من عباقرة السينما العالمية والأرمنية

 

سيرغي باراجانوف

“في الفن يجب أن تصنع الدهشة دائماً”

“سركيس باراجانيان” الإسم الأرمني لفنان حمل على كتفه تراث ثلاثة شعوب. في أيامه الأخيرة قال: “كل الناس لهم وطن واحد، أما أنا فلي ثلاثة، فقد ولدت في جورجيا وعملت في أوكرانيا، وأما الآن فأنا اجهز نفسي لكي أموت في أرمينيا”.

ولد باراجانوف في العام 1920 لأبوين أرمنيين ضمن الجالية الأرمنية التي وجدت في العاصمة الجورجية تبليسي متنفساً لها كلما أشتدت الحروب والغزوات الخارجية عليها.

زوجته الأولى كانت تترية اسمها نيتشار كاريموفا ماتت في ظروف مأساوية غامضة. يقول باراجانوف أن أهلها رموها على سكة قطار لأنها تزوجت من رجل غريب، وفي العام 1956 تزوج من فتاة أوكرانية اسمها سفيتلانا وأنجبا صبيا ولكن زواجهما لم يستمر سوى خمس سنوات. لم توحي بدايات باراجانوف بأنه سيكون أكثر السينمائيين السوفييت مشاكسة أو مثار للجدل، إذ أن أغلب أفلامه التي أخرجها في الخمسينات كانت تسجيلية قصيرة تتناول حياة فنانين جورجيين أرمن أوكرانيين.

ظلال الأجداد المنسيين  أو “جياد النار”

في العام 1965 وقف العالم مشدوها أمام هذا الفيلم الذي نزل كالصاعقة على عالم السينما، يتحدث فيه عن قصة حب تناول فيها قبائل جبال الكاربات السكان الأصليين في أوكرانيا والذين لم يعد لهم وجود، مزج باراجانوف في هذا الفيلم الغناء الشعبي والكورس مع ألوان الطبيعة وجمالها.

كان يمكن أن يمر عرض الفيلم مرور الكرام لدى السلطة السوفييتية لولا أنه أثناء العرض في فرنسا ربيع عام 1966 صرح باراجانوف لمجلة الآداب الفرنسية “لقد تعمدت أن يكون الفيلم مشاكسا وهو ينضح بحس قومي شعبي” ومن الجدير ذكره ان الفيلم رشح لـ 16 جائزة دولية. بعدها بدأت السلطة تنظر إلى باراجانوف نظرة الريبة وتتحين الفرصة لإعتقاله بتهمة التعصب القومي.

لون الرمان  “سايات نوفا”

في العام 1968 أنجز باراجنوف فيلمه الطويل الثاني والذي تحدث فيه عن شاعر أرمينيا وجورجيا سايات نوفا المولود في تبليسي من أم حلبية وأب أرمني عام 1722، ومنذ صغره أتقن سايات نوفا اللغات الشرقية ومنها العربية التي استعمل الكثير من مفرداتها في أغانيه، عاش في بلاط الملك الجورجي إيراكلي نديما وشاعرا وناصحا، اتهم بعلاقة حب مع شقيقة الملك الجورجي وأجبر بعدها على لبس ثوب الرهبنة والعيش في أحد الأديرة. استشهد الشاعر وهو يدافع عن بلده ضد غزوات الاجانب. لم يخرج الفيلم الى العلن حتى العام 1972 وعرض بعدة نسخ وتم تهريبه كل مقطع على حده ليعرض في الخارج.

عنوان الفيلم يلخص القصة ، ثلاث قطرات من شراب الرمان البنفسجي على قطعة قماش أبيض تتسع البقع على القماش لتكون خارطة أرمينيا التاريخية، غير أنها لا تلبث أن تزول فيوضع بجانبها سكين وثلاث سمكات تختنق اثنتان منها وتبقى واحدة على قيد الحياة، وفي مناخ عاصف يولد الرسول ورسالته هي الحياة. اختار باراجانوف لون الرمان لأن شجرة الرمان في أرمينيا هي شجرة الحياة على غرار شجرة الزيتون عند الرومان.

بداية المعركة مع السلطات

في العام وقع باراجانوف على عريضة تستنكر ملاحقة الأجهزة الأمنية للفنانين الأوكرانيين واستمر في انتقاد السلطات لطريقة تعاملها مع الفنانين.

وفي العام 1973 وضمن سهرة خاصة سأله أحد الأشخاص من أين يؤمن معيشته فأجابه باراجانوف مازحا ” إن بابا الفاتيكان يرسل لي الأحجار الكريمة وأنا أبيعها وأعيش بثمنها” شكلت هذه المزحة ذريعة للسلطة لكي تعتقله بتهمة الإتجار بالعملات والمعادن والاحجار الكريمة، ولاحقا لفقت له تهمة أغتصاب أحد طلابه.

وفي لقاء في مسرح البولشوي جمع الشاعر الفرنسي الشيوعي لوي آراغون مع ليونيد بريجينيف سكرتير اللجنة المركزة للحزب الشيوعي السوفييتي آنذاك. طلب آراغون تخفيف العقوبة عن باراجانوف والإفراج عنه، في البداية تفاجأ بريجينيف وقال أنه لا يعلم شيئا عن الموضوع حتى ان السلطات بقيت عدة أيام تبحث عن باراجانوف في السجون السوفييتية حتى وجدته، خرج باراجانوف في اليوم الأخير من العام 1977.

بعدها بشهور كتب رسالة الى السلطات يطلب فيها السماح له بالسفر الى ايران للعمل على تصوير فيلم “مجنون ليلى” وقال لأحد اصدقائه “لا يلزمنى سوى سجادة عتيقة ممزقة وممثل وممثلة نصف عاريين” ولكن … الجواب على طلبه كان سلبا.

وفي بداية العام 1983 أعتقل باراجانوف من جديد بتهمة جديدة وهي المثلية الجنسية. يروي أحد أصدقاء باراجانوف أن الممثلة الجورجية “صوفيكو جياوريلي” حضرت من باريس مباشرة إلى المحكمة وفتحت حقائبها أمام القضاة وأخرجت ملصقا طوله 3 أمتار لفيلم لون الرمان وصرخت “الناس في فرنسا تتقاتل للحصول على تذاكر لأفلامه وأنتم هنا تحاكموه بتهم باطلة”.

أسطورة قلعة سورام

حقق باراجنوف هذا الفيلم بعد خروجه من السجن عام 1984 وهو يتحدث عن أسطورة جورجية بعد أن حرمته السلطات من العمل لمدة 15 عاماً، بعد هذا الفيلم أجمع النقاد في العالم على قدرة باراجانوف الدائمة المتجددة ناهلا من مخزون الأساطير الشعبية. روى أحد الأشخاص الذين عملوا مع باراجانوف في الفيلم أنه قبل تصوير أحد المشاهد سأل هل الـ 400 كومبارس والخيالة الـ 200 والعربات جاهزين؟؟ أجابوه أن كل شيء جاهز للتصوير، هنا غضب باراجانوف وانسحب قائلاً: لقد جهزتم كل شيء ولم تتركوا لي مجالا لكي أبدع أي شيء.

تبع فيلم اسطورة قلعة سورام معرضا في العاصمة الجورجية تبليسي لأعماله الفنية التي صنعها خلال سنوات سجنه وتمكن من الاحتفاظ بها عن طريق رشوة الحراس بكل ماكان يأتيه من أغذية وأدوية، وهذا ماجعل المرض يشتد عليه ويتمكن منه.

فيلم آشيك غريب ” عاشق غريب”

حقق هذا الفيلم عام 1988 تناول فيه قصة عشق شرقية. بعدها سافر الى روتردام واحتفي به بين أفضل 20 مخرجا في العالم ضمن احتفالية أمل القرن الحادي والعشرين

اعلن باراجانوف أن فيلمه التالي سيكون “الإعتراف” ولكن المرض لم يمهله فتوقف قلبه عن الخفقان عام 1990.

دفن باراجانوف في مدافن العظماء في أرمينيا وحضر جنازته عشرات الألوف ممن أحبوا فنه وممن لم يفهموه على السواء، وأرسل عمالقة السينما في العالم. مورافيا – فلليني – غويرا – انطونيوني – بيرلوتشي – بيلوكيو – ببرقية تعزية قالو فيها “برحيل باراجانوف فقدت السينما أحد سحرتها العظماء وأهم عباقرتها ولكن أعماله ستبقى تسعد الناس زمنا طويلا”.

قبل وفاته نقل باراجانوف كل أعماله الفنية ومقتنياته الى أرمينيا وتم عرضها في بيت تراثي جميل  في العاصمة الأرمنية يريفان كان في الأصل قد تم تخصيصه من قبل الحكومة الأرمنية لكي بنتقل للعيش فيه. كان باراجانوف يخيط بنفسه كل الأزياء المستعملة في أفلامه وجميع الزخارف والأفاريز والنقوش  ويضع كولاجا لكل مشهد وقدم في مناسبات عديدة تصاميم كولاجات وأزياء للمصمم العالمي إيف  سان لوران.

مما قاله باراجانوف:

-“خلال محادثة بيني وبين أندريه تاركوفسكي المخرج الروسي الشهير قلت له: إنك صديق عظيم لكن أقول لك إنه ينقصك شيء في فنك وهو عدم إمضائك سنة على الأقل في سجن سوفييتي  فهناك وسط  الظلام عندما تكون جائعا والقمل يسرح في جسدك، ستفكر في العالم بشكل مختلف وتفكر بالشمس والحياة والحرية  ويصبح لكل شيء قيمة في نظرك”.

-“إنني غالبا ما أحس بأن أرواح أجدادي تزورني كي تزعجني وتؤنبني. إنها تصل إلي محملة بأفكارها وتبدأ في تقريعي وزجري وتطلب من أمورا من الأجدى أن تطلبها من الحكومة”.

-“عندما أنتسبت إلى كلية السينما في موسكو في الخمسينات حلمت بأنني سأتمكن من إعالة نفسي ولكن من يومها وأنا جائع”.

الصور: باراجانوف مع المخرج الايطالي مارشيلوا ماستروياني في تبليسي، متحف باراجانوف في يريفان، صورة كوميدية لباراجانوف، ملصق فيلم “ظلال الاجداد المنسيين”.

نازار ألماجيان

 

 

 

Share This