شهر كانون الثاني الأسود ومجازر في باكو (1)

انتقلت مدرّسة اللغة والأدب الروسي نيللي غوكاسيان من باكو إلى أرمينيا في تشرين الثاني عام 1988، عندما كانت مجازر الأرمن والتصفية العرقية على أشدها في كانتشا ومناطق أخرى من أذربيجان، استقرت مع العائلة في فندق إيتشميادزين، وبعد فترة عادت مع عشرات العائلات الأرمنية إلى أذربيجان بطلب خاص من فيزيروف، لكن بعد فترة قصيرة اضطرت غوكاسيان إلى ترك مدينتها الأصلية مرة أخرى، وفي كانون الثاني عام 1990 أضحت الأحياء الأرمنية في باكو مسرحاً جديداً للمجازر، وخلافاً لمناطق سكنية أخرى مكتظة بالأرمن في أذربيجان بقي آلاف الأرمن في باكو، كان يمكنهم مبادلة البيوت خلال السنتين الماضيتين، أو إنقاذ حياتهم، ولكنهم آمنوا حتى النهاية بأممية باكو.

تتذكر غوكاسيان برعب: “كنت أنظر خفية من نافذتي، وأرى ما يجري في الشارع من إشعال حرائق ونهب السيارات المحملة بأغراض الأرمن، كانت آلا خاتشانيان تسكن في الطابق الثاني من بنائنا، وعندما كسروا باب بيتها بالفأس ألقت الفتاة نفسها من النافذة، كانوا يلقون بالناس وأثاثهم من الأبنية العالية، كان منظراً فظيعاً، عندما كنا نطلب مساعدة الجنود كانوا يقولون لنا إنه لا أوامر لديهم، قام اللاجئون الأذريون من يريفان بإيوائنا في بيوتهم عندما كان المعتدون من الجبهة الشعبية يكسرون أبواب بيوت الأرمن، وصلنا أنا وزوجي بمساعدة كنتي الروسية إلى ميناء باكو، ومنها إلى كراسنوفوتسك، وهي ميناء في تركمنستان، وتسمى اليوم تركمنباشي”.

نشرت الصحافة حينها ما يلي: اقتربت الباخرة “جيورجيا السوفيتية” من ميناء كراسنوفوتسك، ونزل من سلمها أناس منهكون ومتعبون، “في الأيام الأولى كانت رؤية هؤلاء الناس حافي الأقدام وقد واجهوا الضرب والتعذيب أمراً فظيعاً، توفي رجل مسن بعمر 85 وامرأة مسنة بعمر التسعين على السفينة من الضرب والجراح. قمنا بنقل عدد منهم إلى المشفى الحكومي”، قال أحد القادة في شرطة كراسنوفوتسكي.

وقال مورافيوفا سكرتير مجلس المدينة: “استقبلنا أكثر من عشرة آلاف من اللاجئين، وأرسلنا أكثرهم بالطائرة إلى يريفان، كان منظراً مرعباً”.

كما في سومغاييت، ما يلفت الانتباه في أعمال المعتدين هو فظاعتهم، فقد كانوا يرمون الناس من شرفات منازلهم في الطوابق العالية، كانت الجموع تعتدي على الأرمن بالقضبان الحديدية والسكاكين، وتقتلهم، وتنهب بيوتهم وممتلكاتهم، أما عدد الأرمن الذين قتلوا أيام المجازر في باكو فمن الصعب تحديده، يشير الأرمن إلى 150، ومن بينهم هؤلاء الذين قتلوا في تركمنستان وغيرها بعد إصابتهم بأيام، ويتحدث عارف يونسوف عن 86 قتيلاً.

وبدءاً من كانون الأول عام 1989 كانوا يسرّحون من تبقى من الأرمن من عملهم، أما القادة الأكثر تمرداً، والذين لا ينفذون ذلك المطلب قصداً أو من دون قصد، فكانت تعلق أسماؤهم على لوائح خاصة أمام مقر الجبهة الشعبية في شارع الملازم شميد، وفي المكان نفسه كانت تلصق على اللوائح أيضاً أسماء مئات من الأرمن، الذين ما زالوا يعملون في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أذربيجان وفي مكتب الأمن القومي، ومن أجل وضع تلك الإعلانات كانت في فترة من الفترات تستخدم الأعمدة القديمة للكنيس سابقاً والذي كان قبل عدة سنوات مسرحاً لأغاني رشيد بيبودوف.

كتبت صحيفة “كومسومولساكايا برافدا” في موسكو: “في 13 كانون الثاني بعد الساعة الخامسة تفرق نحو 50 ألف شخص من التجمع في ساحة لينين متوزعين إلى مجموعات، ونفذوا عمليات عنف وقتل ومجازر وتدمير وحرق، لم يكن بين المعتقلين أي شخص من باكو، كانوا جميعاً أذريين يريفانيين من أرمينيا وكاراباخ وناخيتشيفان”.

قال إيديبار ماميدوف أحد أفراد الجبهة الشعبية في كانون الثاني عام 1990: “كنت شاهداً على مقتل أرمنيين اثنيين في مكان ليس ببعيد من محطة القطار، تجمع الناس حولهما، وسكبوا البنزين فوقهما، وأحرقوهما، وعلى بعد مئتي متر كانت الفرقة العسكرية في منطقة ناسيم، حيث هناك 400-500 جندي من القوات الداخلية، الذين مروا بالمركبات بجانب الجثتين المتفحمتين على طول 20 متراً، ولم يحاول أحد تفريق الجمع”. بعد وصف ذلك المشهد المروع سوّغ ماميدوف للجبهة الشعبية قائلاً: “قام ناشطونا بمحاصرة تلك المنطقة، وطلبوا من الفرقة العسكرية تفريق الجموع”.

حدثت مجازر الأرمن في باكو في الفترة التي كانت الجبهة الشعبية تسعى للسلطة في أذربيجان، أولاً كانت القيادة الشيوعية في أذربيجان تنتظر الدعم من موسكو في النضال ضد الجبهة من أجل الحفاظ على السلطة، وثانياً تتعاون معها.

سأل زاردوشت علي زاده: “في 11 كانون الأول عام 1989 بث التلفزيون تقريراً عن لقاء السكرتير الأول بالعمال في معمل، حيث سأل أحد العمال فيزيروف عما سيحصل في كاراباخ، فأجاب فيزيروف بحماسة: “كل شيء سيكون على ما يرام، سترون قريباً، سيتوحد الحزب الشيوعي والجبهة الشعبية من أجل كاراباخ”، ماذا كان يقصد فيزيروف بالتوحد، كان سابقاً يرفض اقتراحنا في توحيد الجهود مع الجبهة الشعبية لدعم الانضمام، لكن ها هو الآن مستعد للتوحد بالجبهة الشعبية القاتلة المتمردة، هل كان يعلم عن المجازر التي ستحدث؟، وعن إبعاده، ومحاولة الإطاحة بالسلطة؟، أم إنه لم يكن يرى الحقائق بسبب انقطاعه عن الواقع، أم كان يعلم بكل ذلك، وهو يجاري لعبة موسكو في سحق الجبهة الشعبية؟”.

قبل مجازر الأرمن في باكو كانت المفاوضات تقام أولاً بين فيزيروف ونائبه بوليانيتشكو الذي عين رئيساً للجنة التنفيذية في كاراباخ، وثانياً بين الثلاثي في الجبهة الشعبية إيديبار ماميدوف، ونيميت باناهوف، ورحيم غازييف.

جرى الاتفاق على تشكيل “مجلس الدفاع الوطني”، الذي يهدف إلى تنظيم الترحيل الجماعي للأرمن من كاراباخ، وفي 13 كانون الثاني أعلن في ساحة أزادلك، لينين سابقاً، تشكيل “مجلس الدفاع الوطني” برئاسة أبو الفضل “إلتشيبي”، والأعضاء الآخرون هم ماميدوف، وباناهوف، وغازييف، وخالق باهادر، وهو صحفي غير معروف وقومي متطرف. جرى التجمع بروح وطنية مع شعارات معادية للأرمن، وأشار الخطباء في التجمع إلى أن أرمنياً قد ضرب أذرياً بالفأس في منطقة بايلي، وانتهى التجمع بشعار “الموت للأرمن”، ثم تفرق المتظاهرون، سارع المسالمون إلى بيوتهم، أما المتمردون فتفرقوا في المدينة، حيث العناوين كانت جاهزة والأسماء معروفة.

“في المساء عشية المجازر ظهر على شاشة التلفاز بطل الأمة الثاني باناهوف محاطاً بفرقته، فالكراهية والحقد أمر معروف وعادي، أما الجديد والمفاجأة فكانت فقط الانتقادات لفيزيروف، الذي ينبغي احترامه قائداً، ومن يسميه فيزيريان هم أعداء الأمة، لم يساعد فيزيروف الاتفاق المتأخر مع من عدّهم كلاباً يسعون للسلطة، بعد عدة أيام بات فيزيروف لاجئاً في باكو مثل الأرمن الذين كان يكرههم”، روت إيرينا موسيسوفا مذكراتها شاهدة.

كان عمل بوليانيتشكو في أذربيجان متناقضاً في فترة المجازر في باكو، فقد تتطلب الحكمة والمنصب الذي يشغله ألا يتعاون بوليانيتشكو مع الجبهة الشعبية المعادية للروس، وكذلك مع الجناح المتطرف في هذا الحزب القومي، وهذا ما كان يفعله هو، لم يكن بوليانيتشكو يحافظ على روابطه الوثيقة بقادة الجبهة الشعبية، بل كان يعطيهم نصائح مهمة، ويرى أن تطوير الجبهة الشعبية حركة وطنية وإسلامية ضروري، وإلا لن يؤمن بها الشعب، ووفق مشورته أضيف اللونان الأخضر والأزرق إلى علم الجبهة الشعبية، “كان القرآن الكتاب المحبب لبوليانيتشكو، عند استقبال أي شخص كان القرآن مع علامات الصفحات دائماً على الطاولة”، قالت ليلى يونسوفا وهي أحد القادة السابقين في الجبهة الشعبية، كما تحدث سفير الاتحاد السوفيتي في أفغانستان عن عادة إبقاء القرآن قريباً من بوليانيتشكو، وهذا ما سمي “بناء الاشتراكية، حيث يكون لينين في يد، والقرآن في اليد الأخرى”.

أعلن كورباتشوف في التلفاز أن الأوضاع في باكو باتت مأساوية، عمليات قتل ومجازر، وإجلاء الناس وترحيلهم من بيوتهم، كما حدث في سومغاييت، تجنب أول رئيس في الدولة السوفيتية وآخرهم تسمية الأشياء بأسمائها، كما في سومغاييت كذلك في باكو، لم تدخل القوات إلا بعد انتهاء مجازر الأرمن، ويبدو أنه لو لم تكن السلطات السوفيتية في خطر لما أدخلت القوات، بدأت عمليات القوات المتطرفة في أذربيجان تأخذ شيئاً فشيئاً طابعاً معادياً للدولة والدستور والديموقراطية على نحو واضح، في عدد من المناطق أبعدت عناصر السلطة الشرعية، ودمرت المؤسسات الحكومية بالقوة، كما دمرت المنشآت الهندسية الفنية على حدود الدولة على بعد مئات الكيلومترات، عملياً لم تعد مسألة سلب السلطة بالقوة خافية، ولا يمكن الاستمرار هكذا”، قال كورباتشوف.

في 10 كانون الثاني اتصل الأكرم كوماتوف من مدينة لينكوران في جنوب شرق أذربيجان، وأكثر سكانها من التاليش الذين يتحدثون اللغة الإيرانية، مع إيتيبار ماميدوف، ليخبره أن الجبهة الشعبية تستعد لسلب السلطة في المنطقة، في نهاية عام 1989 اعتدت الجبهة الشعبية على السلطة، واستولت عليها في جليل أباد، وهي أيضاً في الجنوب الشرقي قرب الحدود الإيرانية، ويمكن عدّ ذلك أول حادثة في انقلاب السلطة السوفيتية خلال الأعوام السبعين لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، سارع باناهوف، الذي كان في الصف الأول من مهاجمي السلطة في جليل أباد إلى ناخيتشيفان للمشاركة في هدم الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة في الجزء الناخيتشيفاني على الحدود السوفيتية الإيرانية في 31 كانون الأول.

بعد ذلك روى عارف رحيم أوغلو أحد قادة فرع ناخيتشيفان في الجبهة الشعبية كيف كان الناس يهدمون الأسلاك الشائكة بمشاعر غضب وفرح، قبل ذلك قررت الجبهة الشعبية بدء العمل في تحرير الحدود من الأسلاك الشائكة في الأيام العشرة الأولى من شهر كانون الأول، ولكن إلتشيبي أمر بتدمير الحدود في 31 كانون الأول، وتجنبت قوات مكتب الأمن القومي في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية المقاومة، ومع وصولها إلى الحكم مدة عام أعلنت الجبهة الشعبية يوم 31 كانون الأول يوم تضامن مع الأذريين في العالم.

الفصل العاشر من كتاب “يوميات كاراباخ، أخضر وأسود، لا حرب، لا سلم”، للكاتب الصحفي طاطول هاكوبيان، ترجمة د. نورا أريسيان، بيروت، 2012.

Share This