المحامي عثمان عيسى يوسف: “الإبادة الأرمنية تعتبر من جرائم الإبادة الجماعية الأولى فى التاريخ الحديث”

نشر موقع “سودان نيل” مقالاً تحت عنوان “دارفور .. عشرة سنوات من الإبادة .. كى لا ننسى!! ..” بقلم المحامي عثمان عيسى يوسف، حيث قدم شرحاً عن مصطلح الابادة الجماعية و الذى لم يكن موجودا قبل العام 1944 م، هو مصطلح ذو مدلول خاص يشير الى جرائم القتل المرتكبة بحق مجموعات من الافراد. و هو بهذا وكما مبين فى قوانين الحريات فى الولايات المتحدة الامريكية واعلان الامم المتحدة العالمى لحقوق الانسان والصادر فى 1948 م هو مفهوم يتعلق بحق الافراد. يعتبر المحامى البولندى رافائيل ليمكين 1900 _ 1959 م والذى قام بوصف السياسات النازية لعمليات القتل المنظم والذى استهدف ابادة الشعب اليهودى، يعتبر هو من قام باختراع مصطلح الابادة الجماعية (genocide) بواسطة الجمع بين كلمتى (geno) اليونانية و التى تعنى سلالة او قبيلة ، مع كلمة (cide) اللاتينية و معناها القتل، لقد كانت العبارة عبارة عن كلمة وصفية حتى بعد تكوين محكمة نورمبرج العسكرية و التى حوكم من خلالها مجرمي الحرب العالمية الثانية، إذ استخدم المصطلح باعتباره كلمة وصفية و ليس مصطلحا قانونيا (موسوعة الهولوكست). وينبغي أن نميز في هذا الصدد بين جريمة ابادة الجنس البشري والابادة الجماعية الثقافية أو الابادة الإثنية.(Ethnocide or cultural genocide)  إذ أن الأخيرة تستهدف ثقافة مجموعة إثنية محددة. وتعتبر جريمة الابادة الجماعية من اشد الجرائم الدولية جسامة، وذلك للوحشية التى تصاحبها وثقل حصيلة الضحايا التى تخلفها. و قد جاء فى مقدمة اتفاقية الامم المتحدة لمنع جريمة الابادة الجماعية والتى عرضت و اعتمدت فى 19 ديسمبر1949 م، جاء فيها (ان الامم المتحدة قد اعلنت ان الابادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولى و تتعارض مع روح الامم المتحدة و اهدافها و يدينها العالم المتمدن. واذ تقر بان الابادة الجماعية قد الحقت فى جميع عصور التاريخ خسائر جسيمة بالانسانية و ايمانا منها بان تحرير البشرية من هذه الافة يتطلب التعاون الدولى…). وقد جاءت المادة الاولى لهذه الاتفاقية مجرمة لفعل الابادة الجماعية حيث نصت (ان الابادة الجماعية تعتبر جريمة بمقتضى القانون الدولى وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها). وتضمن النظام الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا و المحكمة الجنائية الدولية لرواندا نصوصا تتعلق بجريمة الابادة الجماعية، وسار على دربهما النظام الاساسى لمحكمة الجنايات الدولية 1998 م حيث تضمن نصا (المادة السادسة) يتعلق بجريمة الابادة الجماعية.ان من اشهر جرائم الابادة فى التاريخ الحديث للبشرية، ما قام به النازيون اثناء الحرب العالمية الثانية، حيث قتل اكثر من 11 مليون مدني، اغلبيتهم من اليهود، ومنهم سلافيون وشيوعيون وحتى معارضون سياسيون والعديد من الشعوب غير الالمانية.

هناك ايضا مذابح الارمن على يد الاتراك خلال الحرب العالمية الاولى، على خلفية اتهامات الاتراك للرعايا الأرمن فى الامبراطورية بمساندة الروس، حيث تمت عمليات قتل و ترحيل قسرية من قبل الامبراطورية العثمانية بحق الارمن. و يقدر عدد ضحايا الارمن ما بين 1 الى 1.5 مليون نسمة. وتعتبر من جرائم الابادة الجماعية الاولى فى التاريخ الحديث.

في القرن العشرين شهد العالم مذبحة سبرنيتشا شرق جمهورية البوسنة و الهرسك. وقعت المذبحة فى 11 يوليو 1995 م . حيث قامت المليشيات الصربية بذبح الاف الرجال المسلمين وقتل فى تلك المجزرة التاريخية والابادة الجماعية ما يزيد عن 800 الف نسمة، حيث تم تدبيرها بمستوى عالى يعكس الروح الاجرامية لمرتكبيها. وقد وصفت عمليات القتل هذه بانها من افظع الجرائم التى ارتكبت فى اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. و قد شهد القرن العشرين مذبحة رواندا فى افريقيا، الجريمة التى صدمت العالم واهتزت لها المشاعر فى كافة انحاء المعمورة. وقد مثلت تلك الجريمة وصمة عار فى جبين العالم المتمدن و ذلك بسبب عدم تحرك العالم فى حينه لوقف تلك المجزرة و التى بدات فى 1994 م و استمرت قرابة 100 يوم، حيث بلغ عدد الضحايا ما بين 800 الف الى 1 مليون قتيل، حسب تقديرات هيومان رايتس واتش. و تم اغتصاب ما بين 150 الف الى 250 الف امراة ، نتيجة للمواجهات العرقية بين اقلية التوتسى واغلبية الهوتو. و من الجرائم الابادة الخرى و الافعال المشابهة والتى حدثت فى القرن العشرين، مجازر سيفو ، مذبحة صبرا و شاتيلا، مجزرة سميل و التطهير العرقى فى بورندى. جميع هذه الجرائم و ان اختلفت و تعددت صورها الا ان جميعها تشترك فى الوحشية التى ارتكبت بها و ثقل الحصيلة من الضحايا. صدم العالم فى بداية القرن ال21 ، حيث وقعت مذبحة اقليم دارفور الواقع غرب السودان، و الذى يعتبر من افظع الجرائم التى ارتكبت فى حق البشرية . الجريمة التى بدات على خلفية الصراع المسلح فى الاقليم فى العام 2003 م بين الحكومة السودانية و الحركات الدارفورية المسلحة و التى تطالب باجراء اصلاحات فى بنية الدولة. لقد تحول هذا الصراع الى اسواء كارثة انسانية تمر بها البشرية. و قد اعتبرتها الامم المتحدة بانها من اسواء الازمات التى شهدها العالم، حيث اصبح حوالى ثلثى سكان الاقليم يعتمدون على المساعدات الغذائية، كما قتل اكثر من 300 الف شخص و شرد اكثر من مليونا شخص. لقد ارتكبت الحكومة السودانية مذبحة كبرى فى الاقليم، و ذلك باطلاق يد اجهزتها العسكرية والامنية للقيام باكبر عملية ابادة جماعية وبشكل منهجى ومتعمد ضد السكان ذوى اصول عرقية معينة فى الاقليم. لقد مارست الحكومة رغم النداءات المتكررة ومع سبق الاصرار وبترتيب وتنظيم دقيقين، مارست عمليات ابادة منقطعة النظير فى التاريخ القريب، ضد بعض سكان الاقليم بغرض القضاء عليهم او اجبارهم على ترك قراهم. ان الهجوم المتعمد على المدنيين والعمليات غير المميزة و القصف العشوائى لقراهم بغرض قتلهم والقضاء عليهم، والترحيل القسرى للسكان و تدمير البنى التحتية الضرورية لحياة السكان، من حرق للمزارع ونهب للممتلكات و كل اشكال العنف الجنسى و التعذيب و الاغتصاب التى مورست على هؤلاء السكان و بترتيب و تحت اشراف الدولة، كل هذه الافعال لا يقرها الدين الاسلامى و الذى حرم قتل النفس الا بالحق، و ان من قتل نفس بغير نفس فكانما قتل الناس جمعيا، ولا تقرها الاخلاق الانسانية و المواثيق الدولية، و جاء تجريمها فى المادة الثانية الفقرات4،3،2،1 من اتفاقية الامم المتحدة لمنع جريمة الابادة الجماعية . لقد قام النظام ، فقط مابين العام 2003 م الى العام 2005 م قام بحرق 3816 قرية، 475 مدرسة و 142 مسجد فى اقليم دارفور حسب بعض المصادر. اضافة الى ما ذكرته بعض المنظمات الاهلية من عمليات اختطاف طالت نساء واطفال سواء ممن تمت الاغارة على قراهم، او ممن يعثر عليهم مختبئين فى البرارى بسبب قصف قراهم. ارتكبت هذه الافعال المروعة من قبل الحكومة وبتنفيذ من اجهزتها العسكرية و الامنية و غطاء من اجهزة انفاذ القانون من شرطة ونيابة وقضاء. واستعانة بمليشيات الجنجويد و التى تم تزويدها باليات القتل من سلاح ومال، و الغطاء القانونى و الدعم اللوجيستى بتوفير الغطاء الجوى لها عبر طائرات سلاح الجو السودانى. لقد قامت مليشيات الجنجويد وبتشجيع من الحكومة السودانية ، قامت بتكثيف حملاتها من قتل للمواطنيين و حرق للقرى واغتصاب للنساء و بشكل يهدف الى التخلص من اكبر مجموعة من السكان الذين ينتمون الى قبائل معينة فى اقصر فترة زمنية ممكنة. لقد اعادت هذه المليشيات الى الاذهان ما كانت تقوم به مليشيات (انتيراهاو) المكونة من شبيبة الهوتو و التى ارتكبت مجاذر فظيعة بحق اقلية التوتسى فى منطقة (كيزان) فى 1994 م. لقد طال الاستهداف حتى النخب الدارفورية ،من مثقفين ومستنيرين و الذين صدعوا بكلمة الحق فى وجه سلطان جائر، كما استهدفت الفئات الاخرى من تجار و طلاب. لقد تمت ملاحقتهم امنيا و زج بهم فى السجون واعدم الكثيرون منهم سواء خارج نطاق القضاء او من خلال اجراءات قضائية سريعة لا تتوفر فيها ابسط الحقوق التى نصت عليها مواثيق حقوق الانسان الدولية. ان مثل هذه الاعمال الوحشية التى يتعرض لها المدنيون لابد من ان يلقى مرتكبيها و مهما كانت مواقعهم او دوافعهم، لابد ان يلقوا العقاب و هذا هو عين ما نصت عليه المادة الرابعة من اتفاقية الامم المتحدة لمنع جريمة الابادة الجماعية. ان التحقيق والمحاكمة الفعلية مع مرتكبى جريمة الابادة الجماعية يساعد على ترسيخ مبدا سيادة حكم القانون ويبعث رسالة قوية مفادها ان الجرائم من هذا النوع لا يسمح بها مطلقا، ويعتبر ايضا مكونا اساسيا للعدالة الانتقالية. لقد داب موظفو وكالات حقوق الانسان وكبار مسؤولي الامم المتحدة ، دابو على الترديد فى العديد من المحافل، على عدم جواز الافلات من العقاب فى الجرائم البشعة. وهذا ما اكده الامين العام للامم المتحدة بان كى مون فى زيارته للسودان فى العام 2007 م حيث اكد (ان العدالة جزء هام فى بناء السلام و ادامته و ان عدم التصدى لثقافة الافلات من العقاب و تركة جرائم الماضى لا يمكن الا ان يؤدى الى تقويض السلام ). فالذين درجوا على ترديد و ترسيخ الافتراض الشائع، بضرورة الاختيار بين السلم او العدالة او ان العدالة و السلام نقيضان لا يجتمعان، نقول ان العدالة عندما يسعى الى تحقيقها على النحو السليم يمكن ان تساعد على تحقيق سلام عادل و مستدام. لقد اثبتت التجارب على ان السلام الذى لا يستند على ارضية صلبة من العدالة من خلال انصاف ضحايا المجازر و معاقبة مرتكبيها، هو سلام غير قابل للديمومة. فعلى سبيل المثال، اتفاقية لومى الموقعة فى 1999 م و الذى لم يخفق فى انهاء الصراع فى سيراليون فحسب، انما لم يفلح كذلك فى وقف ارتكاب المزيد من الفظائع. فالبرغم من توقيع العديد من اتفاقيات السلام المتعلقة بدارفور(من اتفاقية ابوجا 2005 م حتى وثيقة الدوحة للسلام  فى دارفور يوليو 2011 م) الا ان وتيرة العنف ما زالت مستمرة، وما زالت الجرائم ترتكب بحق الابرياء فى الاقليم. وذلك بسبب ان كل التدابير و الاجراءات العدلية والقضائية، لا تهدف بالاساس الى انصاف الضحايا ، انما عبارة عن محاولات من اجل سد باب المقاضاة و تمترس خلف قلعة الافلات من العقاب. اخيرا، لابد من العمل سويا من اجل ترسيخ مبدا عدم الافلات من العقاب كمبدا قانونى وثقافة لا يمكن التراجع عنها و ان تقلبت موازين القوى (احيانا) لصالح الطغيان” .

Share This