مذابح الأرمن موضوع مسرحية سورية

“المرود والمكحلة” تفتتح عروضها على مسرح الحمراء

يؤكد الفنان عروة العربي في عرضه الجديد “المرود والمكحلة” على إمكانية الخروج من سطوة النصوص القديمة نحو أشكال مسرحية جديدة ليراهن مجددا على فعل اللهجة وقدرتها على ابتكار الحركة على خشبة المسرح وصولاً إلى خصوصية إبداعية تسعى لتأصيل الفن المسرحي العربي على الأقل في الشكل الإخراجي وأصالة الحكاية السورية.

من هنا لم تتردد مسرحية “المرود والمكحلة” لكاتبها عدنان عودة التي افتتحت عروضها أمس على مسرح الحمراء بالذهاب أكثر خلف ملحمة سورية بامتياز بدأت عام 1917 بمذبحة الأرمن في جبال أرارات على يد العثمانيين لتتقاطع مع حكاية شاب سوري كردي يصادف أخته من أمه في ليلة من ليالي دمشق بعد سنوات طويلة من حكاية بدأت من جبال آرارات جارفة معها دماء الأرمن الذين قضوا في مجزرة يصنفها الباحثون على أنها الأبشع في تاريخ الإنسانية.

وتقطع الملحمة السورية مسافة طويلة في السرد المشهدي للمخرج عروة الذي قدم حلولاً لافتة على خشبة الحمراء في التعامل مع كم متنوع من البيئات السورية الكثيفة للنص فالأحداث تدور وفق تقطيع ضوئي متواتر بين خمسة أماكن من سورية لتستوعب كل جدران البيوت الطينية في الرقة وحمص وخيام البدو في الجزيرة السورية وقوارب الصيادين في نهر الفرات وصولاً إلى بيوت العاصمة دمشق على سفح جبل قاسيون في وقتنا الراهن.

هكذا يتفوق العربي في عرضه الجديد على مساحة واسعة وبحضور كبير للجمهور الذي غصت به صالة مسرح الحمراء حيث يقدم “المرود والمكحلة” لجمهوره مناخات مختلفة للفرجة واضعا إياه أمام مونتاج حركي لحكاية متحركة وعبر جهد جماعي على مستويات متعددة من البيئة السورية والتنويع إلى ما لا نهاية بين هذه المستويات التي تقتحمها قصص الحب منذ اللحظة التي يقوم فيها أحد رجال عشيرة الفدعان “فواز” بالعثور على الطفل “كريكور” الناجي الوحيد للتو من مذبحة أهله الأرمن. ‏

ويدمج كاتب “المرود والمكحلة” بين لهجات الأمكنة السورية التي تتنقل عليها أبطال حكايته من غير أن يقع في أزمة وسائل الإيضاح التي تتطلبها الحبكة الدرامية للنص ليرسخ مخرج العرض فهما أكثر جمالية عبر توليف أنيق ولافت لمجاميع ممثليه في عمق المسرح وجوانبه في ذهابات وإيابات عاشها الممثل وفق أجيال متجاورة لتبدو عليهم ضراوة الأمثلة التي يقومون بتشخيصها وليكون هذا الحل شرطيا لمضمون قدمه أداء الشخصيات بصيغته النفسية الواقعية وهذا ما كان في صالح ميزانسين المنصة الذي استفاد من حركة هذه الشخصيات على أرض الخشبة جنباً إلى جنب مع موسيقا “آري جان سرحان” على البزق والياس عبود إيقاع وبمرافقة صوتية للفنان حسين عطفة الذي قدم نصاً موازياً عبر أدائه الغنائي اللافت وعزفه على آلة البيانو والذي ساعد في تطوير الذروات الدرامية على الخشبة حيناً ورافقها حيناً أخرى.

واستطاع مخرج العرض تقديم مشروعه الجديد عبر إنتاج إبداعي للأحداث التي ترجع إلى ثمانين سنة خلت من عمر السوريين أي في خضم أحداث الحرب العالمية الأولى دون أن ينسى كل من كاتب العرض ومخرجه الصياغات الجغرافية والديموغرافية للأرض السورية فالمرحلة التي بدأ منها العرض عام 1917 كانت ذروة من ذروات الدعوة القومية العربية التي طالبت بتأسيس ولايات عربية مستقلة لها برلمانها وحكومتها ولغتها العربية مستقلة بذلك عن حكم عثماني رسخ الجهل والتخلف والجهل والمرض وما تعرض له رواد تلك المرحلة من قمع واضطهاد وصولاً إلى إعدامات السفاح بين عامي 1915-1916 وصولاً إلى رواية المذبحة التي ارتكبها آل عثمان بالشعب الأرمني.‏

ويحاول العرض الإحاطة ببيئة المدن والأرياف السورية واحتضانها للأرمن الهاربين من المجزرة العثمانية على مختلف مستويات الأحداث وهذا يبدو مفهوما بالنسبة لعرض مسرحي غير مطالب أصلا في التوثيق لحركات التحرر والنهضة السائدة في تلك المرحلة بقدر مهارته في خلق سياقات درامية تركز على التنوع الثقافي والإثني لسكان تلك الأرياف وبادية الشام من أرمن وشركس وأكراد وفق تناغم حضاري واجتماعي يشي بثراء الديموغرافيا السورية وعبقريتها الكامنة في تطوير الحياة الاجتماعية ودفعها نحو بنية متماسكة من اللهجات والأغاني والحرف والعادات والتقاليد.

واستطاع هذا العرض منذ عتبته الأولى أن يطرح على جمهوره مزيجاً كثيفاً من الأحداث والخطوط الدرامية التي أدارها المخرج العربي بمهارة كحل درامي للمراحل التي تناولها كاتب “المرود والمكحلة” عن قدرة الإنسان السوري على التفاهم مع الآخر واستيعابه في نسيجه الاجتماعي.

ويستفيد العرض من ثراء البيئة السورية وتنوعها الفسيفسائي عبر طرافة ممزوجة بالمأساة حيث تتحول هذه النماذج إلى “كودات” مبسطة عن الواقع الذي أخذت منه وهذا بدوره سيعمل على تطوير النص الأصلي إلى صياغة عرض يغلي بشخوصه وأحداثه على امتداد ساعة ونصف من تشابكات لما يقرب من ثلاثة أجيال يولدها العودة والعربي كنوع من التحايل واللعب على قسوة الظروف وعمائها جنباً إلى جنب مع كتابة مستمرة لأداء الممثل وانفعالاته على الخشبة.

‏كما يتخذ العرض من جغرافية بلاد الشام مكانا افتراضيا للعرض على مدى ثمانين عاما كأكثر المناطق العربية تنوعا من الناحية الإثنية والثقافية إذ وجدت فيها الشرائح الاجتماعية على تنوع فرصها في التعبير عن ذاتها بأشكال مختلفة تحت وطأة الخروج من نظام “الملة العثماني” القائم آنذاك الذي ولد عند الأرمن والشركس الأكراد شعورا عميقا بالظلم والدونية حيث يقدم العرض هؤلاء في صيغتهم الثقافية المنحلة في المجتمعات العربية الناشئة وقتها على خلفية زيجات من أعراق مختلفة.

‏على مستوى آخر حقق العرض سبقاً في اللقاء الصوتي لعدة لهجات أنتجتها البيئة السورية المتنوعة ومن هنا تحدثت عامية الجزيرة والرقة مع القاف الواضحة لريف حمص وتصالحت في بداية العرض ونهايته مع المحكية الشامية لتكون الصيغة المدينية للغة العاصمة لتتجاور الشخصيات مجدداً على خشبة المسرح ووفق تقاطع بصري لافت ولأكثر من مرة أثناء التراجع في سرد الأحداث أو التقدم نحو تطور حبكة القصة حيث كانت العاميات السورية تكتسب حركيتها الخاصة بها وفق أزياء الفنان علي خليلي المنحوتة على أجساد الممثلين والمتآلفة مع سينوغرافيا الفنان زهير العربي التي قدمت فضاء رمزيا عالي الدلالة محققا حواراً جدياً بين الفضاء والشخصيات فيما قدم الفنان نصرالله سفر مستوى عاليا في فهم ميزانسين العرض وتعاقب أجياله على مسرح الحكاية.

يذكر أن عرض “المرود والمكحلة” من إنتاج وزارة الثقافة -مديرية المسارح والموسيقا-المسرح القومي، وهو من تمثيل كل من رغد المخلوف..محمود نصر..وسيم قزق..ربا الحلبي..يحيى هاشم.. حلا رجب..لوريس قزق..كرم الشعراني..يزن الخليل..نجاح مختار.. والعرض مستمر يوميا على خشبة الحمراء الساعة الخامسة مساء.

دمشق- سانا

Share This