سومغاييت: رد أذربيجان

انتقلت صونيا هاكوبيان إلى منزل جديد قبل ثلاثة أيام من المجازر، التي جرت في مدينة سومغاييت الأذرية، لقد فهمت في أيام المجازر الأرمنية تلك أنه يعيش الكثير من الأرمن في المدينة العمالية الغافية على ضفة بحر قزوين، التجأت من القتلة مع عائلتها وما يقارب الخمسة آلاف أرمني إلى مبنى ضخم تابع للمجمع الثقافي بالقرب من ساحة لينين تحت مراقبة مشاة البحرية، كان يمكن سومغاييت أن تكون درساً قاسياً للشعوب الأخرى في الاتحاد السوفيتي، الذين لديهم أيضاً مطالب في مسائل وطنية، وتقول صونيا: “لم نفكر في أن يأتوا ليأخذونا من بيوتنا، نحن بانتظار منزل منذ 12 عاماً، كنا أنا وزوجي نعمل في مصانع، واستلمنا منزلاً بثلاث غرف، وبقينا فيه ثلاثة أيام، والآن تعيش عائلة أذرية أتت من منطقة أماسيا من أرمينيا في منزلي”، استقرت هي مع عائلتها وبعض العشرات من سكان سومغاييت في قرية موغني1.

تأثر كريكوري خارتشينكو أحد موظفي الكرملين، الذي كان في سومغاييت في اليوم الثاني من بدء المجازر، بالمشاهد المروعة، وهزته ظاهرة أن الأرمن رغبوا في الانتقال إلى روسيا، وليس إلى أرمينيا. “لم يرغب أحد ممن التقيناهم في الذهاب إلى أرمينيا، كانوا يناشدوننا بنقلهم إلى كراسنودار أو ستافروبول أو روسدوف في روسيا، كانوا يقولون: “لا أحد سيهتم بنا في أرمينيا، لن يعدونا أرمناً حقيقيين، نحن لسنا أرمناً حقيقيين”2.

انتقل عدد قليل جداً من سكان سومغاييت الأرمن ممن لديهم جذور من كاراباخ إلى أرمينيا وكاراباخ، كانت ليدا أليكسانيان واحدة من هؤلاء القلّة، كانت تقول إن رفاق ابنها الأذريين، الذين يخدمون في الجيش، دافعوا عنهم خلال أيام المجازر. “كان ابني يخدم الجيش في ألمانيا، ذهبنا بعد المجازر إلى مكتب الجيش، وقلنا لهم إننا سننتقل إلى يريفان، وطلبنا منهم أن يعلموا ابننا بألا يعود إلى سومغاييت، فقالوا: لا، على الأرمن أن يعودوا إلى مسقط رأسهم، وهكذا انتظرنا 10 أشهر بعد المجازر، عاد ابني من الجيش في تشرين الثاني، وأتينا إلى أرمينيا في اليوم التالي، ثم ذهب ولداي إلى روسيا”3.

قام صامويل شاهموراديان بتدوين عشرات الروايات من الناجين من سومغاييت في ربيع عام 1988. يدّعي عدد من الكتاب الأذريين أن المجازر ضد الأرمن في سومغاييت جرت على يد أذريين أتوا من منطقة كابان الأرمنية، ربما كان بينهم أيضاً أذريون هاجروا من أرمينيا من زمن بعيد، من المؤكد أنه لم يكن هناك أي واحد من كابان من بين أكثر من 80 أذري تحت مسؤولية قضائية، لم يستخدم القتلة كلمة كابان من أجل تسويغ القتل، بل استخدموها لتحريض العنف.

روى الجيورجي كوستانتين بخاكاتسي، الذي كان يعيش في سومغاييت مع زوجته الأرمنية أنه في 21 شباط سمع من صديقه الأذري أن الأرمن سيتظاهرون بعد اسبوع، لكنه تقبل الموضوع بسخرية، وفي مساء يوم 26 شباط رأى بخاكاتسي في ساحة لينين عشرات المتجمعين، وروى أحدهم من دون ذكر اسمه أنه هرب من كابان مع أبناء جلدته، فقد قتل الأرمن هناك أهله وأهل زوجته. “لقد هربنا من كابان”، هكذا قال الأذري ذو الوجه المتطاول والشارب الرفيع، قائد التجمع. وفي اليوم التالي زادت روايات جديدة على ما سبق: إن الأرمن اغتصبوا فتيات أذريات، وقطعوا أثداءهن في كابان، واختتم الأذري، الذي زعم أنه من كابان كلامه، وقال: “أيها الأرمن، اخرجوا من الأراضي الأذرية، الموت للأرمن”4.

توجه السكرتير الثاني في اللجنة السياسية بايراموفا بعد الظهر يوم 27 شباط إلى المشاركين في التظاهرة، وقال: “لا داعي لقتل الأرمن، كورباتشوف قال إنه لا أحد يمكنه انتزاع كاراباخ، فالمنطقة كانت وما زالت أذرية، اسمحوا للأرمن بأن يخرجوا من أذربيجان بحرية، اخلقوا لهم المجال للمغادرة”.

بدا لي من الحوارات مع الأرمن في سومغاييت أن الجموع استخدمت العنف، لأن الأرمن كانوا يطالبون بكاراباخ، وبعد فترة قصيرة دخلت كاراباخ في الخطة الثانية، في أحوال عدم المعاقبة كانت العصابات المؤلفة من عشرات الرجال تقتل وتنهب الأرمن، لتسيطر على بيوتهم وأملاكهم.

روى فلاديمير كريكوريان: “نظرت من النافذة إلى الخارج، فرأيت التجمع في ساحة لينين، لم يسمع شيء، ففتحت النافذة، وسمعت هتافاً: اهدؤوا، لن نعطي كاراباخ للأرمن، كاراباخ لنا، وهتافات أخرى: الأرمن قتلوا أذريين اثنين في كاراباخ، الأول يبلغ 16 والثاني 22 عاماً”، وأضافت زوجته مارينا أن الأذريين ثاروا أكثر بعد حديث كادوسيف5.

أعلن ألكسندر كادوسيف القاضي العسكري في الاتحاد السوفيتي الاشتراكي في باكو عبر التلفاز الأذري في 27 شباط أنه قبل خمسة أيام قتل شابان في أسكيران مشيراً إلى أسمائهما الأذرية، شجع هذا الخبر الجموع المستعدة لقتل الأرمن ونهب ممتلكاتهم، ونتيجة لعمليات القتل في سومغاييت خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر شباط قتل 29 أرمنياً و6 أذريين، وأصيب 400 شخص بجروح بدرجات مختلفة أكثرهم من الأرمن، وأضحى 18 ألف أرمني من سكان المدينة من المهجرين، من الممكن أن مشاة البحرية للأسطول في بحر قزوين وجنود فرق الإنزال قامت بقتل الأذريين الستة، عندما هاجمت القوات باتجاه القتلة الشبان المتجمعين عند موقف السيارات في سومغاييت، ولكن جرى ذلك مساء 29 شباط عندما انتهى قتل الأرمن، ربما جرى الهجوم على الأذريين لكي يأخذ القتل في سومغاييت صبغة دولية. ما يشير أيضاً إلى أن القتل كان مخططاً من قبل هو أن القتلة كانوا مسلحين بعصي معدنية موحدة الشكل، ولديهم عناوين منازل الأرمن، ومن جهة أخرى من الواضح أنه لو لم يخبئ الأذريون العاديون الأرمن في بيوتهم لكان عدد القتلى والجرحى مضاعفاً، لم تتدخل القوات السوفيتية، ولم تستخدم السلاح إلا بعد استلام الأوامر بعد الظهر من 29 شباط، وتنقذ آلاف الأرمن المروعة من المجازر.

وفي 28 شباط قام برنامج إخباري عنوانه “جاماناك” (الزمن) من موسكو بوصف المجازر ضد الأرمن بأنها “عمليات همجية”، وفي اليوم التالي أخبر كورباتشوف نخبة القادة السوفييت في جلسة المكتب السياسي للحزب أنه خرج أكثر من نصف مليون شخص إلى شوارع يريفان، ووقع اشتباك في كاراباخ الجبلية بين الأذريين والأرمن، وقتل شخصان، ونشرت قصاصات ورقية تقول: أيها الأرمن أوقفوا التجمعات، احملوا السلاح، واضغطوا على الأتراك، ينبغي أن أقول إن الأرمن كانوا منظمين، حتى عندما كانوا نصف مليون في شوارع يريفان، ولم يحصل أي شيء معاد للسوفيتية، كان المتطرفون يرفعون شعار حق تقرير المصير فقط، وكان الموضوع المشترك هو ضم كاراباخ الجبلية إلى أرمينيا، هناك براهين على هروب عائلات أذرية من أرمينيا، فقد صرح كابيدونوف بأن 55 شخصاً رحلوا، أما رازوموفسكي فقدر العدد بـ200 شخص. اقترح وزير الدفاع ديمتري يازوف تنفيذ الأحكام العرفية في سومغاييت وفق المشاهد المروعة الحاصلة في المدينة: “لقد قطعوا أثداء الامرأتين، ورأس إحداهن، وسلخوا جلد الفتاة، إنه تخريب”6.

كان خارتشينكو وفيليب بوبوف نائب رئيس مكتب الأمن القومي في الاتحاد السوفيتي أول الموظفين الذين أتوا من موسكو، ورأوا بأم عينهم الأعمال الوحشية عندما وصلوا إلى سومغاييت من باكو في 28 شباط، لم يقبل خارتشينكو تسويغ كورباتشوف بأن القوات في سومغاييت تأخرت ثلاث ساعات فقط، فقد تأخرت طوال اليوم، “لا أريد أن أرى الصور، لقد تخلصت منها، إنما رأيت بأم عيني جثثاً مبتورة، وكانت إحداها قطعت أوصالها بالفأس، بترت الأيدي والأقدام، ولم يبق شيء من الجسد، كانوا يغطون الجثث بأوراق الأشجار الساقطة على الأرض، ويأخذون البنزين من السيارات الواقفة في الجوار، ثم يحرقونها. كانت الجثث مروعة”7.

تاريخ الاتحاد السوفيتي مليء بقصص دموية، ولكن ما جرى في سومغاييت أمر استثنائي، أولاً لأن المذابح جرت في أحوال سلمية، ثانياً أخذت المذابح طابعاً قومياً، وليس سياسياً، وثالثاً لم تكن السلطات المركزية السوفيتية والجمهورية هي التي نظمت المجازر، كما جرى قبل عام في تبليسي، إنما بسبب تراخيها أعطت الفرصة أن تقوم الطبقة العاملة بتنفيذ المجازر، وكان يفترض أن تقوم هي بتعزيز حفظ النظام وفق توقعات كورباتشوف.

يؤكد يازوف في جلسة المكتب السياسي: “يجب تنفيذ الحكم العرفي في سومغاييت”، ويقترح كورباتشوف حظر التجول، ويصر يازوف: “يجب إدخال الجيش وتعزيز النظام”.

بشهادة بخاكاتسي حل جاهانكير مسلم زاده رئيس الحزب الشيوعي محل بايراموفا في سومغاييت في 27 شباط في الساحة، كرر الأذري الذي قدم نفسه أنه من كابان الحديث عن وحشية الأرمن، زاعماً أنه جرى قتل أقربائه وأقرباء زوجته، واغتصاب فتيات أذريات في المدينة الجامعية، ثم رفع مسلم زاده مكبر الصوت، وقال: “أيها الإخوة، علينا أن نترك الأرمن لكي يبتعدوا بحرية”8.

كتب الخبير والناشط السياسي الأذري زاردوشت علي زاده أن باغيروف ورئيس الوزراء سيدوف ذهبا إلى سومغاييت في 27 شباط، “لقد التقوا بسكان المدينة واللاجئين، لكن ماذا يمكنهم أن يقولوا، فنحيب الناس الذين تعرضوا للاعتداء والعار، والذين أخرجوا من وطنهم أحبط كلام القادة، وقد خرجوا من المخرج الخلفي للنادي وهربوا إلى باكو”. يستكمل علي زاده ويقول: “في 28 شباط توجه مسلم زاده إلى التجمع المشؤوم، وألقى كلمة قال فيها إنهم لن يعطوا كاراباخ الجبلية إلى أرمينيا، وليس هناك تسويغ للقلق، إذا قاموا بخرق المادة 78 من دستور الاتحاد السوفيتي الاشتراكي، وقرروا فصل كاراباخ الجبلية، فإنه سينضم إلى المتظاهرين، وحالاً أعطوه علم أذربيجان بيده، وطلبوا منه أن يبين كيف سيذهب إلى المظاهرات مع الشعب، بقي وحيداً وبيده علم أذربيجان، ومن حوله أناس يصرخون، فاضطر إلى الرضوخ لإرادة الشعب، وتحرك معهم إلى حيث أخذوه، وما إن اقتلع المجموعة من مكانها برئاسة مسلم زاده حتى بدأت مجموعات من القتلة المجهزة من قبل تركض في اتجاهات مختلفة من المدينة، بيدها قضبان حديدية، وبدأت نهب منازل الأرمن”9.

أدانت السلطات الأرمنية السوفيتية الأعمال الوحشية في سومغاييت بعد مضي شهرين ونصف على المجازر، وفي شهر آذار قامت القيادة الشيوعية في أذربيجان بتوزيع بيان “تقديم أحر التعازي لعائلات الضحايا وأقربائهم الذين سقطوا نتيجة الاضطرابات التي جرت في سومغاييت”. وفي 12 آذار قام ممثلون عن الرئيس الروحي للمسلمين في القوقاز شيخ الإسلام الله شكر باشازاده بزيارة الكرسي الرسولي، وسلموا كاثوليكوس عموم الأرمن رسالة من قائدهم الروحي، حيث أعرب عن أسفه على مأساة سومغاييت.

تقدم نحو التسعين متهماً أمام محاكم مدن كثيرة سوفيتية تعد دولية بتهمة تنفيذ القتل والعنف والاغتصاب وغيرها في سومغاييت، وجرت محاكمة واحد منهم فقط بحكم الإعدام، كانت العدالة السوفيتية تفعل كل شيء، لكي لا تعطى الصبغة القومية للجرائم خلال المحاكمات، وساعد في ذلك أيضاً ادعاء بعض القتلة أنهم ليسوا أذريين.

الفصل الخامس من كتاب “يوميات كاراباخ، أخضر وأسود، لا حرب، لا سلم”، للكاتب الصحفي طاطول هاكوبيان، ترجمة د. نورا أريسيان، بيروت، 2012.

1 حوار مع هاكوبيان، 7 أيار، 2006.

2                                                                                          Tomas de Waal, p. 40:

3 حوار مع ألكسانيان، 7 أيار، 2006.

4 انتحر كادوسيف في 21 آب 2000.

 Pogroms against Armenians in Soviet Azerbaijan. Sumgait eyewitness accounts, compiled and edited by Samvel Shahmuradian, Yerevan, 1989:

5 من محضر جلسة المكتب السياسي، 29 شباط، 1988.

6 من محضر جلسة المكتب السياسي، 29 شباط 1988.

7                                                                                          Tomas de Waal, p. 37:

8 من محضر جلسة المكتب السياسي، 29 شباط 1988.

9                                                Зардушт Ализаде, Конец Второй республики.

Share This