الأرمن والأزهر الشريف

الدكتور محمد رفعت الإمام

في يوم الجمعة الموافق 19 أغسطس 1921 نشرت جريدة ” الأخبار” علي صفحتها الثالثة هذا الخبر (جاءنا من مشيخة الجامع الأزهر ما يلي: تفضل جناب المحسن الكبير الخواجا كرابيت ملكونيان من مشاهير التجار الأرمن بمصر فتبرع بأمواله الطائلة للشعب الأرمني وخصص منها خمسة آلاف جنيه للأزهر الشريف علي أن يشتري بها عقار يوقف علي الطلاب الفقراء بالجامع الأزهر المعمور. وقد حضر إلي المشيخة في يوم الخميس 11 أغسطس 1921 وفد مكون من جناب الخواجا موشغ سروبيان بالتوكيل عن صاحب الغبطة بطريرك الشعب الأرمني وجناب مدير فبريقة الخواجا كرابيت وواحد من أعيان الأرمن وقدم للمشيخة خطابا بشان التبرع ممهورا بتوقيع جناب الخواجا موشغ سروبيان بصفته المذكورة).
(فالمشيخة تعلن أطيب ثنائها وأوفر شكرها لجناب الخواجا كرابيت علي ماانطوت عليه نفسه الكريمة من السجايا الفاضلة وأن التاريخ كفيل بتسطير هذه الأريحية لمسديها بمداد الفخر لتكون مثالا يحتذي لأهل البر والخير علي مر الأيام وكر الدهور.
وسترسل مشيخة الأزهر وفدا من قبلها لتقديم خالص الشكر لجناب هذا المحسن الكبير وتسليمه جوابا بالشكر أيضا حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر. أكثر الله من أمثاله وأدام مبراته وأعماله النافعة).

وقفت كثيرا عند هذا الموضوع . وطاف بمخيلتي تساؤلات حائرة. هل كان الأزهر ” المعمور” في حاجة إلي هذا التبرع ؟..إن أوقاف الأزهر ” عامرة” منذ دولة الفواطم (696- 1117) . وبدوران عجلة الزمن إلي الأمام، تنامت هذه الأوقاف، بل وتزايدت إذن ، لماذا قبل الأزهر- درة تاج العالم الإسلامي- تبرعا من أرمني مسيحي بكل هذا الترحاب والعلانية؟
وعلي الجانب الآخر : لماذا تبرع الخواجة الأرمني لطلاب العلم بهذه الجامعة العريقة؟ هل من باب الدعاية ؟..من يقلب جميع الجرائد والمجلات المعاصرة ، يكتشف أنها لا تخلو من إعلان يومي عن (محل ك. ق. ملكونيان بمصر: معمل الدخان الشرقي والسجاير المصرية) علي مدار أربعة عقود منذ تأسيسه في الإسكندرية عام 1882 . هل طبيعة نشاط الرجل ومركزه في السوق؟..تحريم الدخان وإباحته علي خلفية حملات صحفية ضد التدخين (التدخين ضار جدا بالصحة) مما سيؤثر سلبيا علي خزينته..لم يكن الرجل (محتكر الصنف)؛ إذ تفوق عليه آل ماتوسيان متعهدو جيش الاحتلال وتفوق اليونانيون عليهما..وتفوق الأوروبيون عليهم جميعا: الشركة الشرقية للدخان منذ عام 1921.

ولذا، يبقي السؤال مطروحا: لماذا تبرع الخواجة؟ ولماذا قبلت المشيخة؟ ..الأمر -ببساطة – لا يعدو أن يكون ” لمسة وفاء” إزاء كرم مصر ومكارم أهلها، وبإحساس فطري ووعي وطني، اختزل الرجل مصر في (الأزهر المعمور): رمانة ميزان المسلمين وأهل الكتاب، وبؤرة المصريين جميعا في وطنيتهم .

Share This