ليس سهلاً أن تكون أرمنياً في تركيا

جرائم كثيرة ارتكبت مؤخراً ضد نساء أرمنيات مسنات في اسطنبول، أثارت كتابات، منها، مأساة عائلة يرويها الكاتب: في العام 1915، خسرنا نصف العائلة من جهة والدي. ماركار آغا، جدي، كان طحاناً في منطقة تقع بين «توكات» و«سيفاس»، على جانبي الحدود بين الاناضول الشرقية والاناضول الوسطى.

وبحسب ما تواتر عن الأجداد، فقد لعب النائب التركي حاليس آغا دوراً هاماً في حماية جدي. وبعد العام 1915، عندما كان مصطفى أتاتورك قد بدأ بأحداث في تركيا اقتضت ان يتخلّص من معارضيه وشنق النائب آغا نفسه سنة 1926. عندها قرر جدي الرحيل الى أرمينيا، من دون أن يطالب بثروته، لكن لم يستطع أبداً ان يتكيّف في أرمينيا وعاد مجدداً الى تركيا، إنما ليس الى سيباس، بل الى اسطنبول، حيث كان شعر بأنه أكثر أماناً. حينها كان قد خسر كل ما يملك في أناتولي.

ولد والدي في اليوم نفسه الذي وصل فيه والداه الى اسطنبول في أيار 1929. ومات جدي مفلساً فقيراً، بسبب استغلال النصابين لطيبته، فيما ابنه قد يبلغ السادسة من عمره فقط.
أصبح وضع والدي المادي ميسوراً لكثرة ما عمل، وخلال حياته العملية كان يدفع غالياً ضريبة اسمه، آرام إسايان، لأنه أرمني. في ذلك العصر، كان رجال الأعمال الارمن يفضلون تغيير اسمهم، وهذا ما يحدث حتى اليوم. ربما لم تكن مسألة عنصرية منظّمة مباشرة من قبل أجهزة الدولة (هذا أمر غير مؤكد). لذا كان يلزم لوالدي الكثير من الشجاعة والمسايرة لتخطي العقبات التي ولّدتها هذه الحالة.

كانت والدتي مسلمة. والدي برغم مآسيه، لم يكن يوماً أرمنياً بالمعنى القومي. كان يحب مساعدة الناس. ويفعل ذلك بسرية من دون أي تفرقة بين الارمني والتركي، المسيحي والمسلم. كل ما كان يريده هو العيش بشكل طبيعي، بأمان، وان يكون محترماً لكونه أرمنيا. وكانت هذه أيضاً أمنية جميع الارمن.

سواء كان قبل العام 1915 او بعده، لم يرد الارمن غير ذلك، ولم يكن يتمنى والدي سوى العيش في هذا البلد من دون إخفاء اسمه، من دون ان يسرق او ينهب، ومن دون أن يتعرّض للإهانة. كان يريد أن يعيش برأس مرفوع ولقد استطاع تحقيق ذلك، ولكن بأي ثمن… على رأس أكبر ثروة من ثروات المجتمع الارمني. تولّى رئاسة المنظمات التي كان نطاقها محدوداً وكل أرباحها ممسوكة من قبل الدولة، وحاول أن يحصّل منها ما كان يستطيع ان يحصّله. خاطر كثيراً بحياته عندما أوكل اليه البطريرك الارمني في ذلك العصر، شينورخ كالوستيان، مهمة استرداد مقبرة «هاليسيوغلو» الأرمنية في اسطنبول في تلك المرحلة المتوترة في أواخر العام 1970. ونجح في إعادة هــذه المقبرة الى طبيعتها الاصلية. كانت طفولتنا مؤثرة، من خلال الوقت الذي كنا نمضيه في تلك المقبرة، او عنــدما كــنا نلعب من دون أن نخاف أحياناً. كان والدي يزرع الاشجار فيما كان الفأس في يده، يطرد به الناس الذين كانوا يحاولون سرقة المدافن.

لم تتوقف والدتي أبداً عن مساعدة والدي في عمله. هو الذي خطفه في أحد الايام شخصان بلباس مدني، في كمين مسلّح. «سنقتلك» قالا له، «ولكن قبل ذلك سنأخذك الى مكان لا يوجد فيه احد». واتجها به نحو «بورصا» وتوقفا في مكان خالٍ. بعد تعذيبه، صوّبا نحوه لإعدامه، لكنهما أطلقا رصاصاً فارغاً. «ليكن هذا درساً لك» قالا له، بعدما تركاه وحيداً.
كانت الرسالة واضحة. عندما استلم والدي رئاسة المؤسسات الاجتماعية الارمنية، اصبحت هذه الاخيرة أقوى وكان هذا الوضع غير محتمل بالنسبة للاشخاص الذين يريدون تركيع الاقليات.

كان والدي رياضياً، لا يشرب ولا يدخن. غير انه تعب من التهديدات ومن استدعاءات الشرطة المتكررة له والافتراءات الكاذبة، فمرض ثم مات. لم يكن غير تاجر ارمني عادي ولم تستطع الدولة أن تنقذه.

على ضوء هذه القصـة، يجب ان ننـظر الى الذي يحـدث الآن في حي ساماتيا في اسطنبول حيث تعرّضت نساء أرمنيات عديدات للاعتداء في الاسابيع القليلة الاخيرة. في الواقع، ان الدولة التي لا تسمح لنساء مسنّات ان يمُتنَ بهدوء في فراشهن، لا تستحق ان تكون دولة. ماريتزا كوسوك، 85 عاماً، خنقت. نساء عديدات أخريات تعرّضن للضرب: أن تكون أرمنياً اليوم في هذا البلد، هو شيء خطير جداً. على عكس ما يؤكد حاكم اسطنبول: ان عمليات القتل والاعتداء ليست لسبب عنصري واثني، لكنها بدافع السرقة فقط. يصعب التصديق ان هذه الاعتداءات خالية من العنصرية. ان تكون نتيجة سياسة منظّمة او عمل افراد، لا يغيّر ذلك في شيء. ما يجب ان يحصل هو توقيف هؤلاء القتلة!
هذا البلد لن يتغير في يوم. مثل كل الناس، لا نملك سوى امنية واحدة: ان نحيا كأرمن في تركيا من دون الخوف من ان نتلقى رصاصة في القلب. نريد أن نعيش ونموت بهدوء في أسرّتنا.

ماركار إسيان

ترجمة رشا أبي حيدر عن «لو كورييه انترناسيونال» الفرنسية

السفير

Share This