التاريخ القديم للشعـب الأرمني (2)

Urartu-map-Tushpaوإلى نهاية القرن الثالث عشر ق.م تعود بعض النصوص الآشورية التي تطلق على أورارتو اسم “بلاد نائيري”، أما الأورارتيون فكانوا يطلقون على أنفسهم أيضاً اسم “بياني”، وهو اسم مرادف لبحيرة فان.

وقد مد الملكان الآشوريان توكولتي نينورتا الأول (1243-1207ق.م) وتغلات فلاصر الأول (1112-1074ق.م) سيطرتهما على مملكة أورارتو، وخاصة بعد انهيار الامبراطورية الحثية في بداية القرن الثاني عشر ق.م…

في مطلع القرن التاسع ق.م سجلت مملكة أورارتو تنامياً في قوتها، فاصطدمت من جديد مع الآشوريين، وكان ذلك في عهد الملك الآشوري آشور ناصر بال الثاني (884-859ق.م)، الذي سيّر حملة وصلت إلى بحيرة أورميا في أرمينيا، فأعلن أنه أخضع 250 مدينة نائيرية…وفي عهد الملك شلمنصر الثالث (858-824ق.م) تذكر النصوص الآشورية أن هذا الملك دمّرالمدن الأورارتية – ومنها العاصمة أرزاسكو- وأسر ملكها الأول “آرامو” أو “آرامه” (880-844ق.م)…وبعد سنوات قام شلمنصر الثالث بمهاجمة أورارتو ثانيةً وذلك في عهد ملكها الثاني سردوري الأول، فدمّر عاصمتها الجديدة توشبا الواقعة على الضفة الشرقية من بحيرة فان.

وفي عهد الملك الأورارتي أرغيشتي الأول (785-753ق.م) قام الجيش الأورارتي بمهاجمة مملكة آشور وأسر عدد كبير من الآشوريين (حوالي 20000)…أما في عهد الملك الأورارتي سردوري الثاني (753-735ق.م) فقد جرت معركة سنة 743ق.م بين الآشوريين والأورارتيين في شمال سوريا، حاصر فيها الملك الآشوري تغلات فلاصر الثالث (745-727ق.م) مدينة أرباد القريبة من حلب، والتي كانت متحالفة مع الأورارتيين، فسقطت المدينة، ثم تابع الزحف بعد سنوات إلى أورارتو وحاصر العاصمة توشبا عام 735ق.م، دون أن يتمكن من اقتحامها…

في عام 714ق.م تجددت الهجمات على أورارتو في عهد الملك الآشوري سرجون الثاني (722-705ق.م)… ومنذ ذلك التاريخ بدأت تجتاح أورارتو قبائل السيمريين والسكثيين من البحر الأسود ومناطق باكو، فتم احتلال أورارتو عام 652ق.م، وفي عام 612ق.م تمت هزيمة هذه القبائل على يد التحالف الميدي البابلي الأورارتي الذي أسهم أولاً في القضاء على الامبراطورية الآشورية، ثم القضاء على المملكة الأورارتية من قبل الميديين والفرس، لتدخل أورارتو تحت حكم الفرس الاخمينيين بدءاً من عام 550ق.م، وهو تاريخ بدء تشكل الدولة الأرمنية باسمها الجديد…

ويجدر بالذكر أن مملكة أوراتو وخلال ثلاثة قرون تبدأ بالقرن التاسع ق.م، كانت قد سيطرت على مناطق واسعة في الشرق القديم امتدت غرباً حتى الفرات وشرقاً حتى بحيرة أورميا وشمالاً حتى القوقاز، وشمال سوريا جنوباً…وذلك بالرغم من حالة الحرب المسجلة بينها وبين الامبراطورية الآشورية. إن حالة الحرب هذه لا تعكس عداء قومياً بين الأرمن الأورارتيين والآشوريين، فتاريخ الآشوريين كان قد وصلنا عبر كم هائل من أخبار الحملات العسكرية التي تنطوي أولاً على التباهي والتفاخر والمبالغة في الحديث عن إخضاع الدول المستهدفة، فنرى في نصوص الحملات حديثاً مثيراً عن تدمير مئات المدن وإحراقها، ودك الحصون والمعاقل، وفرار الملوك إلى قمم الجبال وإغراق أفراد الجيش المهزوم في البحار والأنهار وبرك الدم، وأسر الآلاف منهم… ولكن من جانب آخر، نرى أن الحياة تستمر بعد ذلك في الدول المستهدفة، وكأن شيئاً لم يكن، مما يشير إلى أن طابع الخشونة العسكرية الآشورية إنما هو أسلوب أدبي أكثر من كونه حقيقياً على أرض الواقع.. وهذا الأسلوب استعاره الملك الأرمني الأورارتي أرغيشتي الأول حين تحدث عن غزوه لآشور وأسر عشرين ألف آشوري، وكأن الموضوع هو حرب نفسية إعلامية…من ناحية أخرى كانت هناك لغة عتاب بين الطرفين تنفي تماماً وجود حالة عداء قومي، ونلمس ذلك من رسالة أحد حكام أورارتو إلى الملك الآشوري حيث يقول له بلغة الصداقة:”نحن أصدقاء فكيف تسلب مني قلاعي؟!…وبالمقابل تعرف أنني إذا اجتزت حدودك يوماً فسأعتذر…!”.

إن الحملات الآشورية المذكورة على المملكة الأرمنية الأورارتية، إنما كانت ترافقها حملات على الساحل السوري الكنعاني الفينيقي [نفس الحملة..قسم منها يتجه إلى أورارتو، وقسم إلى الساحل السوري]، ونرى في أخبار تلك الحملات نفس الأسلوب من الخشونة في الوصف، وبالمقابل فإن حالة السلم على الأرض كانت أوضح [على سبيل المثال كانت جزيرة أرواد هدفاً للحملات العسكرية الآشورية في الوقت الذي كان يحضر فيه الملك الآشوري حفلات تتويج ملوكها، وفي الوقت الذي قام فيه حرفيون وملاحون أرواديون ببناء أسطول نهري للآشوريين…!…تماماً كما استعان الآشوريون بخبرة الأرمن القدماء في مد قنوات الري في المنطقة.

ونقصد أن نقول إن المنطقة من شواطئ بحر قزوين إلى شواطئ المتوسط مروراً ببحيرة فان وآشور وبابل وسوريا كلها كانت منطقة حضارية واحدة، قامت دولة آشور فيها بدور الحارس القوي في الألف الأول ق.م، وإذا بحثنا عن الدور الفعال الحقيقي للآشوريين في المنطقة فهو الحفاظ على وحدتها الحضارية، من خلال نقل بعض القبائل الغريبة عن المنطقة إلى ما وراء بحار العالم القديم.

وحالة الحرب المبالغ فيها بين الطرفين الآشوري والأرمني كانت تقابلها حالة سلم وتأثير حضاري متبادل واضح على الأرض، مثلاً مشاريع الري الأرمنية التي أدهشت الآشوريين فباتت جزءاً من مكونات الأساطير المتعلقة بهم، كأسطورة الملكة الآشورية سميراميس…ومن ملوك الآشوريين الذين استفادوا من خبرة الأرمن الأورارتيين في مد قنوات الري وشبكاته، الملك سنحريب (705-681ق.م) ففي عهده استُجرت المياه من جبال تاص الأورارتية إلى مدينة نينوى عبر قناة طولها 60كم، وذلك بحماية آلهة الخصب…وما يجدر ذكره أن الباحثين لا يميزون بسهولة بين ما هو آشوري في أرمينيا وما هو أرمني في آشور من الآثار المتبقية كالمنحوتات المختلفة والنصب والمسلات، وخاصة تلك التي تملأ المنطقة الواقعة بين أرمينيا وآشور، وتحديداً بين شواطئ بحيرة فان ومدينة نينوى…

ونختم بالحديث عن أرمينيا في القرون الستة الأخيرة التي سبقت ميلاد السيد المسيح وذلك من خلال استعراض موجز نركز فيه على حكم الملك ديكران الثاني الكبير (94-55ق.م) الذي لقب بملك آسيا لعظيم، والذي وحّد أرمينيا الكبرى، وأسس امبراطورية مترامية الأطراف بلغت مساحتها 700000كم مربع (من بحر قزوين شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً، ومن القفقاس شمالاً إلى كيليكيا ثم فلسطين جنوباً مروراً بالمدن الفينيقية كصور وصيدا)…وبذلك يكون الملك ديكران الثاني قد حقق معادلة الأنهار النابعة من قلب أرمينيا والواصلة بينها وبين أهم مناطق الشرق القديم.

لكن عوامل الضعف دبت في أرمينيا في عهود خلفاء ديكران الثاني، وآل الموقف لروما التي فرضت على أرمينيا حكاماً أجانب بدءاً من مطلع القرن الأول ق.م.

وهكذا انتهى مشروع ديكران الثاني الذي استمر قرابة ربع قرن في الشرق القديم، بعد أن سلط الأضواء على الوحدة الحضارية الحقيقية بين أبناء الشرق، وأثبت ارتباط الحضارة الأرمنية بتاريخ الشرق القديم منذ عصور ما قبل التاريخ، وما يميز أرمينيا عبر تاريخ الشرق –وعلى اختلاف تسمياتها عبر العصور- هو حضورها المتميز وبدون انقطاع في كل المراحل التي شهدت ولادات الشرق القديم ومخاضاته، وفي النهاية يجب أن نحث على العمل من أجل تاريخ موحد لأرمينيا، يضم إليه شتات الجغرافيا قبل معطيات التاريخ.

الدكتور ابراهيم خلايلي
باحث مختص بتاريخ الشرق القديم وآثاره،
مدير متحف دمشق التاريخي حالياً

Share This