غير أن ما فاجأني حقاً هو أن جل الشباب الذين التقيتهم لا يعرفون شيئاً يذكر عن يهود الدونمة الذين قادوا الانقلاب على السلطان عبد الحميد. وبما أن الجيل الشاب سريع الملل سأروي حكاية هؤلاء على شكل قصة لا تخلو من تشويق.

تبدأ القصة عام 1492، عندما وقع الملك أبو عبد اللـه الصغير اتفاق تسليم غرناطة، آخر قلاع العرب في الأندلس، وقد نص الاتفاق على أن يكون لليهود نفس ما للعرب من حقوق. وقد ترافق هذا الحدث المهم مع حدث آخر لا يقل عنه أهمية هو قيام كريستوفر كولومبس بالاكتشاف الثاني لأميركا! إذ تؤكد التنقيبات الأثرية في البرازيل أن أجدادنا الفينيقيين قد سبقوا كولومبوس إلى هناك بألفين وثلاثمئة سنة!

في تلك المرحلة، كانت الدولة العثمانية قد دخلت مرحلة التوسع والارتقاء، لذا قرر يهود الأندلس، الذين رفضوا اعتناق المسيحية وعددهم 300 ألف، أن يقصدوا المقر الجديد لدولة الإسلام. وبسبب مخاطر الطرقات، لم يصل منهم إلى تركيا سوى مئة ألف كانوا قد فقدوا على الطريق كل شيء. غير أن مكانة هؤلاء سرعان ما تعززت نظراً للخبرات الأندلسية التي اكتسبوها في صناعة السلاح والطباعة والحياكة والزراعة والتجارة والصيرفة. وقد ازدهرت أوضاعهم لدرجة أن الجمعيات اليهودية التي كانت موجودة في تركيا، قبل وصولهم انصهرت كلها في تراثهم.

في عام 1665 ادعى حاخام في مدينة إزمير التركية يدعى شبتاي زيفي ولد موردخاي أنه المسيح ابن اللـه بعثه ليهود العالم مرشداً ومنقذاً. وقد انتشرت دعوته سراً في أوساط اليهود، وكثر الحديث عن معجزاته فقيل إن جسمه لا تخترقه السهام ولا تنفذ فيه السيوف والحراب. وصل خبر شبتاي للسلطان العثماني محمد الرابع، فأمر بترتيب جلسة خاصة للاجتماع به بغية اختبار معجزاته. أحضر السلطان ثمانية من أمهر الرماة لكي يرى إذا ما كانت السهام ستخترق جسد شبتاي أم لا. وفي مواجهة الموت المحدق نطق شبتاي الماكر بالشهادتين وراح يتوسل للسلطان كي يعفو عنه مقسماً أنه سيكون من دعاة الإسلام المخلصين. هكذا أشهر الرجل إسلامه وسمى نفسه «محمداً» ولبس الجبة والعمامة، ولقب نفسه بـ«المهتدي» فعين له السلطان راتباً شهرياً، وجناحاً خاصاً في القصر.
أثناء جولاته كان شبتاي زيفي يدعو اليهود علناً لاعتناق الإسلام، وسراً للبقاء على دينهم والتغلغل في اقتصاد البلاد بغية الإمساك بمفاتيح الأمور فيها! إلا أن احتياطات شبتاي لم تنفعه فقد ألقي القبض عليه بالجرم المشهود. كان السلطان ينوي إعدامه جزاء خيانته لكن شيخ الإسلام انتبه إلى أن قتله سيجعله «شهيداً» ويضاعف من الأساطير التي تشاع حوله، لذا اقترح نفيه إلى مكان يؤمن فيه شره. فنفي إلى سالونيك. ولحق به الكثير من أتباعه، بحيث تحولت مدينة تسالونيك بالتدريج إلى مركز لهم! وبما أن شبتاي زيفي قد سمى نفسه «المهتدي» فقد عبر الشعب التركي عن رأيه الصريح به وبأتباعه من اليهود المتأسلمين إذ أطلق عليهم لقب (الدونمة) أي “المرتدين”.

لا شك أن عبد الحميد الثاني كان سلطاناً مستبداً، لكن النزاهة تقتضي الاعتراف بأن جماعة الاتحاد والترقي لم تنقلب عليه لهذا السبب، بل لأنه كان يرفض التعامل مع الحركة الصهيونية العالمية، بعد أن تكشفت له أطماعها في فلسطين. وليس مصادفة أن ثلاثة من أهم قادة الانقلاب: أنور وطلعت وجاويد، هم من يهود تسالونيك ويرأسون المحافل الماسونية فيها. وما يوضح كل شيء هو أن الصهيونية العالمية اعتبرت وصول جماعة الاتحاد والترقي إلى سدة الحكم انتصاراً كبيراً لها، وقد عبر المدعو جاك قمحي المعروف بروتشيلد اسطنبول عن هذا الأمر إذ قال: “إن اليهود أسسوا وطناً قومياً لهم في تركيا (دون أي إعلان عنه) قبل تأسيسه في فلسطين بـ25سنة”.

حسن م. يوسف

الوطن

Share This