قصة عائلة أرمنية في رواية مصرية “الخدعة الأرمنية”

أحمد مجدي همام

ضع نفسك مكاني، تذهب الى القسم لتحرر محضراً بسبب موبايلك الغالي الذي اختفى فجأة، تجد لغطاً في مكتب الضابط، تلحظ حركة غير عادية، وتسمع أصواتاً عالية ومختلطة، فيتملكك الفضول، تحاول أن تسأل أقرب واحد واقف جنبك، فيشيح عنك ويتجنبك، تقول لنفسك ما زالت لأقسام الشرطة هيبتها، بينما تحملق في الجانب المزدحم أملاً في معرفة نوع المصيبة التي سببت ذاك الازدحام. تلمح امرأة خمسينية على الأرجح، وهي تشق التجمهر حولها، مذهولة، ودموعها في عينيها، تنظر اليها ثم تنظر الى الضابط وأنت ستُجنّ لتعرف لماذا يبدو غاضباً هكذا، تنظر اليها مجدداً ثم تميل على آخر لتسأله (هو في إيه؟)، يتفرّس فيك من فوق لتحت، يقرر أن شكلك فاهم وابن ناس، ثم يهمس بتحبب: «الست المجنونة دي عايزة تعمل محضر لجارتها لأنها تصدّر لها طاقة سلبية»!

ماذا ستفعل؟

وأنا كاتب، لا وظيفة لي ولا صنعة، أقتات على الكلمات، وأتعيّش من اصطياد مثل تلك النوادر، أتلصص عليها، أحفظها، أعتّقها، أعمّقها لأوظفها في قصة أو فكرة رواية أو مقال. ولذلك كان عادياً جداً أن أنسى موبايلي الملطوش، وأنسى المحضر، وطبيعياً جداً، أن أجد نفسي أخرج خلفها من قسم الهرم، وأتعقبها…

بعد شهرين، كانت ميرفت… أو لماذا بعد شهرين؟ فلنرجع إلى أصل الحكاية، بعدما خرجت وراءها من القسم، أردت أن أتكلم معها بأي شكل، وذلك العفريت القزم الذي بداخلي بدأ يشاكسني، قال: لن تعدم طريقة لتكلمها. لذلك ما إن برَكَتْ على الرصيف، لتواصل بكاءها الصامت، دخلت عليها دخلة الجنتلمان، هدّأتها بكلمتين، ونعتت الناس في القسم بالغجر والبهائم، عرضت عليها توصيلها، وأعطيتها منديلاً لتمسح دموعها، والعمة المكلومة، قبِلت بدورها، بمزيد من النشيج المكتوم، يدي الممدودة بالخير.

حكت لي في الطريق عن أم سيد، جارتها الدنيئة، التي تكسر خاطرها كلما رأتها، وتعكِّر أيامها، فمرة وزنك زاد يا ميرفت، ومرة تؤلب عليها زوجة البواب لتطلب مبلغاً أكبر مقابل غسيل السجاد، بل وصلت بها الخسّة أن تسخر من أصولها الأرمنية، وتقدم لها في عيد حفيدها، القرد الصغير، فطائر الكورواسون، التي تشبه هلال الدولة العثمانية، في تلميح فج وغير حضاري، لمذبحة ارتكبها العثمانيون في حق أسلافها.

(أنا تعبت منها… بجد تعبت)! قالت ذلك وغاصت في نشيجها المكتوم.

طبعاً أنا اعتبرتها لقطة… شخصية روائية بامتياز، بوسعي أن أكتب عنها رواية ضخمة، بوسعي مثلاً أن أتتبع تاريخها منذ جدّها الرابع، المولود في مدينة أضنة التركية، وصاحب مصنع البيرة الشعبية. متعقباً بداية المذابح عام 1894، اذ أخذ حال الأسرة في التدهور، وصولاً الى جدّها لأبيها، ستيبان ميخيتاريان، العضو النشط في حركة الطاشناق الثورية، والذي قُتل في المذابح عام 1916 وصُلِب وهو ما حدا بأسرته للفرار. لستيبان هذا ولدان وبنت، الابن الأصغر، هو والد ميرفيت ميخيتاريان، والذي كان في تلك الأيام طفلاً لا يتجاوز التاسعة، لم يكن يعرف لماذا تبكي أمه، وأين اختفى أبوه وبعض أبناء عمومته؟ لا يذكر هاغوب الصغير من تلك السنوات سوى رحلات طويلة في الجبال والصحارى، رحلات استغرقت شهوراً، من أضنة إلى بهجي، إلى عنتاب، إلى الإسكندرونة، مسيرات طويلة، هلك أغلب من كانوا فيها، مخلفين في ذاكرته الطرية، مشاهد متفرقة ومضببة.

وصلت أسر قليلة من المسيرة الأرمينية، إلى حدود بادية الشام الشمالية، فعبروها إلى حلب، مخلفين وراءهم كل ما كانوا يملكون من الأحباء، لا يحملون إلا جلودهم. يحملون جلودهم! يبدو هذا التعبير ركيكاً بالنسبة الى كاتب واع مثلي.

نرجع الى موضوعنا، في حلب، كانت الاستراحة الأولى، ثمانية أشهر، فبفضل النخوة الشامية التي جعلت الحلبيين حريصين على إخفاء الأرمن الهاربين من القوات العثملية، وبفضل تمرس آل ميخيتاريان في التخفي وتحمل الصعاب، أفلتت العائلة من مصير مجهول، ولم يخسروا سوى أحد أعمام ميرفت، هلك في الجبال قبل وصولهم إلى الإسكندرونة. لكن رغم ذلك، لم تكتف العائلة الفارّة بالتواجد في الشام، كانوا يدركون أن قرب المسافة بين أضنة وحلب هو ما ضمن لهم النجاة، وعليه، قرروا أن يمضوا جنوباً لأبعد مسافة ممكنة، فمكثوا في المدينة لشهور، جمعوا فيها قدراً من المال، بالعمل في صنعتهم التاريخية، ثم هوووب، فص ملح وذاب، اختفى آل ميخيتاريان فجأة من المدينة كأنهم لم يكونوا أصلاً، مضوا بالليل، إلى إدلب، فمعرّة النعمان، ثم حماة، ومنها إلى حمص، قبل أن يصلوا سهل البقاع اللبناني، في رحلة استغرقت شهراً وأكثر وتم لهم بعد أربعين يوماً من الاختفاء العظيم، الوصول إلى بيروت بسلامة الله.

بوسعي أيضاً، أن أرصد رحلة هاغوب ميخيتاريان، من بيروت إلى الإسكندرية، على باخرة سان بيزيرتا، في أواخر 1928، فالابن الأوسط للمناضل الأرميني ستيبان ميخيتاريان، وصل بيروت مع أمه وأخويه منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، لكن الأم سرعان ما ذوت وماتت، ليتم إيداع هاغوب وشقيقه الأكبر وارتان في ميتم دير بزمار للأرمن الكاثوليك، بينما التحقت أخته فاهه بميتم عشقوت للفتيات الأرمنيات. هكذا تفسخت الأسرة، وغابت أخبار فاهه عن هاغوب وأخيه، قبل أن تقرر الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية في 1922 إدماج مؤسستي بزمار وعشقوت في حي الأشرفية في بيروت، في مبنى «كيلكيان – سيسوان» والذي كان في ما مضى مدرسة يهودية. بعد سنوات، ولما غادر هاغوب ميتم بزمار، كان القرار واضحاً في باله، لن يعيش في بلد تستضيفه كمسكين يستحق المعونة، كان بحاجة الى بداية جديدة، تغنيه عن سنوات البؤس والقشف، فقرر بعد ثلاثة أعوام من العمل والدراسة، السفر إلى مصر، الإسكندرية تحديداً، ولو وحيداً، بعدما فضّل أخواه الاستقرار في بيروت، إذ طاب لهما العيش هناك، وأسسا أسرهما. فسافر هاغوب إلى الإسكندرية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1928 بعد مراسلة بعض الأسر الأرمنية المستقرة فيها..

وإسكندرية الثلاثينات والأربعينات، فضاء مكاني جذاب، وأنا لو كتبت رواية عن ميرفت ميخيتاريان، كنت سألغمها بقصص حب سكندرية، وأعبقها برائحة يود البحر، كنت سأغزلها غزلاً في المجتمع الكوزموبوليتاني، خذ عندك مثلاً، هاغوب فور وصوله الى الإسكندرية، وفرت له رابطة الجالية الأرمنية عملاً في محل الصائغ أوهان صاروخان. وبعد سنتين من الإقامة في عروس المتوسط، تزوج هاغوب من فاتنة أرمنية اسمها آرتين، وأنجب منها فاهه وستيبان وميرفت ووارتان، الذي اعتاد أقرانه المصريون على مناداته وردان.

نعم، كنت سأكتب كل ذلك في روايتي، وأكثر، كنت سأجعلهم يمنحون آل هاغوب ميخيتاريان الجنسية في 1957، وسأحكي كيف كبرت ميرفت في أسرة متماسكة، تحب الحياة، وكنت سأصف علاقتها بإخوتها، ورومنطيقيتها المفرطة التي قادتها للتورط في قصص حب فاشلة متعاقبة، وكيف مضى بها الحال إلى أن تعيش عجوز منسية في شقة في ميدان الجيزة، بعدما هاجر ولداها إلى كندا، كنت سأذلّها وأتلاعب بها، لم يمنعني من ذلك إلا حاجتي للجلوس معها، والتعرف عليها، والاقتراب من طريقها من مجتمع الأرمن في مصر، وربما اصطحابها في رحلة إلى أرمينيا، وزيارة المتاحف والنصب التذكارية التي تخلّد المذبحة، أو ربما كنت سأصحبها إلى أضنة، كنت أحتاج لمصاحبتها الليالي المتواصلة، لأدقق عن كثب، وأتمعّن، وأفهم من هي ميرفت ميخيتاريان. لكنني للأسف لم أفعل ذلك، أهدرت فرصتي، واكتفيت بتوصيلها إلى شقتها، فقط أخذت رقم هاتفها، لأتصل بها وأطمئن عليها، وهو الأمر الذي لم يحدث أبداً.

  • فصل من رواية تصدر قريباً عنوانها “تمرين أولي على الكتابة”.
Share This