تداعيات الداخل الأرميني على العلاقات مع الدول العربية

رغم صغر حجم وقلة عدد سكان أرمينيا، فإن للشعب الأرميني تجربة فريدة نتيجة اختلاطهم على مر العصور بالعديد من الثقافات والحضارات التي أتاحت لهم تنوعا علميا وثقافيا تمخض عنه حجم هائل من الإنتاج المعرفي المكتوب بها، الأمر الذي أدى بمنظمة اليونسكو إلى أن تختار مدينة ” يريفان” عاصمة أرمينيا عاصمة للكتاب العالمي.

وفي إطار الاحتفال بهذه المناسبة، عقد مركز الدراسات الأرمينية بكلية الآداب بجامعة القاهرة مؤتمره الدولي الخامس تحت عنوان “أرمينيا وحوار الحضارات.. خمسة قرون من العطاء الطباعي” تحت رعاية د. حسام كامل، رئيس الجامعة، بالاشتراك مع سفارة جمهورية أرمينيا بالقاهرة، وذلك لتأكيد قيمة الحوار بين الحضارات في التقارب بين الشعوب مقابل ما روج له هنتنجتون من نظرية صراع الحضارات.

افتتح سفير أرمينيا بالقاهرة آرمن ميلكونيان المؤتمر، مؤكدا عمق العلاقات بين مصر وأرمينيا، وأوضح السفير أن الهدف الرئيسي من حوار الحضارات هو التقارب بين الشعوب، بغض النظر عن التمايزات العرقية والدينية، بما يجعل التعايش بين الشعوب المختلفة سهلاً. وأشار إلى أن الأرمن يواجهون مظاهر متكررة للتعسف والعنصرية التي ينبغي ألا يكون لها مكان في عالمنا المعاصر، ولكن الحوار الحضاري المخلص هو المستقبل للجميع.

وأكد د. محمود علاوي، رئيس مركز الدراسات الأرمينية بآداب القاهرة أنه على الرغم من صغر جمهورية أرمينيا وضعف إمكانياتها، وتعرض شعبها لصنوف من الأحداث المؤسفة، فإن شعبها قد تغلب على كل ذلك، وأثبت أنه شعب محب للثقافة والكتاب، فقد شرع الشعب الأرميني في الطباعة منذ خمسة قرون، ووضع هذه المهنة السامية في متناول يد الإنسان.

تأثير الإنتاج المعرفي في الثورة الأرمينية:

أكدت الباحثة مروة فوزي أن الصحافة لعبت دورا في تصاعد الثورة الأرمينية، قائلة: مثلت الصحافة الأرمنية إطلالة مهمة لعرض القضية الأرمنية، وأسهمت في شكيل الوعي القومي للأرمن، سواء في الدولة العثمانية، أو روسيا القيصرية.

وأضافت أن الصحافة الأرمينية تعد ركناً حياً وجزءاً لا يتجزأ من النهضة الأرمينية، حيث عبرت عن معاناة الأرمن وتوجهاتهم السياسية، وأسهمت بشكل كبير في تفعيل الوعي السياسي الثوري لديهم. وبالتالي، فقد كان هناك علاقة تأثير وتأثر بين الصحافة والحالة السياسية في أرمينيا، حيث قامت الصحافة بدور حاسم في تصاعد الهوية القومية لدى الأرمن، كما أصبحت الصحافة أحد إفرازات القضية الأرمينية، ولسان حال الشعب الأرميني للتعبير عن معاناته أمام الرأي العام الأوروبي، وكسب تعاطفه تجاه حل قضيتهم.

وفي السياق نفسه، أكد علي ثابت صبري، باحث التاريخ بآداب الإسكندرية، أن الإنتاج المعرفي للأمم يلعب دوراً محورياً في عملية المخاض الثوري بها. وأضاف أن اختراع جوتنبرج للطباعة مثل نقلة نوعية في مجال نشر المعرفة وتداولها بين قطاع ليس بالصغير في الأمم، بعدما كانت تقتصر عملية تسجيل الإنتاج المعرفي على المخطوطات، الأمر الذي قصر الاطلاع عليها من قبل فئات معينة. مشيرا إلى أنه منذ ذلك الوقت، أدرك الأرمن أهمية استخدام هذا الاختراع في نقل ذخائر من الإرث الثقافي والحضاري الأوروبي القديم والحديث إلى أمتهم، ومحاربة ذوبانهم في خضم الفسيفساء من شعوب الدولة العثمانية، والحفاظ على هويتهم وتاريخهم. وبالفعل، فقد تمخض عن الحركة الثقافية والتعليمية التي أحدثتها الطباعة الأرمينية جيل واع ومثقف أخذ يتدرج في منظومة الدولة العثمانية إدارياً وسياسياً، حتى أضحوا عنصراً مميزاً داخل الدولة.

وأضاف الباحث قائلا إنه مع عوامل الضعف التي هزت الكيان العثماني في النصف الثاني من القرن 19، وظهور الحركات القومية في البلقان، وحصول بعضها على الحكم الذاتي، أدرك الأرمن أنهم ليسوا أقل من هذه الشعوب التي سعت وراء استقلالها. وحمل الجيل الذي أفرزته الحركة الثقافية الواسعة جراء نهضة الطباعة لواء المطالبة بالاستقلال، الأمر الذي تجلى معه دور الإنتاج المعرفي في تشكيل الهوية الأرمينية.

أبعاد العلاقات العربية– الأرمينية:

تطرق عدد من الباحثين إلى تاريخ العلاقات العربية- الأرمينية، فأشارت د. ميرفت فوزي إلى التلاقح والتفاعل بين الثقافتين العربية والأرمينية، والذي يمتد إلى عهود سحيقة، ونتج عنه تطور في ميادين عديدة. مؤكدة أن الانتماء في بيئة جغرافية مشتركة “الشرق الأدنى” مكن الشعبين من التعارف والتقارب، وشارك العديد من الأرمن العرب بشكل فعال في مجالات العلوم والفنون والموسيقى.

وتناول  د. ماجد عزت إسرائيل الطباعة الأرمينية في مدينة القدس، فأشار إلى أـن مدينة القدس واحدة من بين آلاف المدن التي تأثرت بتطور الطباعة الأرمينية على يد الجالية الأرمينية التي استقبلتهم القدس بعد نزوحهم إليها من أرمينيا ومصر، مؤكدا أنهم اشتهروا بترابطهم وتواصلهم العرقي، وحفاظهم على العادات والتقاليد الخاصة بهم، وساعدهم في ذلك ارتباطهم بالكنيسة الأرمينية، وحبهم للتملك والاستقرار، وتميزهم في أنماط النشاط الاقتصادي.
بينما تطرق د.محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ بآداب عين شمس، إلى العلاقات بين الأزهر الشريف والأرمن، فأشار إلى الدور المحوري للأزهر في التاريخ الإسلامي الحديث والمعاصر، والذي لم يقتصر دوره على النواحي الدينية فحسب، ولكنه امتد إلى شتى الميادين، كما أنه لم يهتم بالمسلمين فقط، بل طال الجماعات غير الإسلامية مثل الأرمن.

ورصد الباحث دور الأزهر الشريف في التفاعل مع القضايا التي تمس الإسلام على نحو ما جرى في الأناضول وقلقيلية خلال أبريل 1909 من أحداث شهدت صراعاً دموياً، وتدميراً شرساً تمخض عنه خسائر بشرية ومادية جمة، نتيجة لسيطرة جدلية الشريعة والدستور بالمجتمع آنذاك، مشير إلى أنه منذ إعلان إعادة العمل بالدستور العثماني في 1908، ثمة سحب تطايرت من الأستانة إلى الأقاليم بأن المسيحيين هم المستفيدون فقط من الدستور، وغايتهم إلغاء الخلافة الإسلامية. علاوة على ذلك، ثمة إشاعة بأن أرمن أضنة يسعون إلى إقامة مملكة أرمينية مستقلة، مستعينة بالتدخلات الأجنبية. وفي هذا الجو، أفتى مفتي أضنة بأن الإسلام يبيح إراقة دم المسيحيين.

وأضاف الباحث قائلا: من هنا كان دور الأزهر بالاعتراض علانية على توظيف الدين السمح بهذه الكيفية النكراء، وكان ثمة انتقاد حاد لاستغلال الدين ضد الإنسانية، وقامت حملات لجمع التبرعات لمنكوبي الأناضول. وناشد الأزهر، ممثلاً في شيخه آنذاك “سليم البشري”، ألا يجعل المسلمون للعصبيات الجنسية والعنصرية سلطاناً عليهم، فإن هذه حمية الجاهلية التي يردها الإسلام ولا يقبلها.كما رصد د. سيد عشماوي، أستاذ التاريخ الحديث بآداب القاهرة، دور المتصوفة الأرمن وغيرهم في مصر محط المتصوفة الذين وفدوا إليها من الخارج.

بينما تناول د. نبيل حنفي محمود، أستاذ الهندسة بجامعة المنوفية، في أطروحته الإسهام  الحضاري للأرمن في مصر المملوكية في شتى المجالات، قائلا: فبينما اقتصر دور البسطاء من الأرمن في مصر على ممارسة ما يتقنون من حرف ومهن تكفل لهم مصادر الرزق، فقد عمل الأعلام منهم في دواوين الدولة، وبلغ البعض منهم مراتب النخبة الحاكمة، مما ترتب عليه تنوع إسهاماتهم الحضارية في المجتمع المصري خلال تلك الفترة.

ورصد سامح الجارحي، معيد بقسم اللغات الشرقية بآداب القاهرة، في ورقته دور الأرمن في الدولة العثمانية التي قدر لها أن تكون دولة مترامية الأطراف تحكم شعوباً وأقواماً غير متجانسة ومتمايزة. مشيرا إلى أنه من بين هذه القوميات الفاعلة في الدولة العثمانية الأقلية الأرمينية التي كان لها دور كبير في انتشار هذه الخلافة فى أطراف مترامية من العالم، فتفوقت الحضارة العثمانية على الحضارات الأوروبية المعاصرة لها في شتى مناحي الحياة. فقد كان من الأرمن فنانون، وأدباء، وشعراء، ومعماريون، ورسامون، وعلماء، وكان لهم دور رئيسي في الازدهار الحضاري والعلمي والأدبي الذي اتسمت به الدولة العثمانية.

الأرمن من الداخل.. مؤثرات اللغة والهوية:

أشار د. يوسف عبد الفتاح، أستاذ الدراسات الشرقية بكلية دار العلوم، إلى الظروف التي يتميز بها الأرمن عن سائر الجاليات، حيث تعرضت أرمينيا لموجات متتالية من الغزو من جانب الفرس، واليونان، والرومان، والعرب، والتتار، والكرد، والروس، مما أسفر عن بعثرتهم في بلدان العالم المختلفة، وأصبحوا من أكثر شعوب الأرض هجرة. وكانت هذه الظروف مدعاة لهم للتفكير فيما يربطهم برباط قوي متين، وقد كانت الكنيسة هى المنوطة بهذا الدور، ولكن لم يمنعهم اعتزازهم بحضارتهم ولغتهم من التأثر بالحضارات المختلفة، خاصة العربية، والفارسية.

وأوصى المؤتمر بضرورة التركيز على كل ما من شأنه أن يجمع بين الشعوب والحضارات، لا أن يفرقها، أو يقودها إلى الصراع، وعدم توظيف التاريخ في إحياء الجراح، واستخدامه كوسيلة لإذكاء النزاعات والتفرقة بين الشعوب. وأكد د. محمد عفيفي، أستاذ التاريخ بآداب القاهرة، أن أهمية التاريخ تكمن في التعارف، وتجاوزه آلامه لاستكمال البشرية، لا أن يعيش الإنسان حبيس أزمات التاريخ.

أميرة البربري

باحثة ماجستير بكلية الإعلام، جامعة القاهرة

Share This